السد الترابي والمنطقة الخضراء : الصادق حمدين
بدأ الجيش السوداني تشييد سد ترابي بطول 180 كيلومترا علي امتداد الجانب الغربي، من مدينة أم درمان بجانب قناة مائية "ترعة" تشكل درعا أمنيا يحول دون تكرار الهجوم علي المدينة مرة أخري كما حدث عندما هاجمت حركة العدل والمساواة المسلحة في مايو الماضي المدينة مما أسفر عن مقتل المئات ويقول المسؤولون أن هذا المشروع يتم تنفيذه بالتعاون بين الجيش والسلطات المحلية ويأتي في إطار خطة تأمين المدينة والتي تشمل تامين النقاط العسكرية في مناطق فتاشة وأبو هشيم والكبابيش وأبو حليب وجبل مندرة وصرح معتمد أم درمان أن السلطات المحلية ماضية في خطتها لتأمين مداخل أم درمان. انتهي الخبر.!!!
السد الترابي، والترعة المائية، والمنطقة الخضراء، وبينهما سور الصين العظيم، وآخرها الجدار الإسرائيلي العازل، وشر البلية ما يُضحك، في أعقاب الهجوم الذي شنه جيش حركة العدل والمساواة، في العاشر من مايو الماضي، علي مدينة أم درمان، اجتمع القوم المذعورون حد الدهشة، وقرروا في عجلة من أمرهم، بأن يتم حماية العاصمة من غدر وهجوم الأعداء المهمشين الذين يساكنونهم وطنا واحدا، وذلك بإنشاء سد ترابي عظيم، وترعة صناعية عظمي، وذلك لقطع الطريق أمام محاولة ثانية من إختراق العاصمة، وخاصة بعد تصريح خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة بانهم عائدون. في البداية لم يأخذ أحدا هذا الأمر مأخذ جد، ونسب كل من سمع هذه التصريحات، إلي الحالة النفسية السيئة التي سببتها صدمة الهجوم الخاطف علي رموز النظام المرعوبين، لأن الخوف حالة نفسية معقدة تشل التفكير، وخاصة في حالة الشعور بالخطر الداهم، فلا أحد يمكنه التنبؤ برد فعل الضحية الذي تملكه، واعتبر الشعب السوداني إن هذه الفكرة خيالية، سرعان ما تصبح كغيرها من الأفكار الطموحة، التي تدر ربحا وفيرا لمنتسبي النظام، حتى قبل إنشائها، مثل ترعتي الرهد، وكنانة، ومشروع سندس الزراعي، وطريق الإنقاذ القاري الغربي، والمدينة الرياضية، وغيرها من المشاريع التي لن تري النور أبدا في ظل هذا النظام المصاب بعمي ترتيب الأولويات، أما وقد صار هذا المشروع القومي العملاق حقيقة ماثلة للعيان، فهذا هو مصدر الدهشة، ومكمن الاستغراب، ومحور كل تساؤل.!!!
وفي الاجتماع الأمني الطارئ الذي تسيده الرعب والخوف لسد منفذ هذا الخطر الداهم، ومنعا لتكراره، اتجهت أشواق حملة شعار مشروع الدولة الرسالية القاصدة، إلي تجربة الصين الشيوعية الملحدة، استلهاما لتاريخها في بناء الأسوار العالية العظيمة، التي تصد الأعداء وتردهم علي أعقابهم خائبين، دون التوقف عند الفارق الزمني الشاسع بين التجربتين، ولأن سور الصين العظيم قد صار تجربة أثرية عجيبة لا يمكن تكرارها، فلتكن منطقة خضراء، علي قرار المنطقة الأمنية العازلة، التي أقامها المحتل في بغداد، منعا لهجمات الذين يقاومون الاحتلال، ومن تعاون معه، ونسبة للفارق بين المساحتين، وجد القوم إنه من الصعب تغطية كل هذه المساحة بالأسمنت المسلح، كما فعل الأمريكان، في تأمين الحي الدولي الذي عرف بالمنطقة الخضراء، وفي خضم دوامة هذا الابتلاء المربك تذكر أحد المجتمعون فجأة الصحابي الجليل سلمان الفارسي، الذي أشار إلي الرسول صلي الله عليه وسلم بحفر الخندق، وصاح كما فعلها العالم أرخميدس، وجدتها فليكن خندقا وبه عائق إضافي وهو الماء، ونطلق عليه ترعة، وذلك لمعرفة الشعب السوداني لفوائدها، ولا مانع من أن يكون بجانبها سدا ترابيا عاليا لمزيد من الحيطة والحذر، ولأن خط بارليف كان سدا ترابيا وتمكن المصريون من اختراقه، لابد من وجود نقاط مراقبة دائمة، وهكذا يأمن القوم شر الأعداء المتربصين، والمتطفلين غير المرغوب فيهم، وغيرهم من المغامرين، طلاب الكرسي، والثروة والسلطة.!!!
ولم تسعف أحدهم الذاكرة التي لا تبعد عنها علامة الصلاة كثيرا، ليتذكر قول الشاعر، عندما كان سيدنا عمر بن الخطاب أعظم رجال والدين والدنيا في عصره نائما مطمئنا تحت شجرة، وقال قولته المشهورة ( أمنت لما أقمت العدل بينهم ونمت نوما قرير العين هانئا)، ولأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، لم يشر أي منهم إلي حادثة استغراب رسول كسري، عندما وجد الأمير عمر بن الخطاب جالسا تحت شجرة، ولم يكن حوله أي مظهر من مظاهر السلطان، وقال مندهشا أهذا أميركم؟!! وأنساهم التفكير في أمنهم الشخصي وسلامتهم الذاتية حتى الرسول (ص) والإقتداء به في حكم رعيته، وكان لا يولي واليا وإلا أرسل معه قاضيا، والمغزى معروف، لكي لا يضطر الوالي لإقامة سور حول المدينة مهدرا أموال المسلمين متذرعا بتحقيق أمنهم، لأن إقامة العدل هو الضمانة الوحيدة للشعور بالأمن والاستقرار، والعدل قيمة إنسانية، لا يقوم أي حكم رشيد دونها، ولأهمية العدل كأمر رباني أصبح أئمة مساجد المسلمون يكررونه كل جمعة في خطبتها الثانية، وذلك منذ ولاية عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل. هذا ما لا يتذكره أصحاب الرسالة القاصدة، والمشروع الحضاري، في ظل الهلع، والخوف اللذان سيطرا عليهم، لم يتذكروا سوي التفكير في السلامة الشخصية والأمن الذي أعدموه، حتى نسي كل الشعب السوداني الإحساس به.!!
لم يتذكر واحدا من المجتمعين، بأن قادة الدول الغربية التي يصفها قادة النظام، بدول الاستكبار، بأنهم يتجولون في الأماكن العامة، ويركبون الدراجات، والقطارات، ويمشون في الأسواق، دون اصطحاب الكتائب الأمنية، أو رتل السيارات المظللة السريعة، أيدري أصحاب المسيرة القاصدة ما السبب؟!! لأن هؤلاء هم خيار شعوبهم، وحققوا لهم العدل الاجتماعي وفق البرامج التي أتت بهم فلم يعد هناك ما يخيفهم، ومن هنا استمدوا أمنهم واطمئنانهم.!!!
والشيء الذي يدعوا للتساؤل، إغفال الخبر الصحفي للحديث عن ذكر سد ثغرة الدفرسوار الشمالية، والتي كانت أيضا منفذا تسلل منه الأعداء، ممثلين في حركة العدل والمساواة نحو العاصمة، التي صارت وقت الهجوم، ترجمة حقيقية للمثل العامي السوداني (البيت محروس وستو تكوس)، ولكن سرعان ما تبدلت الدهشة والتساؤلات عندما تذكرنا مقولة (ما توصي حريص) وربما قال قائلهم، تأمين العاصمة كلها عن طريق الترع المائية، والسدود الترابية، في حالة الخطر الخارجي الذي يأتي من الغرب فكرة صائبة، ولكن ماذا عن الخطر الداخلي الذي بدأت مؤشراته تلوح في الأفق، وذلك في حالة قيام انتفاضة شعبية، أو الخطر الدولي، في حالة قيامه بتنفيذ أوامر القبض عن طريق استعمال القوة؟، ولم يُعرف عن العربات ذات الدفع الرباعي بأنها برمائية، هذا هو الحال الذي وصل إليه قادة النظام المهتز اليوم، دوامة من الحيرة، والربكة، والندم والخوف مجهول المصدر، ولم ننتظر طويلا، حتى أفصح الدكتور مصطفي عثمان إسماعيل عن حالة الندم الجماعي هذه، وذلك في المؤتمر الرابع للوسطية، الذي انعقد بالأردن، حيث دعا المؤتمرين لعدم المغامرة والإقتداء بالتجربة الإسلامية في السودان، واعتبر الانقلابات من المحرمات، وكأني به يقول نادما (توبة) يا ليتني كنت ترابا.!!!
لم يتجرأ واحدا من قادة النظام، أصحاب فكرة الأخدود الأم درماني العظيم، بأن يقول، أن الهدف من إنشاء الترعة المائية، والسد الترابي، الغرض منهما حماية سكان العاصمة من تكرار الهجمات التي قام بها جيش حركة العدل والمساواة، أو أي هجمات أخري محتملة، لأن الذي حدث في العاشر من مايو أكد تماما بأن المواطن السوداني المقيم بالعاصمة لم يكن هدفا لأي حركة مسلحة، إنما كان الهدف هو من أوجد الأرضية ابتداءا لكي تكون هناك حركات مسلحة، هو من دعا لأخذ الحق بقوة السلاح الذي جاء به للسلطة، هو من أقصي كل ما لا يتفق معه في الطرح واعتبره عدوا تجب حربه بلا هوادة، الهدف هو من يتحصن بالعاصمة ويرسل طائراته المقاتلة لتحصد الحياة في أطرافها، الهدف هو من أعدم كل مظاهر للأمن والتسامح في الوطن بأكمله وأراد البحث عنهما في شق القنوات، والترع، وغيرها من المتاريس الصناعية حتى يحس بالأمان الذي جرد منه الآخر، فالأمن والأمان لا تحققهما القوة مهما عظمت لأنهما حالة داخلية يحسهما المرء متى ما كان متصالحا مع محيطه الخارجي، ودونكم إسرائيل، رغم أنها دولة نووية لم يحقق لها ذلك الأمن الداخلي، مما أضطرها إلي بناء جدارها العازل والذي عجز هو الآخر بأن يشعرها بالأمن والأمان.!!! ولم تحم طروادة أسوارها العالية من السقوط بيد ملك إسبارطة، حتى أصبح حصانها مضربا للعبر ولأمثال عبر والتاريخ والأزمان.!!!
لم يشر ملوك إسبارطة الجدد الذين يعتمدون علي القوة والعنف في كل شيء، كم هي تكلفة هذا الترف الأمني المكلف، هل ميزانيته ضمن ميزانية الدفاع التي ابتلعت كل شيء وعجزت عن صد ذلك الهجوم الرعب؟!! أم أنها كانت منحة كريمة من الدول التي يهمها استقرار هذا النظام ليمرر لها مشاريعها وأطماعها؟!! أم إن تكلفة هذه المتاريس الأمنية كانت فائض ميزانية الصحة، والتعليم، ودعم السلع الغذائية الضرورية وغيرها من ضروريات الحياة، وبعد كل هذا هل السيد باقان أموم كان متجنيا ومخطئا عندما وصف هذه الدولة التي علي رأسها هؤلاء بأنها فاشلة ومنهارة وفاسدة؟.!!!
[email protected]
|