الفاضل عباس محمد علي -أبوظبي
النضال من الداخل
أوشكت حبال أوكامبو أن تطبق على ثلاثة من قواد المنظمات الحاملة للسلاح بدارفور ، كأنما يقول : كل من تحسبونه موسى قد يطلع فرعون ؛ أو كأنما يقول المجتمع الدولي لأهل السودان :أنتم جميعا فى الهم شرق ، وليست هنالك شجرة بينكم لم تهزها الريح ، فمن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر؛ والمنطق البسيط والقراءة السريعة لتاريخ السودان الحديث تشير الى أن جميع القوى السياسية لها اخفاقاتها ونجاحاتها، وكلها تعاني من ركوب الرأس والعناد، لذلك فهى ان جلست حول مائدة مستديرة لن تجد من هو صاحب اليد العليا الذى يتضاءلون أمامه ، فالكلّ تقريباً صاحب تاريخ حافل بالاخطاء والكل (مجربن) والكل فرّط ، ومن هنا يبدأ الحوار : أي Let bygones be bygones
وليس الفتى من يقول كان أبي ولكن الفتى من يقول ها أنذا ، وعلى كل فرد أن يطرح رؤيته الجديدة وتصوّره لحل مشكلة دارفور ولارساء دعائم و لبنات السلام ولكيفية حكم هذا البلد الحار جاف مترامي الاطراف وما هية النموذج المطروح للنهوض الاجتماعي والطفرة الاقتصادية والاستفادة من هذه الامكانيات التى يزخر بها السودان والتى أسالت لعاب الكثيرين .
حتى الكتاب و المعارضون بالخارج الذين ظلوا يذمّون الحكومة لما ارتكبت من كبت وفظائع ومآسى في حق أهل السودان خاصة في دارفور المنكوبة ،عليهم أن يتوجّهوا للداخل طالما أن آخر من تبقى من المعارضين شاءت له الظروف أن يشدّ ظعنه للوطن و لم يتردد، وعلينا أن نتضامن معهم من الداخل وفي أتون الوغى مهما كان ، فالكثرة عزّت الجراد وايد فى ايد تجدع بعيد ، ولعل فى وجودنا الطاغي وطوفان الجماهير الملتفّّة حول شعارات الحركة الوطنية السودانية ما يجعل الطرف الآخر يتعقّل وربما يترجّل ، على الأقل لحساب ترتيبات انتقالية -أي الحكومة القومية التى تحدث عنها حاتم السر على الناطق الرسمي باسم الحزب الاتحادى الديمقراطى - يتم خلالها جمع كلمة أهل دارفور على صعيد واحد ، ومن ثمّ ينعقد المؤتمر الدستورى الجامع ،دعنا نسميه نيفاشا رقم اثنين ، أي نيفاشا التى تشترك فيها القوى السياسية التى كانت قد استبعدت من قبل ، مع التأمين على ما حققته نيفاشا فى يناير 2006، والانطلاق منه نحو مزيد من الاتفاقات والرؤى الموحّدة التى تنتشل السودان من وهدته الحاليّة وتجنّبه حرج المواجهة القاتلة مع محكمة الجنايات الدولية واسقاطاتها .
ولست من الحالمين أو النائمين فى العسل بحيث اتصوّر أن التنازل عن السلطة من السهولة بمكان ، حتى لو كانت فى اتحاد لكرة القدم أو نادى رياضي ، فدون ذلك خرط القتاد ؛ ولكني أقرأ التاريخ مقرونا بالاحداث اليومية الراهنة بشئى من الواقعية ، وأرى أن عودة السيد محمد عثمان الميرغنى والكتل غير المأجورة التى تدافعت لاستقباله ومواساته فى وفاة شقيقه أربكت الحسابات وقادت لثمّة لين ومرونة يمكن استثمارها باتجاه تحقيق شعارات التجمع الوطني الديمقراطي ومن أجل الضغط فى سبيل :-
استكمال البنود المتفق عليها فى نيفاشا والقاهرة الخاصة باجراءات التحول الديمقراطي مثل الغاء القوانين القمعية ، وقومية القضاء والاعلام ولجان الانتخابات..........الخ.
حل مشكلة دارفور بمبادرة سودانية جديدة تستوعب التجمع الوطني الديمقراطي كجهة اعتبارية و جميع الفصائل الدارفورية الحاملة وغير الحاملة للسلاح ، وتكون دول الجوار (ليبيا مصر اريتريا تشاد) طرفا أصيلا فيها ، برعاية نفس الدول التى أشرفت على نيفاشا (بريطانيا والولايات المتحدة والنرويج وايطاليا ) بالاضافة لفرنسا .
الجلوس بعد ذلك حول مائدة المؤتمر الجامع (نيفاشا تو ).
لقد ولىّ عهد المعارضة من الخارج ، ولا مفر من تجشّم الصعاب السودانية -فلابد دون الشهد من ابر النحل ، والشهد المرجو هو بلد عاتي وديمقراطى ومسالم ينصرف ابناؤه لأكل عيش حلال
وthe pursuit of happiness تحت دوحة آمنة تكفل حقوق الانسان وتحترم آدميته فى ظل شروط واستحقاقات جديدة منصفة لتقسيم السلطة والثروة.
هنالك بالطبع قوى رجعية وتيارات سالبة تريد لمصالحها واستثماراتها أن تستمر كما كانت خلال العقدين المنصرمين ، وتريد السلطة القائمة أن تستمر كما هى لأنها مندغمة فيها ومتشابكة معها تماما، ولأن السلطة بوضعها الراهن تحرس تلك المصالح والاستثمارات حراسة الكلبة لجرواتها حديثات الولادة ، ومثل هذا النوع من البرجوازية السلطوية أو السلطة البرجوازية خبرها العالم ورآها تصعد وتهبط مثل اليويو ،وهى عادة من الجبن بحيث تبدّل مواقفها وولاءاتها بين غمضة عين وانتباهتها ، وتغير جلدها كما تفعل الحرباء، دعنا مثلا نسأل سؤالا بسيطا من تاريخنا الحديث : أين الاتحاد الاشتراكي التنظيم الفرد ، وأين تلك الطغمة المتسربلة بالنظام المايوى ؟ صحيح أن جزءا منها تقاذفته النوى كزبد البحر ، ولكن معظمهم بدّلوا جلودهم وصاروا كاللحمة والسداية بالنسبة للنظام الراهن ، وربما القادم كذلك، خاصة طالما نحن بصدد استبعاد ما يسمى بالعنف الثورى وطالما نحن أصلا بحاجة للطبقة الوسطى لبناء الاقتصاد الجديد ، ولا نستطيع أن نبدأ من الصفر كما فعلت روسيا بعد انهيار الشيوعية لنجد كل الثروة بعد قليل فى أيدى مجموعة من المليارديرات مثل خضروفسكى وغيره من القطط المكتنزة المتسلّاة من الأجهزة الأمنية.
التيارات السالبة هى التى يعلو صوتها هذه الأيام فى محاولة يائسة لإسكات صوت القاع الصخرى، أي الجماهير الواعية المسيّسة التى استقبلت السيد محمد عثمان، وهى نفس الجماهير التى استقبلت جون قرنق بالساحة الخضراء؛ ولقد لاحظت كما لاحظ كثير من المراقبين أن التيارات السالبة (المكنكشة) حاولت أن ترد على زخم استقبال الميرغني بسلسلة من الكرنفالات التى طبخت على عجل وفاقت السبعة فى سبعة أيام-فى البطانة وكردفان وكسلا (معقل الختمية) وحلفا الجديدة التى يفوز فيها الحزب الاتحادى بالتزكية- وأدخلت تلك التيارات رئيس الجمهورية فى سباق لاهث مع نفسه وإجهاد بدني ونفسي وعقلاني، فى الوقت الذى تحتاجه الخرطوم للبقاء فيها وحلحلة أزماتها ومشاكلها المستعصية، ومن ضمن الحلول المرجوة اصدار القوانين المكملة والشارحه لنيفاشا والقاهرة فى إطار الحوار المستمر مع القيادات السياسية وليس مع السابلة والرعاة البريئين فى شرق وغرب السودان، ومع الأقلية الفلاتية التى حشدت بغزارة فى لقاء كسلا، حيث أن مثل هذا الحوار الأخير هو حوار من طرف واحد، الطرف الممسك بالمايك، والباقون دورهم الرقص والتصفيق والهتاف والزغاريد.
كل هذه الرحلات الإعلامية لأصقاع الريف حصادها الهشيم، كمن لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أما إذا كانت بمثابة بداية للحملة الانتخابية بما تضمنته من افتتاحات لمشاريع حيوية كمصنع التعليب بكسلا، فلا أقل من إعطاء الاحزاب الاخرى نفس الفرصة من حيث الامكانيات واللوجستيات التى توفرها الدولة.
عموماً، لا تنتطح عنزان فى أن السودان مقبل على مفترق طرق دقيق: إما أن يلحق بالصومال والكنغو، وإما أن يتواضع بنوه على حوار سلمي يفضي إلى الاستقرار والتحول الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالطبع يعنى الحوار أن تتخاطب مع اعدائك ومنافسيك وليس مع الذين يدينون لك بالولاء ويصفقون لك بسبب وبلا سبب؛ وأهلنا يقولون (اسمع كلام الببكيك وليس كلام البضحكك). ومن هنا يتعين على الجميع أن يسعوا جادين للحوار السوداني/السوداني كما فعلوا عشية الاستقلال وفى مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 وفى مؤتمر القضايا المصيرية باسمرا عام 1995 وفى ماشاكوس ونيفاشا وأبوجا- حتى نخرج بإذنه تعالى بنيفاشا تو. ومن المؤكّد أن كل الظروف تهيئنا لمثل هذا التوافق التاريخى، وذلك شأن الفرسان والأسود، أما الضباع وأبناء آوى والكلاب والكواسر من الدرجة الثانية مثل أبو السّعن فهى تهمهم وتتلمّظ وتتمنى أن يتحول السودان إلى جيفة مهملة علّهم يتناوشونها ويتخطّفونها ويتخامشونها فيما بينهم. والسلام.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة