رحــيل الرجـــال
جانب من اجتماع جمع بين الرئيس مولانا احمد الميرغني والدكتور ابو الحسن فرح رئيس الاتحاد العام للسودانين بقصر الطاهرة بمصر
مولانا السيد / احمد الميرغني رجل اسعدتني الظروف ان اعرفه عن قرب كما لم يعرفه الكثيرون ، عرفته عن قرب في فترة الديمقراطية الثالثة حين كنت مديراً للبنك الاهلي السوداني بالقاهرة وفي نفس الوقت في العمل العام وكنت رئيسا للاتحاد العام السودانين بمصر بعد تكوينه لاول مرة في تاريخ السودانين في ارض الكنانة تعاملت معه في المجالين وهو رئيس لمجلس السيادة ومافعله لنا الرجل وماقام به الاتحاد فى ذلك الوقت حدبث يطول ، ثم كنت احد السودانين القلائل الذي استقبلوه عند عودته من رحلته الى اليونان بعد انقلاب الانقاذ بايام قليلة الى مصر ثم استمرت العلاقة وتوطدت بعد ذلك تسعة عشر عاما متواصله وشبه يومية نشاوره ونشكي له همومنا العامة والخاصة بل كان دائم السؤال عن تفاصيل احوالنا الشخصية . ونحاورة في كل القضايا الحزبية والوطنية ومنها تكشف لنا معدن الرجل الذي يجمع بين مزايا الصوفية الحقه اخلاقها وفراستها وتواضعها وزهدها وصدقها وعلمها ومعرفتها وبين حداثة رجل الدولة الاقتصادي السياسي الجماهيري الحزبي المجرب الذي استفاد من عمالقة الحركة الوطنية والسياسية الاتحادية مولانا السيد علي الميرغني والرئيس اسماعيل الازهري ورفاقهم في الممارسة المبكره له للسياسة معهم والرجل صدق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله )
(سنن الترمزي عن ابي سعيد الخدري)
والرجل كانت لديه فراسة يقرا بها كل ماحولنا قراءة اثبتت لنا الايام صدق ما توصل اليه في كثير من القضايا فبالاضافة الى علمه كان للرجل ميزة يخص بها الله سبحانه وتعالى من اراد حتى خلقة فمن الذي الهم النمل ان تشق الحبة نصفين قبل تخزينها حتى لاتنبت الحبه وتفسد اذا خزنت سالمة ؟ وكذلك الالهام عند المؤمنين من الرجال .
وعلمه وفراسته سوف نعود اليها بالتفصيل عندما تسنح الظروف بنشرها لاننا كنا نسمع من الكثيرين ارائهم السطحية في الرجل وكنا نسكت على مضض حتى لا نتهم بنفاقه وهو على قيد الحياة اما هو فكان يصمت على كثير من المكاره والقضايا الخلافية منعا للاستقطاب والانشقاق والضرر والذي قد يلحق بالجماعة وذلك انطلاقا من تراث صوفي متعارف عليه في مجالسهم تلك التي قال فيها سيدنا ابوبكر رضى الله عنه وارضاه :
( كنا نتعلم الصمت كما تتعلمون الكلام )
اي انه كانت هنالك حلقات يتعلمون منها الصمت حتى لاينطق احدهم الابما يستطيع فعله او شرح حال لايمكن ان يجاهد في تغييره او ان محاولة تغييرة في زمان ومكان غير الزمان والمكان يمكن ان يلحق الضرر بالجماعة وهذا هو حال المؤمن .
لقد كان الرجل يمتاز بتواضع جم شهد عليه كل من تعامل معه فقد اجتاز الرجل بفضيل الله دوره التاهيل التي قام بها الرسول ( ص) في تاهيل القلوب حيث قال ( ص)
(مكتوب على باب الجنة :
لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )
(رواه عبد الله بن مسعود ، ابن حزيمة في التوحيد ومسلم في سند الصحيح )
لقد كان الرجل ضد احوال المنافقين ويحملهم كثير من الوزر فيما يلحق بنا اليوم من ضرر من جراء كذبهم ونفاقهم وكان يدعو الناس الى الصدق عملا وقولا التزاما بقوله تعالى في صورة التوبة (119) :
( يايها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
كان الرجل صوفيا سمحا في تعامله لايقول الا الطيب في القول عملا بقوله تعالى في الاية (24) من سورة الحج :
( وهدوا الى الطيب من القول وهدوا الى الصراط الحميد )
فلقد كان (احمد) كصوفي امتدادا لتلاميذ اول مدرسة في الصفاء والنقاء والعفو في دار الارقم بن ابي الارقم في مكة المكرمة .
كان الرجل يقدر لكثير من الرجال حوله اختلافهم معه في وجهات نظرهم وتباين الرؤى والمقامات والدرجات ويشاورهم في كل الامور العامة وكثيرا ماكان ينزل الى ارائهم وان اختلفت مع وجهة نظره نزولا للديمقراطية والشورى فلقد كان يؤمن رحمه الله بقول الله تعالى في سورة الصافات (164)
( ومامنا الا له مقام معلوم )
الحديث عن مولانا السيد احمد الميرغني يطول فقد اثر فينا على المستوى العام كراس دولة وكقيادي حزبي وكصوفي ورع وعلى المستوى الشخصي كصديق مخلص وعكس اثره وارائه ومدى خسارته يحتاج منا الى توثيق ملزم في المستقبل ولايجوز ان نترك ما في الساحة من افكار مغلوطة ومنقوصة لاسباب مختلفة دون ان يكون للذين عرفوه معرفة حقيقية شفافة كلمة .
منذ الايام الاخيرة من شهر رمضان وحتى يوم وفاته كنا نتبادل الاتصال اكثر من مرة يوميا وقبل وفاته بخمس ايام قال لي نويت ان احضر مولد السيد البدوي في طنطا فقلت له يا مولانا انت لديك برد والرحله وزحام المولد قد يؤثر فيك فقال لي هو يوم واحد ولم اتعود ان اكون في مصر ولا احضر مولد السيد البدوي ولابد ان احضر وذهب وعاد في نفس اليوم واتصلت به للاطمئنان عليه فقال لى الحمد لله رفع الجو الروحاني في المولد معنوياتي واشعر انني في احسن حال .
وكنت قد قررت السفر الى السودان قبل يومين من وفاته ولان الاخ د. هاني رسلان مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الاهرام قطاع افريقيا والسودان قد وجه لي دعوه بحضور ندوة في المركز مع د. كمال عبيد ورياك قاي والسيدة سامية احمد محمد حول الوضع الراهن في السودان ناقشت معه امكانية حضور شخص اخر حال سفري فقال اولا اجل سفرك واحضر الندوة وثانيا مولانا السيد محمد عثمان سيحضر هذا الاسبوع فقابلة ثم سافر بعد ذلك اما قبلي اومعي يوم 15 بالمصرية انشاء الله واكد لي الاخ حسن مساعد خبر حضور السيد ذلك الاسبوع الى مصر فاجلت سفري .
وفي يوم الندوة، يوم رحيله وفي الساعة الواحدة ظهرا وانا في مبنى الاهرام اتصلت به وقلت له يا مولانا انني سوف التزم في الندوة بخطنا المميز في الرؤية للواقع الحالي وحلنا المستمد من مبادئنا وتراثنا لمشاكلنا مهما اختلفنا في ذلك مع الاخوان في المؤتمر الوطني فقال لي اولا لن املي عليك ماتقول فنحن نقول في مثل هذه الاحوال ارسل حكيما ولاتوصه ثانيا ليس مطلوبا منا ان ننافق احد في المواقف الوطنية ومع احتفاظنا بقاعدة اساسية ان هدفنا هو ما يجمع ويوحد الناس في قضايا الوطن دون التنازل عن ثوابتنا ودار حوار طويل حول المسالة الوطنية والوضع الراهن ليس هذا مجالها . وطلب مني ان اقدم له تقريرا عن الندوة بعد الخامسة مساء لانه سيرتاح قليلا حيث يشعر بقليل من الارهاق فقلت له لابد انك قد اخذت بردا من جو الاسكندرية فقال لي لا انا متعود على البرد الاسكندرية ، بل ان جو الاسكندرية مريح لي وكان ذلك اخر حديث لي معه .
وبعد انتهاء الندوة وفي الساعة الخامسة اتصلت لاقدم له التقرير الذي طلبه ولم اجد ردا حتى السادسة علمت بعدها من السيدة الشريفة حرمه ( لها ولاولادهما الصبر والسلوان ) حينما اتصلت بلتفونه الثابت انه اصيب بالازمة في الرابعة والنصف بتوقيت مصر واسلم الروح في اقل من خمسة عشرة دقيقة رغم المجهودات الطبية الكبيرة وكان الخبر صدمة شخصية كبيرة لي ولكنني مؤمن بقضاء الله وقدره وذلك وحده ماحملنا على الصبر على ذلك المصاب الجلل .
وبدلا ان احضر امامه لاستقباله يوم 15 نوفمبر اراد الله ان احضر مرافقا لجثمانة الطاهر وكلماته لي بان اؤاجل سفري لم تفارقني قط ولكن خففت عنا كثيرا مشهد الملايين التي خزجت لتوديعة واستقبال شقيقه مولانا السيد محمد عثمان الميرغني وعكست مدى تقدير الشعب السوداني لهم ومدى علو المكانة التي يمثلها الرجال امثالهم لدى جماهيرنا الواعية الثابته على مبادئها مهما طال الزمن ومهما كانت المشاق والمعانها ذلك الحشد الذي لم يقتصر على الاتحادين والختمية وحدهم وان كانوا هم الاغلبية بل جمع كل الصوفية بمختلف مشاربهم وابناء شعبنا في الجنوبي قبل الشمال وابناء الغرب قبل الشرق رجالا ونساءا بكل تنوعهم العرقي والثقافي والديني وذلك هو الذي اضاف لذلك الحشد و اعطى للمناسبة قوميتها .
رحم الله مولانا السيد احمد الميرغني واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ووفقا جميعا لتحقيق ماكان يصبو اليه ويتمناه .
د. ابو الحسن فرح
عضو المكتب السياسى
عضو اللجنة المفوضة
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة