صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


مطالعة في طروس كبير العسس و البصاصين ( 2 ) /مصطفى عبد العزيز البطل
Oct 30, 2008, 20:33

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

غربا باتجاه الشرق

 

مطالعة في طروس كبير العسس و البصاصين ( 2 )

 

مصطفى عبد العزيز البطل

[email protected]

 

قبل أن نستطرد فى عرضنا لمذكرات الفريق أول عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية و رئيس جهاز الأمن العام الأسبق، التى ضمّنها فى كتابه ( أوراق من الذاكرة )، نقف هنيهة أمام بعض عقابيل الحلقة الماضية.  كتب الىّ صديق عزيز، ذى قدم فى مجال الثقافة، عين نفسه بحكم الصداقة عساسا على مقالى الاسبوعى، يعنفنى على عبارة وردت فى تلك الحلقة، وكنت قد أشرت الى كلمة دارجية معينة و قلت فى شأنها أنها متداولة فى ( عامية السودان النيلى ). و صديقنا يستنكر هذا الاستخدام و يتساءل قائلا: ( لماذا لا يشمل التعبير السودان غير النيلى المتحدث بالعربية؟ عندى أن هذا التعبير مجحف لبعض أهل السودان، و فيه إهمال لهم و إغفال لأولئك الذين يتحدثون ذات الدارجة وهم خارج نطاق الشريط النيلى، فأهل كردفان مثلا أو كل المناطق الواقعة غربى كوستى تشملها الدارجة السودانية، و لا يمكن بأية حال أن نضمهم داخل إطار السودان النيلى، ثم أن" السودان النيلى" ليس ناطقا كله بالدارجة العربية أو المستعربة، فهو يشمل " الشلك و الأنواك " و غيرها من قبائل الجنوب النيلية. وهذه الصيغة الظالمة سار بها كثير من المثقفين مثل كمال الجزولى و أبكر آدم إسماعيل، دون أن يدركوا أنها لا تمثل سائر المتكلمين بالعربية الدارجة..). و قد ركبنى الهم و الغم فى المبتدأ، بعد أن رأيت شخوص الأدلة فى مواجهتى على الخفة و ضعف الحساسية و عدم التثبت فى إستخدام الكلمات و التعابير. ولكننى ما أن رأيت إسم صديقنا الاستاذ كمال الجزولى ضمن لائحة المتهمين حتى هدأ بالى و تنفست الصعداء، إذ زيّنت لى نفسى بأن أمرنا إذا تداعى الى البراءة فحمدا و شكرا،  أما إذا تصاعد الى الإدانة فإن السجن مع كمال الجزولى عرس! و لعلنى أضيف أنه لم يسبق لى التعرف على المتهم الآخر الاستاذ أبكر آدم إسماعيل، لا شخصا و لا إنتاجا، بسبب من ظروف الهجرة المتطاولة، و ضعف المروءة والهمة الثقافية.

 

و هناك أيضا بعض ملاحظات حول مادة الاسبوع الماضى فرضتها علىّ سكرتارية تحرير ( الأحداث) و مصححها. الملاحظة الأولى أن العنوان الرئيس للمقال في صياغته و طباعته الأصلية ينتهى بقوسين يضمان الرقم واحد، كناية عن أن المادة المنشورة تشتمل على الجزء الأول من جزئين أو أجزاء متعددة. و لكن المادة المطبوعة في نسختى الصحيفة الورقية والالكترونية جاءتا بعلامة إستفهام بين القوسين، و أحلتها محل الرقم واحد، و ذلك أمر محير حقا! و عندى أن علامة الإستفهام من غير سبب تستوى فى الحُكم التقريرى مع ( الضحك من غير سبب ). ثم أن جميع التواريخ الواردة في متن المقال، ممتدة بين الخمسينات و الثمانينات، إختفت فى الطبعتين الورقية والإلكترونية و ظهرت بدلا عنها علامات إستفهام متراصة مما أحدث لبسا لدى الكثير من القراء. و لأمر ما لم تقم السكرتارية بتدارك هذه الأخطاء و تقويمها فى حينها. كذلك قام مصحح الصحيفة بتغيير كلمة ( همبر ) و هى ماركة لسيارة بريطانية الصنع كانت الدولة تخصصها لقادة وحدات الحكومية في ستينات و سبعينات القرن الماضى. و كنت قد كتبت أن أدارة المديرية الشمالية كانت تخصص للمرحوم صالح محمد طاهر مدير الشرطة بالإنابة و مدير المديرية الأسبق عند زيارته لمدينة عطبرة سيارة ( همبر )، و لكن المصحح أطاح بحرف الباء فصارت الكلمة ( هَمَر ). و الهمر، بفتح الهاء و الميم، سيارة ضخمة تكاد تشبه دبابات القوات المسلحة، ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية في الولايات المتحدة، و تحتازها فى المدن الإمريكية زمرة محدودة للغاية من القطط السمان. ولم أكن أتصور أن مصحح ( الأحداث) قد سمع أساسا بهذا النوع من السيارات، حتى لفت إنتباهى صديق، عاد الى مينيسوتا لتوه من السودان، إلى أن سيارات الهَمَر تجوب شوارع الخرطوم، تماما كما تجوب شوارع سان فرانسيسكو و هيوستون و شيكاغو. فللسودان، كما لأمريكا، قططه  السمان، و لا فرق بين قط و قط إلا بالتقوى، و كل الصيد فى جوف ( الهمر )! و مهما يكن من شئ فأن عطبرة الستينات و السبعينات عرفت سيارات الهمبر، ذات الباء الرابضة بين الميم و الراء، و كانت كما ذكرنا مخصصة للقادة التنفيذيين و العسكريين مثل المحافظ  و قمندان البوليس و قائد سلاح المدفعية و حكيمباشى صحة المديرية. أما الذين يلون هؤلاء في المسئوليات الحكومية فكانت تخصص لهم سيارات، بريطانية الصنع، أصغر حجما، يُطلق عليها ( هِلمان ستين ). وهذا لعلم مصححنا الأكرم، لأننى أزمع العودة الى هذه السيارات و أنواعها عندما أعود فى وقت قريب أن شاء الله لمواصلة سلسلة ( سباحة حرة فى نهر عطبرة )، و أريد منه أن يترك سياراتى في حالها.

 

و من الخير لنا أن نعود الآن الى المذكرات، و قد صرفتنا عن مدارها الصوارف، و حرفتنا عن مسارها الحوارف، و العود أحمد. و نعايش فى أوراق الفريق عبد الوهاب مواقف تاريخية عميقة الدلالة، شارك فيها بحكم وظيفته كضابط شرطة، ففى الأول من يناير من عام 1956 ، و هو يوم مائز في تاريخ الوطن، كان صاحبنا قد تلقى تكليفا تشرف به أيما شرف، إذ أختير ليكون مرافقا للإمام عبد الرحمن المهدى أثناء مراسم الإحتفال بإستقلال السودان. و قد إنفعل الإمام بالموقف إنفعالا شديدا فإجهش بالبكاء، الإمر الذى حمل مرافقه الضابط الصغير عبد الوهاب على مغادرة الحفل و العودة بالإمام الى سرايته. و خلال مسيرته في خدمة الشرطة نقف على تفصيلات شديدة الإهمية لأحداث لم تجد من يصوّب عليها ضوءا كافيا، و من ذلك ما نقرأ عن محاولة للإستيلاء على مدينة واو بكاملها قام بها الرقيب برنادينو ماوقير فى العام ١٩٦٤. و يقول الفريق أن هذه المحاولة ( أوشكت أن تنجح ) لولا أن طلقة طائشة أصابت الرقيب الطموح فى قدمه و سهلت أمر القبض عليه. و قد إستنتجت مما قرأت أن هذه المحاولة الجريئة كانت عملا منفردا و لم تكن جزءاً من خطة لحرکة أوسع تحت رعاية منظمة أنيانيا التى كانت ضالعة في التمرد آنذاك. و كنت أود لو أن الفريق توسع بعض الشئ فأفادنا – و هو الذى تولى التحقيق مع الرقيب برنادينو و رفقته من المتآمرين – عن حقيقة أهداف الرجل و تصوره لكيفية إدارة مدينة واو فى حال نجاح خطته للاستيلاء عليها. و بين فترة عمل عبد الوهاب في الجنوب و إنتقاله للعمل بالعاصمة أحداث و روايات عديدة جاذبة للانتباه، و لكن قضية واحدة يصفها صاحبنا بأنها عبارة عن ( تصفية حسابات ) شغلت عقلى لبعض الوقت. فبعد ثورة اكتوبر 1964 تم تعيين كلمنت أمبورو وزيرا للداخلية، وكان من أول قرارات الوزير الجديد إبعاد مساعد مدير البوليس السر محمد أحمد من موقعه و نقله الى وزارة المواصلات. و فى تفسير هذا القرار يشير عبد الوهاب الى حادثة بطلاها الوزير كلمنت امبورو و الضابط المعزول السر محمد أحمد، عندما عملا جنبا الى جنب فى المديرية الإستوائية، الأول مساعدا لمدير المديرية و الثانى قمندانا للبوليس. و كان قد صدر أمر من مدير المديرية للقمندان بالتحقيق مع كلمنت أمبورو فى بلاغ فتحته ضده زوجته، وكان من نتيجة التحقيق أن تمت معاقبة كلمنت امبورو بتخفيض رتبته. و أستنتاجنا، الذى هو من جنس إستنتاج الفريق عبد الوهاب، هو أن الوزير أمبورو لم  يستطع، حتى بعد تقلده الوزارة، تجاوز مرارات الماضى و التعالى عليها!

 

ثم نجد بعد ذلك الكثير المثير خلال فترة توليه مهام حكمدار مدينة أم درمان فى أواخر العام ١٩٦٥. فالعداء و الشحناء بين القيادات السياسية خلال عهد الديمقراطية الثانية ينعكس بصورة أو بأخرى على الأداء الأمنى. و مثال ذلك أن يقوم رجال الأنصار و الختمية معا بإطفاء مصابيح سرادقى الطائفتين فى وقت متزامن، مما يؤدى الى أظلام مناطق واسعة من ساحة المولد النبوى الشريف عند لحظة دخول الرئيس أسماعيل الأزهرى مكان المولد في ميدان الخليفة، واللحظات الصعبة و الحرجة التى يواجهها، نتيجة لهذه الممارسات و مثيلاتها، بصفته الحكمدار المسئول عن الأمن.  من أعقد المواقف التى مرت على الفريق عبد الوهاب أثناء توليه حكمدارية شرطة أم درمان، و أكثرها حساسية، كانت عندما قام المحامى كمال الدين عباس برفع دعوى قضائية ضد وزير الداخلية السيد أحمد المهدى متهما إياه بأنه ضربه بعصا على رأسه خلال اجتماع حزبى. وقد سلم قاضى ام درمان عبد الرحمن التوم للحكمدار عبد الوهاب أمرا قضائيا بالقبض على وزير الداخلية. و  تقول المذكرات أن الحكمدار عندما دخل سراى المهدى لتنفيذ الأمر تجاوب معه حفيد المهدى ووزير الداخلية فأقتيد الى مركز الشرطة حيث أخذت أقواله و صودرت منه العصا و أستبقيت كمعروضات. و لكن القضية تمت تسويتها بين أطرافها وديا بعد ذلك فزال الحرج الذى كان من شأنه أن يتسبب فيه تقديم وزير الداخلية الى المحاكمة. و من أكثر المشاهد تعبيرا عن أحترام قادة النظام السياسى الديمقراطى للقانون ما ترويه المذكرات عن القبض على الوزير محمد أحمد المرضى فى أعقاب حادث سير تسبب فيه بسبب إخفاقه في التوقف عند علامة مرور حمراء، ثم حضور رئيس الدولة أسماعيل الأزهرى و قيامه بنفسه بإستيفاء جميع أجراءات الضمان اللازمة قبل أطلاق سراح الوزير من حراسة الشرطة.

 

و عند قيام أنقلاب 25 مايو 1969 تبدأ مرحلة جديدة فى حياة صاحبنا، و كان وقتها نائبا لمدير الأمن العام و لم تكن صلته بالرائد فاروق عثمان حمد الله، أول وزير للداخلية بعد الإنقلاب، خالية تماما من بعض التعقيدات. فقد كان فاروق، بعد فصله من القوات المسلحة قبل الانقلاب، قد الحق بالعمل مساعدا لضابط بلدية أم درمان، حيث عهدت اليه مسئولية إزالة السكن العشوائى بمنطقة أم بدة، وكانت طبيعة عمله تقتضى التعامل مع عبد الوهاب الذى كان مسئولا عن الشرطة، و لم يكن فاروق فيما يبدو مرتاحا لطريقة تعامل عبد الوهاب معه.  و قد تجلى ذلك – بعد تولى فاروق منصب وزير الداخلية - فى حديث دار بينه و بين و اللواء زيادة ساتى عبر فيه وزير الداخلية عن إعتقاده بأن (التعامل والتعاون مع عبد الوهاب صعب).  و تستعرض المذكرات بعد ذلك – وبدرجة عالية من الشفافية – الصراعات التى دارت فى وزارة الداخلية بين محاور متباينة المواقف والرؤى، نتيجة لإستقدام الحكومة لبعض أعضاء الحزب الشيوعى السودانى للوزارة و إسناد مهام أمنية اليهم.  قد كان موقف صاحبنا من هذه الصراعات واضحا منذ البداية فقد جاهر برأيه من أن كادرات الشرطة كادرات مهنية وطنية وليست حزبية، و أنها قوة نظامية لا يرأسها من لا ينتمى إليها. و فى أجتماع عام لضباط الشرطة أعترض عبد الوهاب على وجود كوادر حزبية. و قد كان من مؤدى هذه المواقف أن تم نقله الى ادارة الجوازات بناء على إيعاز من رجل الحزب الشيوعى القوى داخل الوزارة محمد أحمد سليمان. و بخلاف توقعات الكثير من زملائه فإنه استمر في العمل و لم يتم فصله و يعزى عبد الوهاب ذلك لشخصية الرائد فاروق عثمان حمد الله الذى يصفه بأنه كان شخصا  (مرنا و معقولا و يتفهم الرأى الآخر).

 

و تتناول المذكرات بشئ من التفصيل الإتهامات التى طالت عبد الوهاب من قبل بعض تيارات و شخصيات المعارضة السياسية للنظام المايوى، والتى وصفته بأنه كان من أشد معارضى المصالحة الوطنية التى عقدها الرئيس جعفر نميرى مع تنظيم الجبهة الوطنية خلال عامى 1977-1978، و  هو ما ينفيه صاحبنا كما سيرد. و الذين أطلعوا على الوثائق الإعلامية لتلك الفترة لا بد أنهم لاحظوا قسوة و ضراوة الهجوم الذى دأبت على توجيهه للفريق عبد الوهاب، سواء بصفته الشخصية أو بصفتيه الرسميتين كوزير للداخلية و رئيس لجهاز الأمن، مجلة ( الصباح الجديد ) التى كانت تصدر من لندن خلال السبعينات ناطقة بلسان تيار متميز فى المعارضة قاده الراحل الشريف حسين الهندى، و كان يرأس تحريرها المغفور له حسين عثمان منصور. و من ثوابت ماكيت تلك المجلة صورة دائمة، كانت تظهر فى كل عدد من أعدادها، للفريق عبد الوهاب يغطيها خطان متقاطعان فى شكل علامة ( خطأ ) و تحتها عبارة واحدة لا تتغير وهى: ( عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية الفاشيستى المغرور)! و لا غرو أن عبد الوهاب كان فى طليعة المستهدفين يوم دخلت الخرطوم طلائع قوات الغزو فى يوليو 1976، و لم يتنبه قادة الغزو و منفذيه أن الرجل كان يومها خارج البلاد، فجهدوا فى تعقب مظانه داخل الخرطوم دون جدوى، ثم وقعوا على شخص أسمه عبد الوهاب إبراهيم سليمان، كان يعمل مهندسا بجامعة الخرطوم، فأقتحموا داره و ألقوا عليه القبض. وقضى المهندس فى الأسر ساعات عصيبة حتى تمكن من أثبات أنه ليس رئيس جهاز الأمن ووزير الداخلية. و قد آثر هذا الرجل أن يُبقى على وقائع المحنة التى تعرض لها سرا مطويا لعهد طويل، غير أننى إستأذنت فى نشرها إبنة شقيقته، صديقتنا الدكتورة نهلة عبد المنعم عباس، أختصاصية الأطفال فى إحدى مستشفيات بريطانيا.  و كان بعض قادة المعارضة الذين آبوا الى السودان بعد المصالحة قد أدلوا بتصريحات وفيرة منشورة تصف الفريق عبد الوهاب بأنه يشكل مركزا من أقوى مراكز القوى عداءً للمصالحة. و فى معرض الرد على هذه الدعاوى يقول عبد الوهاب أن نظام مايو لم يعرف مركز قوة بخلاف جعفر نميرى.  ثم يؤكد أنه لم يضمر العداء للمصالحة و عناصرها، كما ردد هؤلاء بغير علم و لا هدى  و لا كتاب منير. غير أن القارئ يلمس، بعض مشاعر الرجل الحقيقية من سطور متناثرة هنا و هناك فى أوراق المذكرات. و قد خلصت من جانبى الى نتيجة عمودها أن الفريق لم يكن فى خويصة نفسه راضيا عن المصالحة. و لكن ذلك لم يكن لسبب يتصل بنظرة سالبة لقيادات و عناصر الجبهة الوطنية أو تشكك فى جدوى المصالحة و نتائجها، و أنما كان الدافع الرئيس يتخلق من واقع رؤية أمنية استراتيجية احترافية. و هو أمر يتجلى فى أوضح صوره عندما نتأمل وقائع أجتماع لمجلس الأمن القومى تساءل فيه الفريق عبد الوهاب عن سبب إبعاد الحزب الشيوعى السودانى من المصالحة، وقد ورد على لسان الفريق: ( إنها لو كانت مصالحة وطنية حقا فإنها يجب أن تضم كل المعارضين ). و قد كان رد فعل جعفر نميرى فى مواجهة هذا الحديث هو الغضب العارم و مغادرة مكان الإجتماع. و يتضح من ذلك جليا أن صاحبنا كان يعتقد أن إطلاق سراح الإسلاميين و عناصر الأحزاب التقليدية من السجون و إدغامهم فى برنامج مصالحة قومية يتضمن إشراك هذه القوى في السلطة، ينبغى أن يوازيه من المنظور الأمنى الإستراتيجى معاملة بالمثل للتيار اليسارى المضاد و المعارض المتمثل فى الحزب الشيوعى و كوادره التى كانت موزعة بين السجون و المنافى.

 

و لكن المصالحة الوطنية لم تأت من فراغ، والواقع أن حركة الغزو العسكرى المسلح، الذى شهدته البلاد فى الثانى من يونيو  1976، والنجاح النسبى الذى حققته فى السيطرة على العاصمة لبعض الوقت كان لها القدح المعلى فى بلورة قناعة الرئيس نميرى بضروة التوصل الى حل سلمى تصالحى مع الجبهة.  و قد يصح السؤال هنا: كيف ولماذا نجحت الجبهة فى تنظيم و شن ذلك الهجوم المروع على العاصمة؟ و ما هو تفسير الفريق عبد الوهاب الذى كان المسئول الأول عن الأمن العام في البلاد لذلك؟ نجد عند الرجل معلومة ساطعة تتصل بعملية الغزو وقفت عليها للمرة الأولى و أنا أطالع المذكرات، و جوهر المعلومة هو أن جهاز الأمن العام كان على علم شبه تفصيلى بمخطط غزو العاصمة، فقد تقدم الى السلطات المواطن حامد الناير، الذى يملك و يدير ورشة حدادة بالخرطوم، بمعلومات مفادها أن بعض عناصر الجبهة الوطنية كلفته شخصيا بمهمة تأجير و تجهيز منازل لإستقبال مقاتلين سيشاركون فى عملية غزو مسلح  للعاصمة فى موعد قريب، و ذلك فضلا عن تفصيلات أخرى تتعلق بهذا التدبيرات. و بطبيعة الحال فأن التساؤل المنطقى الذى يتولد عن كل هذا هو: لماذا أذن نجحت قوات الجبهة الوطنية فى اختراق العاصمة بقيادة العميد محمد نور سعد طالما أن خططها و نواياها كانت مكشوفة للحكومة و جهاز أمنها العام؟ و الإجابة التى نستشفها من إفادات الفريق عبد الوهاب هو أنه برغم كل المجهودات التى يقوم بها جهاز الأمن فإن الدفاع عن العاصمة يظل مسئولية أصيلة للقوات المسلحة، غير أن الإستخبارات العسكرية –  لسؤء الحظ أو لحُسنه، بحسب موقع القارئ من النزاع -  لم تأخذ مأخذ الجد المعلومات التى تقدم بها المواطن حامد الناير و أستهانت بها، و قد شاءت أقدار الله أن يكون قائد الاستخبارات العسكرية العميد محمد يحى منور من أول القتلى غداة الغزو. تغمده الله برحمته.

 

و هناك مواقف عديدة تبعث على التأمل حول طبيعة العمل الأمنى والتخابرى الذى أشرف عليه صاحبنا سنوات طويلة. فقبل عملية الغزو المسلح فى يونيو 1976 مباشرة كان الدكتور حسن الترابى قد كتب مذكرة مستفيضة ناقش فيها نشاط و فاعلية الجبهة الوطنية و تضمنت المذكرة نقدا عنيفا لحزبى الأمة و الإتحادى الديمقراطى. وبرغم أن المذكرة كانت على درجة عالية من السرية بطبيعة الحال فإن نسخة منها أنتهت الى حوزة جهاز الأمن العام بعد ساعات من كتابتها. و بعد الإطلاع على محتوياتها قام الجهاز بتسريبها الى قادة و كادرات حزبى الأمة و الاتحادى بعد أن قدّر أن مثل هذا التسريب سيؤدى الى إحداث شرخ بين هؤلاء و حليفهم الترابى.  و بعد سنوات بعث الترابى – الذى لم يستطع نسيان هذه الواقعة - بصديق مشترك، هو الدكتور مبارك على كرار أبو الزينة، عميد كلية الصيدلة الأسبق، الى الفريق عبد الوهاب ملتمسا أن يُنبئه بالوسيلة التى حصل بها الأمن على تلك المذكرة. و لم يقم صاحبنا بتقديم إجابة محددة فى حينها، و أكتفى بالقول أنه ( لا جدوى من جهاز أمن لا يخترق التنظيمات المعارضة ). غير أنه يقدم فى الكتاب إجابة مباشرة، لا لفّ فيها و لا دوران، و هى أن أحد أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين سلم المذكرة لجهاز الأمن بدون مقابل مادى. ثم يضيف ( و مثل هذا كثير فى مختلف الإتجاهات السياسية )! أما على مستوى العمل الإستخبارى المضاد، أو ما يُعرف بالاستخبارات المضادة، فأن و احدة من النماذج اللافتة التى سلط عليها الفريق ضوءا كثيفا هى واقعة ضبط واعتقال ثم أطلاق سراح عميل للمخابرات السوفيتية كان يعمل تحت صفة دبلوماسية عام 1975 بالخرطوم. و قد تمت عملية المداهمة و الإعتقال فى بار إسكرابيه بالخرطوم بينما كان الدبلوماسى الاستخبارى مستغرقا فى مهمة تجسسية مع مصدر سودانى ويقوم بتسليمه مبلغا ماليا، و لم يكن العميل الروسى يعلم أن شخصية المصدر كان يتقمصها المرحوم الضابط الرشيد مكى من جهاز الأمن العام.

 

و بالرغم من أن المذكرات يغلب عليها طابع الجدية الشديدة فأنها لا تخلو من مشاهد و مواقف غاية في الطرافة.  ومن ذلك موقف المهندس صديق يوسف إبراهيم النور، الذى كان فى زمن مضى كادرا شيوعيا نشطا. و عند إستدعائه فى إحدى المرات الى جهاز الأمن لاستجوابه فى أمور تتصل بنشاطه الحزبى سأله المحقق عن عضويته فى الحزب الشيوعى فأكدها، ثم سأله عن كيفية تجنيده و دخوله فى الحزب، فلم يتردد الرجل و لم يطرف له جفن، و أجاب بكل ثقة: ( الذى جندنى لعضوية الحزب الشيوعى هو عبد الوهاب إبراهيم سليمان )، و هى إفادة غير صحيحة. ولكن الضابط المحقق أرتج عليه و هرول  منزعجا مضطربا الى رئيس جهاز الأمن، الذى هدّأ من روعه و ووجهه بمواصلة التحقيق و تسجيل كل إفادات المحقق معه طالما كانت هى أقواله!

 

 

 

 

 

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج