هل يجرى السودانيون إنتفاضة شعبية جديدة؟ (2)
محجوب التجاني
ما بعد أكتوبر 1964
خلال الأربعين عاماً التي أعقبت مؤتمر الدائرة المستديرة ، لم تغير الدولة بأى ناتج فعلى ما أورثه حكم الجنرالات من حكم بيروقراطى سلطوى. واصلت الخرطوم حكمها الأقاليم بالمركزية التي تدار خزانتها بقبضة ضابط تعينه جماعة حاكمة بقوات أمنها (في حالة الديكتاتورية) أو مجلس للوزراء (في حالة الحكومات المنتخبة).
إن تغييرات ذات شأن وقعت بين ظهراني قوي التغيير في ذلك الأثناء…
فالنقابات متينة النشأة والأحزاب السياسية (بخاصة الحزب الشيوعي السوداني) انحسر مدها وتراجعت مبادرتها نسبياً تحت ضربات ثقيلة العداء من الجنرالات ، ونميري، والبشير وأنظمتهم القمعية . علي أنه باعتماد فكرة إنشاء سودان جديد من نسج قرارات مؤتمر الدائرة المستديرة وروحه الخلاقة، انبثقت حركة تقدمية بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان.
فكرة السودان الجديد الذي فعل رقيها جون قرنق تأسيسا علي حق المواطنة المتساوية لم تكن قادماً جديداً؛ فقد عبر عنها في أشكال مختلفة محمود محمد طه، وويليام دينق، وعبدالخالق محجوب، وجوزيف قرنق، وفتحي أحمد علي، بين آخرين، في عدة أعمال أدبية أو بيانات سياسية.
الجديد في مساهمة الحركة الشعبية أنها: "علي خلاف حركات الجنوب السابقة، بينت الحركة الشعبية منذ البدء أنها ليست حركةانفصالية، لكن دورها هو تحرير كل الشعب السوداني من طغيان الديكتاتورية العسكرية، والتنمية غير المتكافئة، والحرب الأهلية المزمنة. وبهذا، مثلت الحركة مرحلة جديدة في تطور الجنوب السياسي واجتذبت الي كادرها بعض المثقفين الشماليين " فيما دون القاموس التاريخي للسودان.
ما مدي مماثلة الأوضاع الراهنة في أكتوبر 2008 بالاوضاع السائدة أيام انتفاضة اكتوبر 1964؟
هل أفسحت الجماعات الحاكمة الطريق لحركات دارفور، والنوبيين والمناصير في الشمال، وقوي شرق السودان لتشارك علي قدم المساواة في إدارة الدولة؟
وهل اقتنع حزب الجبهة/ المؤتمر الوطني أخيراً بأنه يقود حكومة انتقالية لتحضير البلاد للانتخابات الديمقراطية، وإنه ليس حكماً أبدياً بقوة العسكر وتسلط الأمن الرقابي علي أهل البلاد؟
وهل كيفت الأحزاب السياسية برامجها وخط سيرها وفقاً للمقتضيات الدستورية لاتفاقية السلام لإنجاح الممارسة الفعلية لحق تقرير المصير في الجنوب؟
هل تخلت الأحزاب عن مخاوفها الجارية لتشككها أن الجنوب ربما يرفض الوحدة مع الشمال بمحض إرادته؟
أكتوبر 2008
أوضاع السودان بالغة التعقيد في عالم اليوم : تجثم علي كاهل الوطن ديكتاتورية عابثة تتدثر شعارات إسلامية نزعت عنها كل طهر بسطوة الحكم وتجبره ، في تعاون آثم معاد للسودانيين علي الأصعدة الأيدولوجية والمادية، مؤيداً من الحركة الاسلامية الدولية المزعومة ومثقفي القومية العربية الفاترة ومنظماتهم عديمة الإكتراث بأصول السودانيين الإفريقية العريقة.
وفوق كل ذلك الاستهتار ، تعترض سياسات النظام الاقصائية حقيقة، حريات المجتمع المدني المستقل بأحزابه ومنظماته، وتحول دونه والمشاركة المستحقة في القرار القومي لقضايا الأمة وحاجاتها الحيوية.
تعانى الحركة الجماهيرية السودانية عدوانية شرسة من صفوة الجبهة / المؤتمر (بالأمن والجيش، والشرطة، والمليشيات المتجريئة بترسانة قوانين حمايتها وتعاونها على العدوان).
الأحزاب السياسية التقدمية (الحركة الشعبية لتحرير السودان، الشيوعيين، ويوساب، الخ ) والنقابات والاتحادات المهنية تعانى أيضاً بدرجات مختلفة من تركة الحروب الأهلية، وتدابير الأمن الغليظة التى لا تسمح إلا بهامشٍ لا يذكر لأحياء الديمقراطية فى حياة الناس اليومية.
أما الاتحادى الديمقراطى والأمة كحزبين ليبراليين ومحافظين فى نفس الوقت فانهما يقاسيان صراعات داخلية وحالة من فقر التمويل في آليات العمل مما يضعف من دور القيادة فى الساحة السياسية.
الجماعة الوحيدة المستولية على السلطة وخزانة السودان، متحررةً من كل محاسبة أو مراجعة (بالرغم من تقارير ديوان المراجع العام الشاكية منذ يونيو 1989 الى اللحظة من فساد قيادات حكومية كبيرة وتجريمها)، هى حزب الجبهة / المؤتمر الوطنى، الطغمة الحاكمة التى تتشبث بالسلطة بكل الطرق والأساليب الهدامة ، مما جعل من السودان «دولة القارة الأفريقية والعالم العربى المريضة».
أما مظلة المعارضة ، التجمع الوطنى الديمقراطى، فهى تنظيم سياسى غير ثورى، فالتجمع ائتلاف لجماعات فيها المحافظ، والليبرالى، اجتمعوا فى المقام الأول على برنامج عام لإزالة الديكتاتورية الماثلة. يؤازر التجمع إتفاقية السلام ويرمى إلى تحقيق السلام العادل الدائم عبر نظام قادر يصوغ علاقة المركز بالاقليم في تجاوب مبدع مع المعايير الدولية والوطنية المرعية.
لقد هيأت اتفاقية السلام المجال لتطبيق برنامج واقعى يكفل الوحدة الوطنية بين أجزاء الوطن. والسؤال هو: أي خطوات جادة اتخذتها الحكومة لبناء جسور الثقة بين الأقاليم ضحية الحكم المركزى، والمركز المفترس؟
على الرغم من التدابير المقيدة للحريات والحقوق من حكومة الجبهة/المؤتمر، يقع على الحركة الشعبية، والتجمع الوطنى الديمقراطى، وقوي التغيير الاجتماعى الاخرى واجب أساسى لا غنى عنه، وهو طرح البرامج الجماهيرية الهادفة وقيادة العمل الشعبى لإنجازها.
سياسات خارجية متناقضة
سياسة السودان الخارجية في اكتوبر 2008 مختلفة تماماً عن حالها فى اكتوبر 1964. فقبل أربعين عاماً خلت، جعلت الحرب الباردة من الممكن لقوى السودان، محافظة كانت أم تقدمية، مساحةً لصنع علاقاتها مع الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، القوتين العظميين، مما اقتضته توازنات العالم الثالث مع عوالم النفوذ والسلطان.
كانت حكومة الجنرالات على علم وادراك بهذا الواقع، ومن ثم، يذكر التاريخ احمد خير، المثقف الوطنى الرائد رفيع الشأن، الذى استطاع من موقعه كوزير للخارجية ان يعقد صفقات رابحة مع الاتحاد السوفيتى (لإنهاء كساد القطن) في نفس الوقت الذى ضمن فيه علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع الولايات المتحدة ومصر تحت قيادة جمال عبد الناصر المرموقة.
قَطّعت حكومة نميرى (1969 - 1985) علاقات السودان مع الغرب قبل أن تدور علي نفسها لتقطع علاقاتها مع الشرق - تكلفة جسيمة، أوقع التخبط بعدها الوطن بائتلاف النظام مع الجبهة القومية الاسلامية فى قبضة معاداة الديمقراطية والدوس على الحركة الجماهيرية، الذى واصل به نميرى اضطهاد الجنرالات سىء الذكر للنقابات والاتحادات المهنية.
ولزيادة الطين بلة ، سَعّر الديكتاتور حربه الأهلية بما اشترع من قوانين دينية، وألحق سياسة البلاد الخارجية بقرارت فردية بسياسات السادات.
لقد حاولت حكومة الجبهة / المؤتمر الوطنى، في ظروف معينة، دونما نجاح يذكر، ان تبدد عداوات الأخوان المسلمين بحق جيران السودان من الدول صديقة الغرب، بوجه خاص، تحيلها باباً مفتوحاً لبراغماتية التجارة (من خلال صفقات البترول) مع الصين وعلاقات الحكومة بإيران - أنظمة مشبوبة الطموح فى المنطقة - إضافة إلى عدد من دول الخليج بعلاقاتها الوثيقة مع الغرب.
وفيما جاء بآخر الأنباء، حثت الصين الأحزاب السودانية والحركات المسلحة للعمل سوياً لحل الأزمة، وهو نصح راشد.
على أن التزام الصين بتقوية النظام الحاكم بالرغم من طبيعته القمعية عن طريق صفقات السلاح ودبلوماسية التنين، بدلاً من تشجيعه على احترام حريات الشعب السودانى الأساسية وحقوقه الجوهرية، سوف لا تدعم الضغوط الضرورية المبذولة لحمل النظام على الاذعان للشرعية القومية والدولية.
تخلص النظام الحاكم من الترابى والمؤتمر الشعبى كان إيذاناً بدخول الحكومة فى علاقات متزايدة مع الحركة الاسلامية وتجارها واصحاب أعمالها في عدد من الدول العربية وأمم المسلمين، بما فى ذلك مصر، ولكن الانقسام السياسى الكائن ما بين جماعات الجبهة لم يتحسن به موقف الرئيس المتهم دولياً.
السياسة الخارجية المحكومة حزبا، مع ما حصلت عليه الجبهة / المؤتمر الوطنى من فوائد اقتصادية ضخمة تتدفق بلا حق في جيوب حزبها وأمنها وسماسرة صفقاتها وعملائها - صحافتهم البخسة، أبواقهم الرخيصة، وأقلامهم المرعوبة من فضح جرمهم لن تفلح فى اصلاح سفه حكمهم - ووفودهم المرصودة لن تفلح فى انهاء التناقضات العويصة الجائلة ما بين ايران بجنوحها الراديكالى في الساحات الاسلامية، ومصر وغيرها من دول العرب صديقة الغرب.
وقد فشلت السياسة الخارجية فى انهاء العداوة المبيتة بين توجهات الحركة الشعبية نحو القارة الأم افريقيا مع ما للحركة من شركة في إتفاق السلام مع النظام الحاكم، وتعهدات الأخير للقومية العربية والحركة الاسلامية الدولية.
وبتأرجحه على غير هدى على عتبات كل هذه المواقف المتصارعة، حكم النظام على بنود اتفاقية السلام الشامل بالشلل، وهي بنود تشترط ترقية حياة الأمة بتطوير قدرات الشخصية الوطنية ورفاهية المواطن عبر برامج التعددية الثقافية والمواطنة الدستورية.
مؤتمر جديد في مائدة مستديرة
يحتاج السودان مؤتمراً جديداً، مائدة مستديرة : المؤتمر الدستورى لكل السودانيين.
علي أن الأرجح احتمالاً أن مثل هذا المؤتمر سوف لا يعقد بكل منطلقاته، ما لم تجذب روح أكتوبر الانتفاضة قيادات وطنية جديدة لتولى زمام الأمور في حركة المجتمع المدنى الجماهيرية، مثلما حدث فى الستينات الباهرة وانتفاضة الثمانينات المنتصرة.
هذه القيادات الموعودة الواعدة ربما تكتسب ثقة الشعب ودعمه، إضافة الي العون الاقليمي والدولي اللازم للحركة الجماهيرية السودانية كي تمضي قدماً لتطمين مصالح السودان في الانتخابات القادمة، بقدر ما يزال من ترسانة الجبهة القمعية من همجية وقوانين استبدادية.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة