السجال السياسي والجدل القانوني حول إختصاص المحكمة الجنائية الدولية/ أ نور يوسف عربي
لقدظل السجال بائنا، كالشمس في رابعة النهار بين السودان والمحكمة الجنائية الدولية إبان تقديم الاخيرة لائحة إتهام بواسطه مدعيه العام أوكامبو ضد الرئيس السوداني عمر البشيرمتهما أياه بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور المضطرب، ثم ان هذا الإتهام الذي تم توجهيه للرئيس السوداني تعد سابقة قانونية غير مسبوقة في تاريخ القانون الدولي ، أو على الأحرى أنها تشكل سابقة قانونية خطيرة ،حيث تكمن مدى خطورتها في عملية التعارض بين مبدأ حكم سيادة القانون ، وإستقلالية وسيادة الدولة الحديثة ، إذ أن مبدأ الحيادية والإستقلالية التي يتمتع بها النظم القانونية المختلفة بما في ذلك القانون الدولي بشتى فروعه العام منه والخاص ، قد تتصادم أو تتعارض مع بعض البنود القانونية التي تركز على مبدأ السيادة المطلقة للدولة على أراضيها ، وان الرؤية الفلسفية للقانون في عدم تجزئةالعدالة قد تكون المنفذ في إنتقال العدالة الدولية لتحل مكان العدالة الإقليمية والتي طالما إرتبطت إرتباطا لصيقا بمبدأ السيادة التي تمثل الواجهة المشرقة لدولة المواطنة والدستور ، ومن ثم تداخل الرؤى حول كيفية تدارك مثل تلك المسائل الفنية وإيجاد الحلول الوسطية التي قد تجنب الإرادة الدولية من الإصطلاء بلظى التحكم والميول إلي اوضاع قد لا ترضي بعض المجموعات المنضوية تحت لواء تلكم المنظومة الدولية
إن الحيادية والإستقلالية التي تحكم دفة النظم القانونية المتعددة والتي تقتضي بدورها على عدم تسييس العدالة والزج بها في براثن الأهواء، ينبغي ان ينظر إليها من هذا المنطلق دون الإلتفات إلي المؤثرات الأخرى التي قد تكبل يد القانون وتقيد فكره ، وتجعل منه دمية صغيرة يعبث بها أصحاب المآرب الشخصية الذين ينحنون للعواصف الدولية الهوجاء التي تهب من المحيطات ذات الكثافة العالية إلي المحيطات الأقل كثافة
لقد تمنطق فقهاء القانون عن الجدل الثائر حول إختصاص المحكمة الجنائية الدولية في نظر تلك الإنتهاكات المزعومة إرتكابها بإقليم دارفور المضطرب، وتشدق آخرون في ذات المضمار ، فمنهم من أنجرف مع تيار العاطفة العمياء ومنهم من جعل من قواعد العدالة والعرف والقانون مقياسا لنظر الأوضاع على أرض الواقع، غير ان مثل هذا الجدل والمراء لا يغير من الحال شيئا ما لم تثبت الأطراف جديتها في الحوار المؤسس للوصول إلي نقطة الحل النهائي لمعضلة السياسة والقانون التي طالما أرقت مضاجع أهل الحل والربط، ولإخماد شرارة هذا اللقط ، فلا بد للدبلوماسية أن تضطلع بدورها بعيدا عن العنجهيات والعنتريات المفتعلة والتي قد تفسد أساس القضية وتجعلها بضاعة رائجة في سوق التكسب الدولي.
أن الأساس القانوني الذي ينبني على أن (لا تجريم إلا بنص) ولا (عقوبة إلا بقانون) فضلا عن القاعدة الأصولية التي تعارفت عليها كافة الشرائع والنظم القانونية المختلفة (كل متهم برئ حتى تثبت إدانته ما وراء الشك المعقول ) يجعلنا نثق في المبادئ الأولية للعدالة وألا نتخوف من الوقوف خلف قضبان العدالة سواء أكانت عدالة دولية أم محلية، طالما ليس للقانون صليح أو عدو وإنما يسري أحكامه على الوقائع دون النظر إلي التبعات، ومن ثم أنه لا طائل من ملاحقة أى أحد طالما أطمئن الطرف الملاحق براءة ساحته من التهم الموجهة إليه.
ومما لا ينطلي على فطنة القارئ إثارة مسألة عدم إختصاص محكمة الجنايات الدوليةبنظر الإنتهاكات التي أرتكبت بدارفور ، بحسبان أن دولة السودان لم توقع على ميثاق روما المنشأة للمحكمة الجنائية الدولية ، ومن ثم عدم سريان أحكامها على دولة السودان، أو على الأحرى ضرورة عدم إلتزام دولة السودان بالقرارات التي تصدرها تلكم المحكمة
فالظاهر يدعم هذا الجدل المثار حول عدم إختصاصية المحكمة،أما بأمعان النظر في لب الموضوع وإعطائه نظرة موضوعية ثاقبة نجد أن قرارات المحكمة الدولية تسري على السودان وعلى أى دولة ذات عضوية في الأمم المتحدة، وذلك لطالما ان القرارات التي يصدرها الأمم المتحدة تتمتع بقوة الإلزام للدول المنضوية تحت لوائها ، وأنها في مرحلة ما أحالت قضية دارفور وفقا للقرار 1593 للمحكمة الجنائية للنظر فيها ، فالمحكمة بالتالي إستقت شرعيتها بموجب الإحالة الصادرة إليها من مجلس الأمن والذي يعد الذراع الايمن للامم المتحدة ، وبناء عليه فإن إثارة هذا الأمر لا يجدي من وراءه نفعا ، بل أجدى بنا أن ننتهج نهجا دبلوماسياحصيفا يخفف علينا وطأة العقوبات وعبء الإلتزامات حتى نخرج من هذه المعمعة بأقل الخسائر وحتى لا نزج الوطن في أتون حرب لا هوادة فيها.
[email protected]