غربا بإتجاه الشرق
)3 مفكرة القاهرة (
كنت فى مطار القاهرة حين حطت على مدرجها الطائرة التى أقلت كل من مستشار رئيس الجمهورية الدكتور غازى صلاح الدين، والأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان باقان أموم. و كان السياسيان القياديان قد وصلا القاهرة فى طريقهما الى الإسكندرية، تلبية لدعوة مؤسسة مو إبراهيم لحضور الاحتفال بتسليم رئيس بوتسوانا السابق فستوس موغاى جائزة القيادة الإفريقية الرشيدة لهذا العام. إرتفع حاجباى من الدهشة و أنا أشاهد الحفاوة التى اُستقبل بها باقان. كبار الرسميين المصريين يتلقونه بالأحضان ثم ينقلونه فى سيارة ليموزين الى قاعة كبار الزوار، بينما إتجه غازى، مع بقية خلق الله، ليستقل الحافلة العملاقة، المتعددة القاطرات، وقد إصطف داخلها المئات من الركاب فى طريقهم الى صالة الوصول. مصدر الدهشة أن غازى يشغل منصبا دستوريا رفيعا فى جهازالدولة، بينما لا يحمل باقان أى صفة رسمية. وهنا أبادر، أيها العزيز الأكرم، فأقول لك أن باقان و ليموزينه، وحفاوة بنى بمبة الظاهرة به، ليسوا من أغراضى. بل أن المشهد كله ربما لم يكن فى واقع الأمر مستوعبا أو مُعبرا عن المدلول الذى قد توحى به كلماتى، فمن أدرانى أن غازى لم يختر طوعا أن تحمل زيارته طابعا غير رسمى، أو أنه أغفل عن عمد إخطار السلطات المصرية بزيارته، فهذا كله وارد و معتاد فى ممارسات كثير من شاغلى المناصب الدستورية!
ثم أن المشهد فى مجمله كان قد غاب تماما عن ذهنى، حتى وجدت نفسى أطالع قطعة نثرية رائعة خطها بنان المستشار الرئاسى، فى رثاء المغفور له الدكتور عبد النبى على أحمد، الأمين العام الراحل لحزب الأمة. و من الحق الذى لا مرية فيه أن الله سبحانه و تعالى أفاء على غازى – ضمن ما أفاء عليه من فيوض نعمائه – قلما مطواعا و لسانا ذربا. و لا أذكر قط أننى قرأت غازى كاتبا أو سمعته متحدثا الا وقع منى كلامه - وافق قناعاتى أو تجافاها – أحسن الوقع. لفتت نظرى – و أنا أطالع المرثية التى تداعت خيوطها فى صورة تأملات حرة - كلمات عن صديقنا الاستاذ حسين خوجلى، و إشارات للحظر الذى فرضته السلطات على صحيفته ( ألوان ). عبّر مستشار الرئيس عن حزن مُمض لذلك الحظر، و تمنى على السلطات أن تخلى بين حسين و قلمه، و أن تفك عن صحيفته قيد الأسر. كتب المستشارالرئاسى: ( أحزنني أن ذلك القلم المبدع قد انتزع منه لوحه، والقلم لا يغني شيئاً بغير لوح، فدعوت في سري بأن يُعاد له لوحه، وها أنذا أدعو له علناً. حضرني في تلك اللحظة شقيقه الشهيد عبد الإله، الذي كان من أعبد وأفضل من رأيت من الناس. ثم تذكرت جده الشريف أحمد طه، شهيد المهدية الأول، فقلت في نفسي إن لم يشفع شهيدان لحسين فمن يشفع له؟ ).
هل ترانى قرأت إسم غازى صلاح الدين حقا على صدر ذلك المقال-المرثية؟ أم هى محض عوارض من تهيؤات عرضت لنا، إحتطبها عقل كليل عليل، إختلطت عليه الأسماء و الأشياء، فلقد والله إختلط علينا أمر الإنقاذ و المنقذون، فصرنا نرى الليل نهارا والديك حمارا. أولم يكن الدكتور غازى صلاح الدين من العصبة أولى العزم الذين جاءت الانقاذ على أيديهم وإستقام بناؤها على أكتافهم؟ ألم يكن الرجل فى الطليعة من منظرى النظام و مهندسى سياساته و صناع قراراته؟ ألم يكن من رجال الصف الأول، له الصدر دون العالمين، فى تنظيمه السياسى الحاكم؟ ثم ليقوّمنى أهل النهى إن كنت أهرف بما لا أعرف: أليس الدكتور غازى صلاح الدين من يشغل غداة يومنا هذا منصب مستشار رئيس الجمهورية، و يمارس مسئولياته الدستورية من مكتبه فى القصر الجمهورى، على مرمى حجر من مكتب رئيس الدولة؟! إذن فمن يكون هذا – الغازى الآخر - الذى يعتصره الحزن على مصاب حسين المبدع بعد أن أنتزع منه لوحه؟ من يكون هذا الغازى الآخر، الذى يشكو ضعف حيلته و هوانه على أهل السلطان، فلا يملك إلا أن يدعو الله في سره أن يُعاد اللوح الى حسين. ثم يُعالن بالدعاء بعد إسرار، فيناشد أولئك الذين نزعوا اللوح أن يتقبلوا فى الرجل شفاعة أخيه، الذى بذل روحه قربانا على مذبح الحركة الإسلامية، و جده، شهيد المهدية الأول، الشريف أحمد ود طه؟
سبحان الله، لماذا يدعو غازى ربه – فى السر و العلن - أن يرفع الضُر عن مظلوم؟ لماذا لا يشير، وهو المشير، فيُتّبع، و يأمر، وهو الآمر، فيطاع، فإذا الضُر قد إنزاح و إذا العدل سيد الموقف؟ أم ترانا إنطبقت علينا ووافتنا نذارة الفيتورى: ( الغافل من ظن الأشياء هى الأشياء ). فالأشياء إذن ليست هى الأشياء، و المناصب والمواقع والمسميات ليست هى المناصب والمواقع والمسميات. و من كنا نظن أن الأقلام بأيديهم، فلا يكتبون أنفسهم أشقياء، و يشاؤون فى شئون الدولة ما يشاؤون، يقولون لها كونى فتكون، ليست فى أيديهم أقلام و لا يحزنون. بل هم أشقياء، و مثل الأشقياء من سواد الناس، لا يملكون الى مُراد نفوسهم سبيلا غير شفاعة الموتى و الدعاء الى الله - فى السر والعلن - أن يُقيل العثرات و أن يلطف فى القضاء!
بإسم غمار الناس من أبناء هذا الوطن الطيب المعطاء، المرابطين فى الداخل، والمهاجرين فى أصقاع الأرض، أرحب بالدكتور غازى صلاح الدين بين ظهرانينا. أخ كريم و إبن أخ كريم. و لأنك كذلك فإننا نريد أن نصادقك فنصدقك الخبر، ونناصحك فنمحضك النصح. لو دعوت الله – يا أخانا - فى سرك و جهرك، أن يرفع سيف الحظر عن قلم الحسين ولوحه، فانظر حولك، ستجدنا، إن شاء الله، عن يمينك و عن يسارك و بمحاذاتك، القدم بالقدم والكتف بالكتف، نصلى و نسلم، و ندعو بدعائك، ثم نمسح الوجوه براحاتنا. و لكننا عندما نفعل ذلك، لا نفعله لأن الحسين شقيق أصغر للشهيد عبد الإله خوجلى، و لا لأن جده الشريف أحمد ود طه، و لكن لأن حرية الفكر والتعبير، إنما هى هبة الله - خالق الشعوب وواهب الحريات - الى الخلق، و نداء العصر و شعاره، و ركن ركين من من الحقوق الأساسية التى تواضعت عليها الأنسانية، وإستمسكت بعروتها الوثقى الشعوب الحرة، التى نطمح الى أن نكون فى فسطاطها.
عن صحيفة ( الاحداث )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة