دارفور .. جدلية الإقليم الواحد بين طموحات الأبناء وأوهام المركز ؟؟ -2-
بقلم / شريف آل ذهب
كثيراً ما نقرأ في التاريخ الغابر ونشاهد في الحاضر كوارث طبيعية وأخرى من صنع البشر كالزلازل والطوفان والحروب المدمرة تحل بأمم وشعوب عديدة كما عليه الحال الآن في إقليم دارفور، ولكنها ما تلبث أن تمضي بوقتها ويمضي معها كافة المآسي الملازمة لها برغم قساوتها ومرارتها ، وما بقيت ألأوطان ، فإن البشر الناجين من تلك الكوارث ما يلبثوا أن يهبّوا جميعاً لتعمير ديارهم كي يستأنفوا مسيرة حياتهم الطبيعية من جديد ، ثم من بعد ذلك نجدهم أكثر ما يكونون من حذر حيال تلك المصائب التي اكتووا من سعيرها ، ولكن عندما لا يبقى هنالك حتى من أوطان تؤويهم فعندئذٍ تكون المأساة الكبرى التي تمتد بهم لعهود لا يعلم مداها إلي الله ، ودونكم مثال فلسطين والصومال وبعض دول البحيرات في أواسط أفريقيا .
و إنّ إقليم دارفور اليوم برغم ما عاناها شعبه ولا يزال ، من ويلات ما جلبها لهم هذا النظام من قتلٍ وتشريد وإفساد للعلاقات الاجتماعية بينهم ، إلا أنه كإقليم لا يزال يحتفظ بكيانه القديم المتعارف عليه عبر التاريخ ، وإذا كانت العلاقات البينية قد تأثرت اليوم بفعل الحرب ، فيقيننا التام أن ذاكرة شعبنا لا تزال تختزن ذلك الإرث القديم من التمازج والتصاهر والعيش المشترك بينهم ، مما يبعث في نفوسنا الأمل بأنه ما أن تنقضي هذه الحرب اللعينة المفروضة عليهم بكافة تداعياتها ، حتى نراهم وقد استفاقوا عن غفلتهم ، ليسعوا بكافة مجاميعهم لإعادة وصل ما تم قطعها من حبال الود القديم بينهم ، وتبقى الأرض والجوار والتداخل البيني هي العوامل والدعائم الأساسية التي سيتم البناء عليها في تلك العملية حتى تخمد الأمور تلقائياً بشكل متدرج مع بذل مزيد من الجهد الذاتي في ذلك السبيل ، ولكن إذا ما سعى الناس لخلق الحلول بعكس ذلك عن طريق تقسيم الإقليم على أساس القبيلة أو العرق وفق تصور وتخطيط البعض كما رشحت بها بعض الدوائر هذه الأيام ، فعندئذٍ تكون الطامة الكبرى ، كون ذلك لا يعني سوى مزيداً من الترسيخ لمعاني العداء بين تلك الأطراف المعنية عوضاً عن حل الإشكال بينهم لا سيما إذا أخذنا في الحسبان الجانب الآخر من الصراع المتعلق بالحوا كير والجدل حول أحقية ملكيتها ، مما يعني خلق أساس جديد لنزاعات أخرى أشتد خطورة وستمتد أوارها لتحرق كافة أجزاء الإقليم مجدداً دونما استثناء . هذه ببساطة هي مثار تخوفنا عما سيقود إليه مشروع المؤتمر الوطني للتقسيم الجديد في دارفور ، والذي لا يعنيهم منه سوى جانب الترضية للبعض من خلال الحلول المؤقتة حتى ينفضوا بجلدهم منها بالهروب إلي الأمام دون أن يكترثوا بعواقبها كيفما ستكون في نهاية الأمر ، بل ربما سيفرحوا بها كونها تخدم أجندتهم الخفية في الإقليم .
نعم نحن نؤيد وننادي بتطبيق الفدرالية في دارفور وكل السودان بل وذهبنا لأبعد من ذلك من أطروحات في حال العدم ، ولكن ليست فدرالية على تلك الشاكلة المزيفة الموجودة اليوم في البلاد ، والتي تعد أسوأ حالاً حتى عما كان سائداً في السابق من نظام مركزي قديم ، حيث كان مركز القرار في الدولة موحداً والأمور تسير وفقها في كافة الجوانب بينما الآن توجد مئات من الدول داخل الدولة السودانية ، ولا نعني بالدول هنا الأقاليم التي تسمى زوراً وبهتاناً بالولايات ، بل نعني بها مراكز القوى والقرار داخل الدولة حيث لكل جهاز من الأجهزة دولتها التي تديرها بنفسها وفق هواها وليس لمصلحة الوطن ، وخذ مثال لذلك ( الأمن بفروعه والجيش والشرطة بأجنحتها الرسمية والشعبية فضلاً عن أجنحة الحزب المختلفة المؤتلفة على نهب خيرات البلاد وإذلال الشعب و المتشاكسة فيما بينها حول مراكز القوى وقسمة المصالح .
إنّ المثال الوحيد الذي نجده يوافق أسس الفيدرالية الحقة في السودان هو ذاك الذي في الجنوب فقط ، ذلك أن الفيدرالية تعني في حدها الأدنى تمتع كل وحدة أو إقليم من أقاليم البلاد بمعظم صلاحيات الدولة عدا في بعض الجوانب السيادية المتعلقة بالعلاقات الخارجية وإعلان الحروب وتوقيع التعاقدات المالية مع الدول ، وحتى في هذه الجوانب توجد ثمة نمازج خرقت هذه القاعدة كمثال ولاية كويبك في كندا التي أسست في العام 1967م وزارة للشئون الخارجية ، وولاية البنغال الهندية التي أجرت محادثات مباشرة مع البنك الدولي للحصول على قرض ائتماني *. ( راجع كتاب الفدرالية ومستقبل التسوية السودانية ، للدكتور / إبراهيم البشير عثمان ) .
وبهذا الفهم للفدرالية فإن المثال السائد في الجنوب اليوم هو ما ننشد تطبيقه في كافة ولايات السودان ، على أن تقوم كل ولاية بإجراء تقسيماتها الإدارية بمختلف مستوياتها من محافظات ومحليات وتوابعها وفق قواعد وأسس جديدة متطورة تذهب نحو تقصير الظل الإداري من حيث الصلاحيات المكتسبة والمرافق الخدمية المطلوبة تيسيراً لحاجيات المواطنين على كافة توزيعاتهم المناطقية.
وكما نرى في جوانب أخرى بضرورة تطوير نظام الإدارات الأهلية في البلاد بما يؤدي لفاعلية إسهام رجالاتها في إدارة شئون الولاية أو المحافظة أو المحلية وفقما تكون من صيغ مقترحة كإيجاد مجالس للشيوخ مثلاً يتم تمثيلهم خلاها علي المستوى الولائي أو صيغ أخرى ذات طوابع استشارية أو إدارية - حتى - ، مما قد يساعد في إخماد بؤر النزاعات ذات الطابع الإقليمي أوالجهوي أوالقبلي في كافة أرجاء البلاد. نواصل ..
|