الشباب .. كيف ننتخب ؟
اللحظة التاريخية وحتمية التغيير في الجذر
مؤيد شريف
قد لا يندهش الكثيرون من أني وخلال سنوات عمري الثلاثين لم يسبق لي
|
مؤيد شريف |
الإقتراع في أي عملية إنتخابية !! رئاسية كانت أم نيابية أو بلدية ! ، وليس في ذلك زهداً أو إعتكافاً أو إمتناعاً حتى عن المشاركة في أوجب واجبات الوطن ، إنما وببساطة بسبب أن بلادنا العزيزة لم تشهدها إلا في مرة يتيمة لا يكاد يعترف بصحتها أو نزاهتها عاقل صحيح . وحتى هذه اليتيمة لم يتسنّ لي المشاركة فيها: فقد كنت من (السواقط!!) ، وهي كلمة تستخدم تبريراً لتزييفٍ ممنهج مُسبق وجيد السبك في القوائم ، عُمل من خلاله علي (قص!!) و (حذف!!) كل مترفع عفّ عن جماعتهم بقدر حرصهم علي قيدِ كل (ساقطٍ) حطّ ووقع علي جمعهم .
ولله دوماً حكمة ، وربما كانت حكمته في أن حضوري كان شاهداً علي عملية تزييف وتزوير واضحة إذ رأيتُ بأم عينيّ - الاتي سياكلهما الدود يوما - مُستخدم اللجنة الانتخابية يلحقُ بامرأة ويزاحمها في المنطقة الضيقة المخصصة لعملية الإقتراع خلف الستار الحاجب ، وسمعته باذنيّ يوجهها للتصويت (لفلان) و (فلان) ويُمسك عنها هو بالقلم كما تُمسك ويضعُ العلامةَ حيث يشاء هو وتُستغفل هي ، بل نحن . ومن شدة دهشتي وإندهاشي لحقتُ بالمرأة التي كنت أعرف ولازلت وسألتها ، وكم إزدادت دهشتي عندما علمت مقدار ثمن (الخديعة!!) : 25 ألفا من الجنيهات مخصوم منها عمولة (سمسار الأصوات) وأجرة (الحافلة) التي جاءت بها وعليها تعود!.
ما تقدم من وصف ،لم أعايشه بنفسي إستثناءاً ، بل هو وضعٌ عام ينطبق علي كل أبناء جيلي ، فنحن جميعنا لم نر صناديق الإقتراع إلا عند التصويت لانتخابات اتحادات الجامعات ، وهي قصة أخرى تستحق أن يطول وصفها ، سوى أن الحيز لا يسع ، وما أذكره جيداً ولا يكاد يبرح مخيلتي من تصاوير تلك المرحلة : أطواق الحديد وعصي الحديد (السيخ) وهتافات من هنا وأخرى من هناك (وعينك ما تشوف إلا الدم!!) ، وتتعطل من بعد العملية الانتخابية ، فتُلغى نتيجتها إن لم توافق هواهم ، فتُعين لجنة تسييرية يُعينها كبير من الكبار ، ولا تخرج عضويتها من صغار الكبار (وكأنك يا أبوزيد ما غزيت!!) . وفي إحداها إقتادني مجموعة من صغار الكبار حتى ظننت نفسي (مهما) بسبب العربة الفارهة المخصصة لاعتقالي ، وكانت تُهمتي كما سمعتها منهم : تعكير صفو الأمن العام ! ، والسبب أني جهرت برايٍ مفاده أن ما رسخ من إنطباعٍ عند الناس عن قوة قدرة الأمن ليس إلا إنطباعاً عاماً يُكذبهُ واقع الحال ، وليتهم عندها سمعوا لي وفهموا ما أردت إفهامه ، غير أني لم أجد عندهم إلا ما عُرفوا به وحقّ عليهم من البهدلة والاستفزاز المهينيين . وخلاصة القصة أنهم عجزوا عن إدانتي بفعل تجرمه حتى عقولهم ، فسمعتُ أحدهم، وكانوا ينادونه (عماداً)، يقول : ( نأتي" بواحدة " تقول وتشهد بأنها كانت معه في وضع (مخل) ونحملهم معا الي النظام العام ونجلده هناك!!) ، وقد كان في وسعهم أن يفعلوا إفتراءاً وتلفيقا ، غير أنهم لم يفعلوا ، وكل ما أذكر أنني خرجت الي الطريق العام فرحاً إذ لم يحيق بي ما رأيته من دماء وكدمات علي الجلد منكشفة وأخرى في النفس لا يقووا ولم يُخلقوا ليحسوا بها ويستشعروها ، فالاحساس فعلُ الرحمةِ في الانسان ، وهم لم يكونوا يوماً (إنسان).
أعتذرُ إن تقافزَ هذا التداعي الحر شيئا كثيراً أو قليلاً عن مبتغى المقال ، وهو - وكما يؤشر عنوانه - في الإنشغال بشأن الأجيال الجديدة في العملية الإنتخابية ، وما تُعلق عليها من آمال التغيير والتحسين في أوضاع عُرفت وتُعرف بالتراجع والانكسار والتأزم . وما يَشمُ ، بشكل عام ، هذه الأجيال الجديدة الشابة من غيابٍ لمجرد الرغبة في التفكير في الشأن العام يظلُ هو السمة الغالبة للغالبية منهم ، وكم ينقبضُ قلبي عندما يهاتفني صديق ولا يجد حرجاً من أن يقر بأنه قرأ مقالاً أكثر من مرة ولم يفهم شيئا !!، وهو ليس بقليل تحصيل علمي وقد تكون له درجة علمية مقدرة ! .
ومن هنا وهكذا تفطنت وأدركت أن الكثير الكثير يُنتظر أن يُفعل بحقها ومن أجلها قبل أن يُطلب من هذه الأجيال الشابة المشاركة بفعالية والتأثير بايجابية في واقع حياتها المعاش ومسار وطنها ، والأمر لا يخرج عن كونه عرضاً للأزمة الشاملة في الثقافة والضمير والعقول والاجتماع والاقتصاد والسياسة وما فوق ذلك وما دون ، وإستطالة أوضاع الطوارئ والاستثناء في كل شيء ومنحى ومجال ثبتت ونشرت ثقافة عدم الإكتراث واللامبالاة (الصهينة) : (يا عم هو حد حوش) \ ( أضرب الهم بالفرح ) \ ( اشتري دماغك )\ (الحيجي حيكون أحسن من الفات؟!) ....، وهي عقلية انهزامية وانصرافية مترسخة بالتقادم وشديدة الخطورة ، بل هي فيها تهديد الأمن القومي كما نفهمه لا كما يفهموه ويوظفوه ، فمجتمعاتنا توسم بانها مجتمعات شابة ، تتخطى نسبة الشباب منها الـ 60% ، ما يعني أن هذه الكتلة الضخمة من الحجم الانتخابي تُعزل وتُغيب عن التأثير في واقعها . وإن فعلنا ، وقد فعلنا ، فهذا يعني أن حياتنا كلها مزورة ومزيفة ومفتعلة ، وهي كذلك .
إن الرهان الأساس والذي يزنُ علي عاتق قوى المجتمعات الحية من مراكز أبحاث ومنظمات مجتمع مدني وكتاب ديمقراطيين ومستنيرين وغيرهم التفكير في كيفية العمل علي تغيير اهتمامات الكتلة الشابة المُغيبةُ قسراً والمُتغيبة إختياراً وجذبها لاعتراك الشأن العام ، بل لأن تصبح مركزه النابض وقوته الاساس وعصبه الحي ، بحيث تَقبل علي النشاطات المجتمعية والندوات السياسية والالتحاق بجمعيات ومنظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية بكثافة ، وبالتالي بعثُ روح المشاركة والدافع لدخول العملية الانتخابية بفعالية . ومجموع ما طُرحت من مسائل تظل مطروحة لأهمية الأمر . والأملُ معقودٌ في إسهام الأقلام المُنشغلة بالقضية الوطنية من دون إلتحافٍ حصري لايدولوجيا أو إرتهان مصلحي لجهة والأقلام المستنيرة والحرة من الكتاب والصحافيين ، في الاجابة عليها وإعادة طرحها مرات ومرات في محاولة ملحة لايجاد الحلول وفك عقدة إعتكاف وزهد الشباب في المشاركة السياسية وإعتراك العمل العام .
إن ما إطلعنا عليه ، نحن الشباب ، من تاريخ لبلادنا يكشفُ مدى عمق الانكسارات والاحباطات الوطنية والتي تفجرت منذ لحظات الاستقلال الأولى ، وهي عندي تبدأ من نوعية الطبقة السياسية والتي ورثت عن الاستعمار بلاداً ومصائر ، وفي الوقت الذي كان عليهم الإنكباب والإنشغال ببناء إنسان الأمة دبت بينهم خلافات حادة وطفقوا في حياكة المؤامرات والتربص ببعضهم البعض ، وأعتقد كل من الطائفيين باضعافه للطائفي الآخر ، في الوقت الذي كانوا يضعفون فيه بلاداً وشعباً وأمة وحق الأجيال الجديدة في وراثة حياة أفضل ووطن أفضل ! ، فكان أن إنقسم حزب الاستقلال علي نفسه قبل أن تنقضِ احتفالات الاستقلال وخروج المستعمر الأول وهو الذي يُكنى بـ(حزب الاستقلال) ! ، وقالها الأزهري : أن الانقسام جاء علي خلفية التنافس العبثي علي السلطة والأدوار في الأحزاب والحكومة ! ، والطائفة الكبرى الأخرى في (الأنصار) لم تكن بأفضل حالاً ؛ حيث تواضع (السيدان) وتواطئا علي حكومة الأزهري وحذرا من (خطرها) ، وكل الخطر كان منهما وفيهما ، فأسقطاها وشكلا بديلا عنها حكومتهما لفظاً ومعناً وواقعا "حكومة السيدين" ، ولم تكن (حكومة الطائفتين) كما تقول بعض المصادر ، وبرهاننا ما حدث لاحقاً من إنقلاب سيد (الأنصار) بمباركة سيد (الختمية) عسكرياً في حادثة مثلت ذروة ما نتحدث عنه من محدودية الإحساس بالقضية الوطنية لدى الطائفيين وإنكبابهم أولاً وآخرا علي مواقع السلطة والنفوذ والتأثير ، وهو هدف إنقلاب (الأمة) العسكري علي نفسه والبلاد والعباد وضمير الأمة الشعب الكبير لا الطائفة الأصغر ، فرئيس وزراء السيد سعى باقناع زعيمه أن الانقلاب سيكون سلمياً ومن غير دماء ! ، وما درى أن كل الدماء في ما إستن من "خروج" وتفلت ، وأنه ،أي الإنقلاب ، سيجمع أسباب القوة والسلطة جميعها عند أقدام سيده ، وأن سيده سيكون متاحاً له ما بعد (الكارثة) أن يُعين رئيساً علي الدولة (الضيعة) ! ، وجاءوا بالعسكر يدوسون الرؤوس بأحذيتهم الثقيلة ، ويا لمفارقة القدر وسخرية التاريخ ؛ فما حدث في العام 1958م عاد ليتكرر عبر ذات الطبقة المتماثلة الكارثة وإن إختلفت الشخوص عن كارثة العام 1998م!!، فعبود وجنوده إستلطفوا المقاعد الوثيرة وخرجوا عن حدود تفويض أهل السياسة وأذاقوهم مُر صلف العسكر ، وجماعة انقلاب الجماعة الإنقاذية 1998م الكارثة جاءوا بعسكرهم الي الحكم أو جاءوا هم بهم ، فرحين بما صنعوا ، فانتهى بهم الأمر الى أسوأ من أولاها لعبود : في السجون وتحت الأغلال يعضون أصابعهم ندما وأسفا ويتبرأون من قبح صنيعهم! وما عاد للندم والأسف من صلاحية ؛ فصنيعكم قد تضخم وجثم علي الصدور وقُضى الأمر .
هذه مفارقة واحدة مما تطفح به الكتب والمراجع من إنكسارات الماضي الممتدة الي لحاضر من واقع إستمرار سيطرة ذات النوعية من الطبقة السياسية المُقعدة بذاتها ، وكان الشعب عند جذر الأزمة حاضرا ، فكلما عبثوا بمكتسباته وأذاقوه الظلم والهوان ، عاد لينتخبهم من جديد ويسلط سيوفهم علي رقابنا ! ، وحتى في عالم كرة القدم يكون من المُثمر أن يُشعر المدرب كل عناصر فريقه حتى النجوم اللُمع منهم أن أحداً منهم ليس بمنجى من الدكة أو كنبة الاحتياط ، وعندها فقط يطمئن هو لبزلهم أقصى ما عندهم من جهد . وهذه هي صيغة التفوق والفوز ، أما في عوالم السياسة السودانية ، فالسيد يظل سيدا وإن تواضع فعله وإنعدم منجذه ! ، والشيخ شيخ وإن تقرح جسده بالآثام ! ، والزعيم زعيم رغم أنف الجميع !!!، ولا أحد يقوى علي التغيير من الداخل .
نحن الأجيال الجديدة ليس لنا عقيدةً سياسية مُطلقة تلزمنا جانبا يدعي لنفسه (قدسية) من أي نوع ، وليس لنا زعيم (مقدس) من أي ديانة أو علي أي درجة من سواد اللون ، وليس لنا توهم ايدولوجي يحجب عنا التفكير الحر والتمييز بين (البعر) و (الدرر) ، ولا قداسة عندنا لتاريخ أو نسب (شريف) ، ولا حصانة عندنا لفاشل متجاوز . وكل ما تقدم يضع حل العقدة التاريخية الحاضرة علي ضمائرنا ، ويضعنا أمام مسؤولياتنا في القفز علي قتامة الواقع وعمل شيء ، أي شيء من شأنه تخليص أهلنا من العذابات المستدامة وسلطة القمع والقعود والفساد والتأخر ، فهل نكون علي قدر عظم الكرب والمهمة ؟، فالان وعند هذه اللحظة تحمل الأخبار نبأ أن أكثر من 20000 من أهلنا الطيبيين المتخل عنهم في دارفور أُجبروا علي الخروج الي الصحراء تحت ضغط شدة القتال ، ويكافحون ، فقط ، ليبقوا أحياءا !!! ، فهبوا نُغير واقعهم وواقعنا ، مشاركةً وانتخابا ، قبل أن يأتي الطوفان ولا يخلف وراءه وطن لينقذ أو حتى قطع من أديم الأرض لاجسادنا (النافقة)....