د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
الموازنة العامة: خيارات صعبة و بدائل محدودة
نكتب كل عام عن الموازنة العامة بشكل مستمر لدرجة اوصلتنا للخوف من التكرار. السمة العامة للموازنة هي التأزم ، اذ لا تكاد تخرج من مطب الا و تنزلق في اخر جديد هو اكثر خطورة من سابقاته. المسألة واضحة وهي ان الوضع السياسي الذي يعيش فيه السودان داخليا و خارجيا يجعل خيارات الموازنة صعبة و بدائلها محدودة لذلك نجدها تسير في طريق ذي اتجاه واحد يؤدي الي فرض المزيد من الضرائب غير المباشرة ذات الاثار السيئة علي تكاليف الانتاج و تدني الانتاجية و التنافسية للقطاع الخاص و المؤدية بالضرورة لارتفاع معدلات التضخم و التضييق علي عيش المواطن محدود الدخل و مفاقمة معدلات الفقر. في ظل الظروف السياسية و الامنية التي يعيشها السودان و تحت سيف الانتقال المرتبط بقسمة السلطات و تانزعها و اقتسام الثروة السائد لن يصل السودان الي الاستقرار الاقتصادي المطلوب و لن يتمكن من وضع خطة واضحة للتنمية تحظي بالاجماع الوطني و صالحة للتعبئة لصالحها كما لن يكون من الممكن التحكم في قنوات الانفاق او الولاية التامة علي المال العام ذلك الامر الذي يحتاج الي الحواة و السحرة كما عبر عن ذلك من قبل وزير المالية السابق في واحدة من المداولات المكشوفة عن سير الموازنة العامة في السودان.
لقد اضافت الازمة المالية العالمية اعباء جديدة و شكلت ضعطا كبيرا علي الموارد المتاحة و ذلك لعصفها باسواق البترول نزولا الي مستويات قياسية و بعد ان اصبح ذلك المورد اساسيا يعادل حوالي 50% من الايرادات العامة. و لن تقف اثار الازمة المالية عند هذا الحد و انما ستكون لها اثار مالية و نقدية متزايدة السلبية علي الاقتصاد العالمي مما سينعكس سلبا علي السودان و قد ظهرت دلائل تفاقم الازمة المالية علي اقتصاد منطقة اليورو و بريطانيا التي دخلت في ركود صريح.
الازمة المالية و اثارها امر واقعي و تبقي العبرة في الخيارات و البدائل. لقد اتخذت الدول بمختلف توجهاتها و مستوي تطورها جملة من الاجراءات المالية و النقدية لمحاصرة اثار الازمة منها دعم القطاع الخاص و المؤسسات المالية الخاسرة و العمل علي انتهاج سياسة حمائية للصناعات و القطاعات الاستراتيجية و ضخ السيولة و التحكم في الاسواق المالية و تخفيض الضرائب و غيرها من خيارات الانعاش الاقتصادي. و يظهر من تلك الاجراءات الخاصة بمحاصرة الركود ان زيادة الضرائب غير المباشرة هي الخيار الاسوأ علي الاطلاق لانها تزيد من الركود و تحد من الاستهلاك. و مع زيادة التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية بهدف محاصرة الركود و انعاش الاقتصاد فان ذلك الخيار يعتبر مستبعدا للاغلبية العظمي لبلدان العالم.
كما ذكرنا بالامس فان خيار الضرائب غير المباشرة الذي يحول العبء بالكامل الي جمهور المستهلكين يعتبر خيارا مستبعدا في ظل الركود الاقتصادي بحكم الطبيعة التراجعية غير المرنة للضرائب غير المباشرة التي تدخل في اسعار السلع و الخدمات و تضر باصحاب الدخول الادني بشكل اكبر بكثير من اصحاب الدخول العليا. اذن يصبح الخيار الامثل للموازنة في السودان هو تخفيض الانفاق الحكومي الي اقصي حد ممكن و ترتيب اولويات الانفاق لتصب في مصلحة التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و تكثيف الاستثمار و دعمه في قطاعات الاقتصاد الحقيقي و بالذات في القطاع الزراعي في السودان بحكم عملية ذلك الخيار. و لكن يبدو ان تلك الخيارات مستحيلة الآن بحكم الواقع السياسي الذي لا يتيح مرونة في اداء الموازنة العامة و اكبر دليل علي ذلك نتائج النهضة الزراعية و انخفاض اسعار المحاصيل الزراعية وقت الحصاد و ارتفاع المواد الغذائية في اوقات الندرة و عجز المخزون الاستراتيجي في القيام بدوره المطلوب بسبب ضيق ذات اليد و تضخم الانفاق الامني و علي المناصب السيادية و الدستورية.
ان وضع سياسة زراعية واضحة مشتملة علي تسعير المنتجات بشكل مسبق و وضع حد ادني و اخر اعلي للمحاصيل بالاتفاق مع المنتجين يعتبر امر مجدي مثل ما ورد حول امكانية شراء القطن من المزارع في وضع الزهرة. لقد علمت الازمة المالية الحالية العالم الكثير من الدروس و العبر و التي علينا الاستفادة منها و من اهم ما يستفاد عدم الاعتماد علي الخيارات المحدودة الضيقة مثل البترول و الضرائب غير المباشرة. من المرجح ان لا تكفي الاجراءات الحكومية التي تم اتباعها في محاصرة العجز في الموازنة العامة رغم تراجع التقديرات و الذي يعتبر مصيبا، ذلك في حالة ازدياد حدة الركود العالمي و تراجع الواردات بحكم ارتفاع الاسعار. و يجعل ذلك الوصول الي اهداف النمو الي 6% و التضخم الي 8% امرا مستحيلا علما بان التضخم في العام المالي 2008 قد وصل الي 26%. و يرجح كل ذلك لجؤ الحكومة الي ما اطلق عليه ( العلاج بالكي) و هو زيادة اسعار المحروقات و السكر و غيرها من خيارات. و لكن ذلك الكي في حالة حدوثه لن يعالج شيئا و انما سيؤدي الي تقرحات اقتصادية مميته. و ربما من الاجدي اللجؤ الي خيار صعب اخر وهو البحث عن قروض بشروط ميسرة لمعالجة العجز و تنشيط الاقتصاد السوداني لدرجة تسمح بزيادة الدين العام المحلي و تلك حلول أجدي من غيرها في ظل هذا الطريق المتعرج. يحتاج الوضع الاقتصادي الصعب لتكاتف الجهود و الاجماع علي موازنة واقعية تتكيف مع المتغيرات الدولية و نتمني ان يجد الواقع الحالي الاهتمام في النقاش الخاص بالموازنة العامة لهذا العام بروح من الشفافية و المرونة و التوافق الذي يتماشي مع الطبيعة الاقتصادية للموازنة التي يجب ان تجاز و ان تنفذ كموازنة للدولة غض النظر عن الرضاء السياسي لانه و في كل الاحوال لابد من موازنة عامة للعام 2009م.
|