الحلم الامريكي (38): ثقافة المال: واشنطن: محمد علي صالح
الحلم الامريكي (38):
عن كتاب جديد وقديم: "ثقافة المال"
واشنطن: محمد علي صالح
يعتبر كتاب "موني كلشر" (ثقافة المال) الذي كتبه الصحافي مايكل لويس كتاب جديد وقديم:
في سنة 1991، صدر لاول مرة، بعد انخفاض الاسهم في "وول ستريت" (شارع المال في نيويورك)، بعد افلاس "سيفنغ آند لون" (بنوك توفير وتسليف صغيرة، انتشرت هنا وهناك، ثم عجزت عن تمويل نفسها).
وفي سنة 1998، صدرت طبعة جديدة، بعد افلاس "الكترونيك ببل" (طفرة شركات الكمبيوتر، لكنها لم تستمر طويلا).
وفي الشهر الماضي، قالت اخبار ان طبعة جديدة ستصدر.
ويتوقع ان يكون فيها فصل عن الكارثة الحالية: "كريدت كرايسيز" (كارثة الديون). والتي بدأت في السنة الماضية، عندما اغرت بنوك العقارات ملايين الناس بقروض لشراء منازل. وكان واضحا ان كثيرا منهم لن يقدر على دفع الاقساط الشهرية.
وهذا ما حدث.
وفي كل مرة، يعود الامريكيون ليقرأوا كتاب مايكل لويس، وهو صحافي في مجلة "نيويورك تايمز"، ويكتب عمودا في موقع "سليت"، ويدرس الاقتصاد في جامعة كليفورنيا في بيركلي.
ارهابيون اقتصاديون:
قبل عشرين سنة من هجوم 11 سبتمبر على امريكا، واعلان بوش الحرب ضد الارهاب، نشر مايكل لويس عبارة "ارهابيين اقتصاديين"، اشارة الى رؤساء ومديري بنوك ومؤسسات استثمارية تعمل في "وول ستريت". وقال انهم:
أولا: طماعون.
ثانيا: غير مسئولين.
ثالثا: ارهابيون تجب محاكمتهم وسجنهم.
لكن، حمل مايكل لويس المواطن الاميركي العادي المسئولية ايضا. وقال: "كل من يقبل عرضا مغريا من شخص غريب يجب ان يشك في العرض وفي الشخص." وقال انه يعرف ما يكتب لأنه، لعدة سنوات، عمل سمسارا في بنك "سولون" الاستثماري (افلس مؤخرا) في نيويورك.
خلال تلك السنوات، اكتشف، مثلا، ان بطاقة "اميركان اكسبرس" انتشرت بسبب خطة نفسية تهدف الى اقناع الناس بأن الذين يحملونها هم اكثر الناس تعليما وثقافة و"حضارة."
وخلال تلك السنوات، نال نصيبه من "وول ستريت كرسماس"، في نهاية كل سنة، عندما توزع البنوك والمؤسسات الاستثمارية مكافآت خيالية، بالاضافة الى الرواتب الخيالية. وخلال تلك السنوات، كان صديق مستثمر شاب، مؤخرا تخرج من كلية ادارة الاعمال في جامعة هارفارد، واشترى منزلا بمليون دولار، وسيارتي "بي ام دبليو".
اولا: الاستعلاء:
شرح كتاب "ثقافة المال" ثقافة المال في اربع كلمات: اولا: استعلاء. ثانيا: ترف. ثالثا: طمع. رابعا: خوف.
خطأ او صوابا، يعتقد الامريكي انه، وسط بقية سكان العالم، الاقوي عسكريا، والاغنى اقتصاديا، والاكثر حرية، والاعلى حضارة. لكن، الاستعلاء شئ، وعقدة الاستعلاء شئ آخر، عندما يعتقد ان من حقه ان يفعل ما يريد.
هذه نقطة. النقطة الثانية هي ان الاستعلاء، طبعا، ليس الافتخار. لكن، ليس سهلا وضع خط فاصل بينهما.
مثل واحدة من اشهر الاغاني الوطنية الاميركية الحديثة: "بورن ان ذا يو اس ايه" (ولدت في الولايات المتحدة الامريكية)التي يغنيها بروس سبرنغستين. رغم ان جزءا كبيرا منها ضد التدخل الامريكي في فيتنام، وضد ظاهرة الفقر والبؤس في شوارع اكثر دول العالم حرية، وقوة، الخ ... تعتير الاغنية وطنية جدا، وتردد مقطع "ولدت في الولايات المتحدة" مرات ومرات في فخر ربما لا يجاريه فخر آخر.
مثل هذه الاغنية الجديدة نسبيا، يردد الاميركيون اغنية قديمة هي: "اميركا ذا بيوتفيل" (امريكا الجميلة). تقول تقول بعض مقاطعها: "ايتها الجميلة. حلم الابطال. الى ماوراء السنين. ليصب الله رحمته عليك. ويضع تاج الخير فوق تاج الاخوة. من بحر الى بحر."
قال كتاب "ثقافة المال" ان احساس الوطنية والفخر عند الامريكي ربما لا يختلف عن غيره، لكن، يؤمن الامريكي ايمانا قويا ان احساسه هو الاحسن. وربما لن تكن في ذلك مشكلة اذا لم يعتقد ان ذلك "رخصة" له ليفعل ما يريد.
قبل ست سنوات، في فيلم "عقل جميل" انتصر لاعب شطرنج على آخر. واحتج المهزوم وقال انه كان الاحسن. ورد عليه المنتصر: "هذا استعلاء المنهزم." وفي الصيف، خلال الالعاب الاولمبية في الصين، كانت الامريكية لنسي جاكوبيل في مقدمة منافسة سباق الجليد. وقبل ان تصل خط النهاية رفعت يداها وهتفت بأسم امريكا، وفجأة سقطت، وفازت عليها "تانيا" السويسرية.
وانتقدها صحافيون وقالوا انها استهزأت بمن كان وراءها.
ثانيا: المتعة:
وقال الكتاب: "يفعل الامريكي ما يريد بان يستمتع بالحياة كما يريد."
مثل اغنية مشهورة تقول بعض مقاطعها: "اريد ان العب البولو مع رالف لورين (مصمم ازياء). اريد اكثر سيارة رفاهية في العالم. سيارة تطير بي الى فلوريدا. لاشرب احسن النبيذ. واحسن الويسكي. وانزل في افخم الفنادق. واقابل اجمل البنات ... "
لكن، تربط الثقافة الامريكية الترف والعمل. وبسبب تأثيرات مسيحية، ترى الآتي:
اولا: العمل جزء من عبادة الله، يكافئ الله عنه في الآخرة.
ثانيا: الترف جزء من العمل، يكافئ الانسان نفسه عنه في الدنيا.
في نفس الاغنية السابقة، مقاطع تؤكد ذلك، وتقول: "لست كسولا. اعمل سبعة ايام في الاسبوع." وتقول: "نصف العالم لا يفعل شيئا. نصف العالم يحرق الفلوس". اشارة الى عيب يلتصق بالذي يرفه عن نفسه بدون ان يتعب ويكدح.
وقال الكتاب ان احسن ما في ترفيه الامريكي هو انه يربطه بالعمل.
لكن، اسوأ ما في ترفيه الامريكي انه لم يعد يستعمل دخله من العمل للترفية. صار يستدين ليشتري الرفاهية وكماليات الحياة. وكلما استدان اكثر، كلما رفه عن نفسه اكثر.
مثلما اليوم في كثير من دول العالم الثالث، حيث يعمل الشخص، ثم يوفر، ثم يشترى سيارة او منزلا، كان ذلك حال الامريكي في الماضي. لكن، الآن تستغل البنوك وشركات الاستثمار حبه (وغيره في كل العالم) للمتعة، وتغريهم ببطاقات الديون البلاستيكية.
لهذا، الآن، صار الامريكى يرفه عن نفسه، ويشتري الضروريات والكماليات مع احساس بان الاغلي معناه الاكثر رقيا وحضارة:
لسنوات، كانت شركة "غوتشي" تبيع منتوجاتها الراقية في متاجر غيرها. لكنها غيرت استراتيجيتها، وبدأت تبيعها في متاجر خاصة بها، وسط دعاية اعلانية ان متاجرها الخاصة "ارقى" من متاجر غيرها. وقلت مبيعات شركة "بيربيري" الراقية بعد ان فعلت العكس، وبدات تبيع منتاجها في محلات عادية، ولهذا، لم تعد منتجات "راقية."
ثالثا: الطمع:
وقال الكتاب انه ربما لم يكن في القروض عيب اذا كان الامريكي يقترض بصورة معقولة.
يعنى ذلك ان يكون متأكدا من قدرته على دفع القروض التي عليه. لكن، ظهر عامل الطمع من جانبين:
من جانب الذي يستدين ويستدين ليشتري ويشتري.
ومن جانب الذي يدين ويدين ويزيد سعر الفائدة لتزيد ارباحه.
يصور ايس كيوب، مغني اغاني "هيب هوب" ذلك في اغنية تقول بعض مقاطعها: "لتتكوم الدولارات في حديقة منزلي. وليأكل السمك الكبير السمك الصغير." ووراءه، يردد الكورس: "الطمع يحقق ما اريد. الطمع يحقق ما اريد." وفي نهاية الاغنية، يردد: "اعطيني اكثر. اعطيني اكثر."
طبعا، الطمع طبيعي عند البشر، وهو مغروس في كل الثقافات.
في الثقافة الغربية، كتب عنه فلاسفة، مثل توماس هوبز، صاحب نظرية "شريعة الغابة". بل قال فلاسفة ان الطمع اخلاقي ومطلوب.
وقال كارل ماركس ان العلاقات المادية هي التي تدفع التاريخ، وخاصة بين الاغنياء والفقراء. (بدلا من ان يقول ان القيم الاخلاقية هي التي تدفع التاريخ).
وفي سنة 1984، قال الرئيس ريغان ان حرية جمع المال جزء من الحرية الامريكية. (بدلا من ان يشترط بأن الهدف من جمع المال يجب ان يكون انسانيا).
ولابد ان ريقان استند على ادام سميث، ابو الراسمالية، الذي خلط بين الطمع والربح، وقال، ربما على حق، ان الطمع يزيد الربح.
ووسط غير الفلاسفة والسياسيين، في فيلم "وول ستريت"، صاح الممثل غوردون قيكو: "الطمع شئ طيب."
رابعا: الخوف:
وقال الكتاب انه لن يدخل في جدل اخلاقي عن الطمع، لكن، من وجهة نظر واقعية، يجب ان تكون للطمع شروط، مثل:
اولا: لا يورط صاحبه في ديون لا يقدر على دفعها.
ثانيا: لا يقود الى الخوف من الافلاس.
خلال اسبوعين في تغطية الكارثة الاقتصادية الحالية، كررت جريدة "واشنطن بوست" في يومين كلمة "خوف" في عنوان كبير على صدر الصفحة الاولى.
وخلال نفس الفترة، نصح الكاتب الصحافي جورح ويل الاميركيين ان يتذكروا عبارة الرئيس روزفلت: "لا يوجد خوف سوى الخوف نفسه."
من بين الذين اعترفوا بالخوف وغنوا له، المغنية جاسمين سالفر. قالت بعض مقاطع اغنية لها: "لا تكذب على وتقول انك لا تخاف. كلنا نخاف. ليس انسانا من لا يخاف. اخاف من الكلام حتى لا اكشف السر. اخاف من المحاولة حتى لا افشل. اخاف من الجنس حتى لا احمل. اخاف من الخمر حتى لا اسكر. اخاف من الزواج حتى لا افشل. اخاف من الانجاب حتى لا اخسر. اخاف من الكبر حتى لا اخرف ... "
--------------------------------------------
تعليق (1):
طبعا، مثل الطمع والترف والاستعلاء، الخوف شئ طبيعي. وايضا، هو عاطفي. ولا غضاضة في ذلك.
لكن الثقافة الامريكية، بصورة عامة، علمانية وعقلانية وواقعية.
لهذا، يبدو غريبا ان يعترف الامريكيون بأن الخوف جزء هام في حياتهم. وذلك لانهم يحاولون ان يخفوه. مثلما يحاولون اخفاء عواطف سلبية اخرى، مثل الكراهية، والغضب، وحب الانتقام. طبعا، هذا شئ طيب، ومن باب التأدب. لكنه يشكك في قدرة العلمانية والعقلانية والواقعية على حل مشاكل الدنيا الهامة.
تعليق (2):
قبل شهور قليلة، ظهر كتاب "اسلاموفوبيا"، وقال ان اغلبية الاميركيين تخاف من المسلمين لانهم لا يعرفونهم (لو عرفوهم، لعرفوا انهم لا يكرهونهم).
هذا خوف من المجهول.
لكن خوف الاميركيين من الكارثة الاقتصادية الحالية خوف من شئ يعرفونه جيدا، من ركن هام في ثقافة المال، وهو الافلاس.
مممممممممممممممممممممممممممم
[email protected]