بسم الله الرحمن الرحيم
فقط لمرضى تضخم البروستاتا الحميد ..
توفيق عبدا لرحيم منصور
http://www.tewfikmansour.net
أتناول هذه القصة لأن في بعض جوانبها ما يتطلب منا التأمل خاصة فيما يتعلق بالطب والتطبيب، وكذلك التفكر في نِعَم الله علينا في أجسادنا وفي تلك الأجهزة والتقنيات الحديثة التي أتحفنا بها عقل الإنسان المُبدع .. وكذلك أتناولها لإعطاء فكرة للآخرين عما يعانيه مريض البروستاتا .. فقد أوصلتني البروستاتا لدرجةٍ تعرفت من خلالها على جميع حمامات المدينة التي أعيش بها، وحمامات المكاتب الرسمية والأسواق، وكذلك القطارات والطائرات ..
ولا أنسى ما حييت الطائرة التي كنت على متنها وتأخرت على مدرج المطار لأسبابٍ فنية، فما إن حلّقت في الجو وقبل أن يؤذن لنا بفك الأحزمة حتى اندفعت نحو حمام الطائرة، فما كان من المضيفات إلا أن يمسكن بتلابيبي (صياح وهرج ومرج وكاد البعض أن يحضر لي كابتن الطائرة)، وأخذت أصيح (أنا مريض بروستاتا) .. بالطبع إحراج ما بعده إحراج خاصة لرجلٍ في مثل سني !..
وغدة البروستاتا توجد فقط عند الرجال، وتبدأ في التضخم (نسبياً) بعد سن الخمسين، وهي عبارة عن غدة صغيرة تحيط بمجرى البول، وعند تضخمها تضغط على مجرى البول فيُحَبس البول ولا يتم الإفراغ الكامل للمثانة، مما يترتب عليه الخطير من الأضرار والكثير من الإزعاج .. هذا ويحضرني هنا ما سبق أن ذكره لي دكتور (كمال حنفي) وصاحب عمود (إلا قليلا) بالغراء (الرأي العام) من أن أستاذه في كلية الطب كان يُعرِّف المصاب بالبروستاتا بأنه الذي يعرف مواقع جميع الحمامات بمدينته !..
عموما أوصلتني البروستاتا أخيراً لدرجةٍ فقدت معها نهاري وليلي وطهارتي .. حتى أثناء الصلاة صرت أشعر بألم في وجداني نسبة للنجاسة التي تداهمني فجأة .. وآهٍ .. فإن معظمنا لا يدرك نعمة الخالق إلا بعد أن نفتقدها، فكم تبولنا في سهولة ويسر ولم نشكر الله على ذهاب الأذى أو نقول .. (غفرانك) أو(الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا) ..
هذا وما كنت أزور بيتاً إلا وأسأل بكل خجلٍ (أين أصغر حجرة لديكم؟) !. وعليه فقد أفسد علي تضخم البروستاتا زياراتي وسفراتي وأعيادي والمناسبات.. وفي العمل كلما سأل عني رئيسي يقولون له .. "فلان في الحمام، فيضحك" !.
وبعد أن طفح الكيل مني زرت طبيباً بمدينة الرباط وهو (كريم الحبابي) اختصاصي في أمراض وجراحة الكلى والمسالك البولية والتناسلية؛ فكشف، وأمر بعينةٍ ففحص، ثم بعد أن تأكد بأن التضخمَ حميدٌ للدواء صرف، فأراحني لفترة، ومن ثم عاودتني الأعراض، فكشف ثانية، وفحص، وهز الرأس قائلاً (لا بد من عملية !) .. فقلت له (عملية أيه يا دكتور وأنا الذي يخاف من الإبرة ؟!. وركبت رأسي ورفضت إجراء العملية .. ومن ثم بدأت أتابع العقاقير التي تريحني لفترة محدودة .. تعاطيت بإشراف الطبيب أل(إيكسيترال) الفرنسي. وأردفت ذلك ب(البروسكار) الأمريكي، ومن ثم تابعت مشورات الغير؛ بعضهم ينصحني باستعمال هذا الدواء أو ذاك، ولم أكن أتوانى في استعمال أي دواء ينصحني به أي شخص .. ثم لجأت للأدوية البلدية علها تخفف معاناتي ولا فائدة تذكر .. وأخيراً وصلت لدرجة أصبحت أعراضي كما المصاب بسلس البول وعندها تمنيت الموت ..
وعليه فقد ذهبت مرة أخرى لطبيبي؛ مطأطىء الرأس حزيناً ومستسلماً .. وقلت له "أتيتك مرة أخرى لتتابع أمر بروستاتتي التي كرهتها وكرهتني ويبدو أن الحرب الباردة بيننا ستنتهي بأخرى دموية".. فتبسم الطبيب الشاب وأشار لي ناصحاً بأن العملية ضرورية خاصة وأنني مريض سكر، وأن هذا الأمر سيؤثر على الكلى، وله اختلاطات أخرى كثيرة ومعقدة يصعب شرحها .. ثم سألني متى أريد إجراء العملية ؟ فأجبت ، بأسرع فرصة ممكنة .. قال إذن الأسبوع القادم.. فسألته أي نوع من العمليات سيجريه لي ؟ .. فأجاب.. جراحة بالمنظار.. فقلت له يا دكتور إن الانترنت تقول ... فقال سيبك الآن من الانترنت وخليك معي !.. ثم أستدرك قائلاً وماذا تقول الانترنت ؟ .. تقول أن هناك آلة تدخل لمكان الأذى عن طريق القضيب ثم تقطعني تقطيعاً، وأخرى أيضاً تدخل لدفع الماء لتزيل المُقطع من البروستاتا وتدفعه للمثانة، وأخرى لتنظيف المثانة بإخراج الدم والماء وما تم تقطيعه للخارج .. والمنظار يا دكتور !. كل هذه الأشياء .. كيف تدخل وتخرج من ذاك المكان الضيق !؟.. أهٍ يا رب .. وكيف يا دكتور ستضبط أمورك؟ أوعك تقطع لنا حاجة كده والا كده !! فضحك وقال والله العملية سهلة، وربنا سخر لنا العلم والأجهزة، وستُجرى العملية بتقنية التخدير النصفي .. وأقول لك بأنني قد أجريت مثل هذه العملية قبل عدة أيام لرجلٍ في التسعينات من عمره، والآن هو سعيد بمنزله وقد كنت أتكلم معه عبر الهاتف قبل قليل .. وعندها شعرت بالاطمئنان، فالطبيب الذي يتابع أمر مرضاه لا شك أن أنامله مباركة ..
هذا وقبل أن أبدأ في وصف العملية الجراحية لدي ما يجب تسطيره عن دكتور (كريم الحبابي) الشاب المغربي الإنسان .. فعيادة الحبابي في قلب الرباط بالمغرب (دولة نامية وليست تكساس)، فهي من أجمل وأنظف العيادات .. تلج إليها فتشعر بالاطمئنان .. لوحات هادئة، وطلاء للجدران أُختير بدقة وذوق رفيع .. سيراميك قمة في الجمال .. أحدث ماركة تلفزيون بحجرة الانتظار .. ثلاجة ماء وبقربها أكواب قابلة للاستعمال لمرة واحدة .. كراسي للانتظار وثيرة ومريحة .. ممرضتان بالاستقبال، أمام كلٍ منهما جهاز حاسوب .. مهمتهما إعداد ملف المريض، ومساعدة الطبيب عند الحاجة داخل حجرات الكشف .. وأقول حجرات الكشف لأن عيادة (الحبابي) بها أكثر من حجرة معبأة بالأجهزة ذات التقنيات العالية، ويبدو أنه من المتابعين للجديد من التقنيات، أي أنه لا يقف عند نقطة البدء حتى لا تموت أجهزته من أفاعيل التقادم وعدم المواكبة !.
عادة عندما يأتي المريض وبالمواعيد المحددة ينتظر في حجرة الانتظار .. ثم يُسحب ملفه الطبي ويُحدّث حاسوبياً ويُدعم بالجديد من الفحوصات، ومن ثم يؤخذ الملف للطبيب الذي بدوره يحمله في يده ويأتي لغرفة الانتظار (بنفسه) لاستقبال المريض بابتسامة جميلة، ويصافحه بحرارة، ومن ثم يستصحبه لغرفة الكشف (أليس التبسم في وجه أخيك صدقة ناهيك عن المريض المرعوب ؟) ..
ولا شك في أن الاستقبال الحار له ما له على نفسية المريض الخائف القلق . هذا ولا أريد أن أصف ما بداخل حجرة الفحص، لكنها شبيهة بكبسولة فضائية .. لكن الجدير بالذكر هو أن العيادة مهندسة بطريقة عملياتية؛ فإن طلب منك الطبيب خلع ملابسك وأن تتجه لحمامٍ خارج الغرفة أُعد خصيصاً لمرضى المسالك البولية فلا تنزعج، فإن أحداً سوف لن يراك، لأن العيادة ومسالكها مُعدة بطريقة ساترة ومدروسة .. هذا ويقوم الطبيب عادة بصحبتك لباب الحمام ويتركك لوحدك .. أما الحمام فمجهز بأجهزة خاصة لقياس وتسجيل قوة اندفاع البول وما إلى ذلك، وهو قمة في النظافة، ومتوفر به كمية من (الفوط) صغيرة الحجم وبيضاء اللون ومعقمة وتستعمل لمرة واحدة ..
أما العملية الجراحية فكانت كالآتي .. ذهبت قبلها لطبيب التخدير الدكتور (عدنان السائح) الذي قام بتزويدي بالإرشادات اللازمة .. هذا وعلى الرغم من أنني التقيته لأول مرة إلا أنه أشعرني بأنني أعرفه منذ سنين .. فسأل عن النميري وسيد خليفة والمامبو السوداني ودارفور وطمأنني .. ويوم (الامتحان) جاء الطبيب (الحبابي) لغرفتي في المستشفى وحياني بابتسامته المعهودة وكان مرتدياً هنداماً مريحاً للنفس (قميص نصف كم بألوانٍ قمة في الذوق تريح المريض) .. ثم تم أخذي لحجرة العمليات حيث رأيت أجهزة عجيبة، ثم استمعت لأسئلة ونصائح الممرضات بغرفة العمليات، وعندها طلب طبيب التخدير أن أرفع ظهري وأنحني بقوة فطُعِنت أبرة التخدير ثم استلقيت على ظهري .. بالطبع فقدت الإحساس كلياً بالنسبة للأسفل من جسمي ولكني ظللت بكامل وعيي، وبدأت العملية .. تم فصلي من الطبيب بستارة ارتفاعها عدة أشبار .. وقد حجبت عني أيضاً هذه الستارة جهاز المراقبة، أي الشاشة التلفزيونية التي تكشف دواخلي وسير العملية .. عندها طلب مني طبيب التخدير أن أحكي له نكته .. فأجبته بأنني سأفعل شريطة أن يحرك الستارة قليلاً حتى أتمكن من رؤية سير العملية من خلال الشاشة .. فوعدني بذلك .. فقلت له أن النكتة طبية، وهي لسان حالي الآن وتعكس تخوفي من أن تقطعوا فيني حاجة كده أو كده !. ومفادها هو أن الطبيب دخل على المريض بعد العملية وقال له لدي لك خبران .. أحدهما مفرح والآخر مزعج فبأي منهما أبدأ .. فقال المريض أبدأ بالسيئ ومن ثم أفرحني .. فرد الطبيب قائلاً أما المزعج فهو أننا بطريق الخطأ بترنا رجلك السليمة .. أما المبهج فإننا اكتشفنا بأن رجلك التي كنا نظن أنها (بايظة) إنما هي سليمة .. فضحك الجميع ربما مجاملة لأن النكتة قديمة ..
عندها أزاح طبيب التخدير الستارة بحيث أصبحت أرى جهاز المراقبة كاملاً؛ ويا للهول ..سينما بالألوان .. ولكن الفلمَ مخيفٌ .. دماء وتقطيع .. ولكن دون ألم .. والجهاز الصغير الذي يمعن في القطع كما أراه في الشاشة أمامي يشبه المنجل شكلاً ومضموناً، ويذهب يمنة ويسرة ويقطع هابطاً أو صاعداً .. وكل ما قطع جزءً أتت المياه مندفعة لتغسل ما تم قطعه وتذهب به نحو المثانة، ثم هناك قسطرة أخرى تشطف ما يتجمع بالمثانة للخارج .. يا للهول كل هذا بداخلي ؟ وكيف تم إدخال كل تلك الأجهزة لذاك المكان الضيق !؟ .. سبحان الله .. ثم انتهت العملية وحُجِزت بغرفةٍ المراقبة، وذهب الطبيب لزوجتي وطمأنها بكل لطفٍ عن حالتي، تماماً كما فعل عندما نُقلت لحجرة العمليات ..
في حجرتي اكتشفت بأنه قد رُكبت لي ثلاث قسطرات .. الأولى لإنزال الدواء لساحة المعركة مباشرة .. والثانية لإخراج الدم والبول .. أما الثالثة وهي الأقصر فنهايتها مغلقة، وعندما سألت الطبيب عنها قال (إن بالوناً صغيراً يوجد في نهايتها يفصل الجدران المجروحة من بعضها البعض كي لا تلتصق .. وبالبالون ماء، وقد قمنا بإدخال الماء للبالون بعد أن أدخلناه بالداخل، وعندما تبرأ الجروح سنقوم بإخراج الماء من البالون أولاً ثم سحبه مع بقية المسائل) .. وهذا ما حصل فقد تم سحب الماء من البالون عن طريق حقنة .. عندها قلت للطبيب كيف ستسحب كل تلك القسطرات والبالون ؟.. فضحك وطلب مني أن (أسعل) وتزامناً مع (السعلة) سحب الجميع دفعة واحدة بيده الساحرة بحيث لم أشعر بأي ألم ..
أخيراً أقول بأني زرت هذا الطبيب الإنسان بعد عدة أيام من العملية ولم يأخذ أجراً .. فقلت في نفسي ربما هذا الأمر من ضمن تكلفة العملية .. وطلب مني زيارته بعد ثلاثة أشهر فزرته ولم يأخذ أجراً .. وطلب مني أن أزوره بعد إجراء بعض الفحوصات فزرته ولم يأخذ أجراً .. وفي هذه المرة الأخيرة قلت لممرضتيه بأنني سوف لن أحضر مرة أخرى طالما أنه لا يأخذ مني أجراً !. هذا وقد دفعني هذا الأمر لمقارنته مع بعض الأطباء الذين يعشقون المال عشقاً جماً .. ونحن في حقيقة الأمر لا نطالب بأن نُعالَج بالمجان ولكن المعقولية مطلوبة .. فلله درك يا هذا الطبيب الشاب المبدع الإنسان .. وليهنأ بك المغرب الذي تنتمي أليه ويُشَرِّف كل منكما الآخر .. فأنت قمة في العلم والأدب والذوق والتطبيب، فليباركك الله ويطيل عمرك سنيناً وسنيناً حتى تعطي من إبداعاتك الشفاء بإذن الله لكل متألم يطرق بابك ..
توفيق عبدا لرحيم منصور
http://www.tewfikmansour.net
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة