بعد اربعة عشر عاما من المنفي .. الخرطوم في عيون وذاكرة عائد
( 1 ) لم يتركوا لك ماتقول
محمد سيداحمد عتيق
لامانع من ان ارفع صوتي بالسؤال الذي ظللت اردده سرا لاكثر من عام : من اين يبدأ الصحفي نشاطه بعد ان توقف من ممارسة المهنة لعقد ونصف من السنين حين تخطفته دروب السياسة بالغامها وهموم التربية بتعقيداتها في المنافي القهرية التي اضطر اليها عندما اتى المغول على الوطن ؟ العودة لمثل هذه المهنة شاقة ، وعندما تحاول معاندة المشقة يواجهك الواقع السياسي المسموم بازماته الحقيقية ( والهايفة ) وصور الاستبداد الطاغية على مشهده : اذن ، انت محاصر ياصديقي من الداخل والخارج ، وفي الحقيقة استحق انا هذا الحصار لماذا ؟ اعود هنا بالذاكرة الى مطلع ثمانينيات القرن الماضي ( وستكثر مثل هذه العودة لاحقا ) لاتذكر نصيحة وجدتها امامي بطريقة عملية مارسها وقدمها الصديق الكبير والعزيز الاستاذ التيجاني الطيب بابكر في غرفتنا في الكرنتينة ( ب ) بسجن كوبر عام 1981 م ، فقد كانت من عاداته ان يستيقظ مبكرا جدا ليستحم ، فيحلق ذقنه ثم يعود الى سريره ويبدأ الكتابة في دفتر معين يحتفظ به ، قلت له ذات صباح باكر انني ارجو ان تكون مشغولا بكتابة مذكراتك لان ذلك الموضوع قليل في ثقافتنا السياسية ، نفى ذلك قائلا انه انما يكتب تعليقات على الاحداث التي تجري داخل المعتقل مهما كانت بسيطة ، وليست ذات قيمة ، وذلك فقط ليحافظ على عادة الكتابة !! تبا لك ، الان فقط تتذكر وفي الزمن الضائع ؟؟ متعه الله بدوام العافية واتصال العطاء .
ولكن ، الا تستحق الخرطوم التي طالما حننت اليها خلال سنوات المنفى ، ان نقول عنها شيئا ، كيف وجدتها كمدينة وكبشر ، ماذا تغير فيها سلبا وايجابا ؟ نعم تستحق ولتبدأ بها لان اجابتك للاهل والاصدقاء عندما يسالونك : ( كيف لقيت البلد ؟ ) هي اجابة موغله في الاختصار : ( والله ياخي مالقيتا : ) ولا يمكن ان تكون كذلك .
قد يقول البعض : نحن في شنو والخواجة ده في شنو ؟ نحن همومنا في السياسات التي جعلت من السودان واحدا من اغلى بلدان العالم حتى فيما ننتجه وبؤرة حروب اهلية متناسلة ، نحن في حيرة من صراعات الشريكين وبؤس الاداء على المسرح السياسي ، ونحن .. ونحن وهذا البعض على حق ولكنه مستعجل .. ومعذور على ذلك فالضغوط التي يعيشها السودان والسودانيون غير طبيعية فليصبر ذلك البعض قليلا ..
الخرطوم تغيرت كثيرا في سنوات قليلة ، والحديث ليس عن خرطوم الحكمدار خورشيد في منتصف القرن التاسع عشر بل الخرطوم التي تركناها في مطلع تسعينيات القرن العشرين والتي لم تعد المدينة التي نعرفها ونحب .. اصابتها كآبة ولامبالاة غريبتين مع فقر مريع في الحس والذوق .. تجهم تلمسه ويصدمك اينما ذهبت وفي كل وقت ، انها تشهد اكبر حركة تشويه في تاريخ المدن .
عند النظرة العامة الاولى في المدينة بعد اربعة عشر عاما من الغياب عنها سمعت هاتفا يسالني : ( هل عاد علاء الدين نجيب الى الخرطوم ام الى عمورية ) ؟؟ وآخر من دواخلي يهمس : ( هي عمورية ) ياعلاء الدين عندما عدت اليها من غيبتك ! .
عمورية مدينة صنعها خيال او اخيلة الراحلين الكبيرين عبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا اما علاء الدين فهو ابنها ، اديبها الفنان وفيلسوفها المجنون .. فلماذا ترهق نفسك ياهذا في وصف الخرطوم بعد هذا الغياب المطابق لغيبة علاء الدين عن عمورية ، وهو قد اغناك عن ذلك منذ اكثر من ربع قرن عندما اخترق حجب الزمان والمكان ليصف هذه قاصدا تلك ؟؟ لاباس اذن ان تستعير منه او منهما بعض ذلك الوصف بحق العلاقة الطيبة بهم اجمعين ، فقط نراعي وضع اسم الخرطوم مكان عمورية اينما وردت .. يقول علاءالدين ومن خلفه صانعاه الماهران : ( عمورية الآن تشبه العروس القروية التي تريد تقليد نساء المدان فتضع على وجهها كل المساحيق وتضع على جسدها مجموعة من الخرق الملونه المتنافرة ثم تتباهى باستعراضها كل هذا النشاز . عمورية الان مثل تلك العروس القروية .. جاءت الاموال السهلة لتفسدها وتشوهها فلم تحتفظ بالماضي ولا استطاعت ان تدخل المستقبل ) .
( قد تكون عمورية بامتدادتها السرطانية واتساعها الغير منطقي ثم تلك الطريقة الغبية في البناء المستعارة من البداوة بشكلها دون روحها والتي تتخذ شكل البقع او البثور الجلدية في سطوح وسلاسل غير منتظمة قد تكون عمورية بهذا الشكل سببا في خلق الفجوة بين الناس وماحولهم من طبيعة واشياء .. ) .
( نعم ماكانت عمورية لتاخذ هذا النسق من الامتداد والاتساع وماكانت لتكتسب هذه القسوة والوحشية لولا انبثاق هذه الثورة ! اللعنة فجأة. نامت عمورية ذات ليلة وقامت في الصباح لتجد نفسها شيئا جديدا .. )
( انها دخلت في حالة من الغيبوبة رغم حركتها الظاهرة ، ومالم ينفخ في ارجاءها في صور من نوع خارق لست ادري كيف سيتاح لها ان تستيقظ على حقيقتها ؟ ).
هكذا ( لم يتركوا لك ماتقول كما قال الشاعر الكبير محمد الفيتوري قاصدا اطفال الحجارة في فلسطين المحتلة اذ ليس هنالك مايقال في وصف تحولات المظهر العام للمدينة خلال السنوات القليلة الماضية اكثر مما قالاه منيف وجبرا على لسان بطلهما علاء .. ويبدو ان هذا الوصف يصلح ان يكون ختما تختم به كل مدينة يمر عليها المغول وبين ايديهم تسيل وتجري الاموال السهلة .
والى ان نعود الى الموضوع اقول ان هذا لاينفي وجود استثناءات طفيفة هنا وهناك ولكنها تظل استثناءات وذات طابع فردي فعلى سبيل المثال مقهى الاوزون وهي القطعة الفنية الجميلة التي لا تخطئها العين في الخرطوم وبغض النظر عن الذي يستطيع ارتيادها اذ الجميع ينظرون اليها لايمكن اعتبارها نشاطا استثماريا للسيد اسامة داؤد عبداللطيف قياسا بحجم نشاطاته وانما في اعتقادي هي محاولة موفقة منه لتجميل الحي الذي نشأ فيه ، وبل وكان والده من مؤسسيه .. ولاعجب فوفاء الرجل للمكان لم يقتصر على حي في العاصمة وانما سبق له ان اطلق اسماء بلدات نوبية عريقة تعود جذوره اليه على مؤسساته الاقتصادية مثل : دال ، سيقا .. الخ .. والى ان نلتقي مع بعض التفاصيل باذن الله .
عن صحيفتي الصحافة 5/7/2008 واجراس الحرية 17/7/2008
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة