شعب خيِّر لا يستاهل إلا الخير 4/5
" العاصمة"
الفاضل إحيمر/ أوتاوا
في خضم ما نواجه كأمةٍ من مشاكل وتحديات و ما يعترينا من إخفاقات و إحباطات و تآكل للثقة في الغير و الذات و تدني في القيم و هبوط في المعنويات، قصدت بسلسلة مقالاتي هذه التي تجيء كنغمة نشاز مغايرة لما تذخر و تتخم به الشبكة العكبوتية و الفضائيات، قصدت التذكير بأننا كنا و يجب أن نسعى لأن نكون دائماً و رغم كل شيء شعباً خيِّراً طيباً كريماً و نبيلاً لا يستاهل ولا يستحق إلا الخير و بغيرِ ذلك يجب أن لا يرضى أو يقبل. لأجل ذلك أوردت وقائع كنت من شهودها و كانت ساحاتها محطة "مارنجان" و القرية (13) من قرى حلفا الجديدة و أخيراً قرية "ابقوته" من قرى بحر أبيض، و قد كان ما أوردت على سبيل المثال ليس إلا و ليس الحصر، كلاَّ ثم كلاَّ. ليست صفات الكرم و النخوة و الشجاعة و الإباء و غير ذلك من مكاركم الأخلاق و حميد الخصال بالقاصرة على منطقة من مناطق السودان دون سواها و ليست هي بالحجر على هذا الإقليم أو ذاك أو الوقف على هذه القبيلة و العشيرة دون تلك فقد ظلت تلك السمات تميِّز كل السودانيين بلا استثناء و بقيت قاسماً مشتركاً بينهم عرفها و رواها عنهم الكثيرون ممن عايشيوهم و عاشروهم و ظلَّ يتحدث و يحدثنا عنها عنها غير القليلين على الرغم من أننا شعب لا يأسر لب أفراده الثناء المتدفق و لا يستهويههم المديح المنمق و لا يرونه مدعاة للزهو ما يحسون بصدق أنه واجب و فعل تمليه فطرة سليمة رعتها تنشئة عظيمة و تقاليد و أعراف مقبولة و مرضية مبعثها نفوس طيبة زكية.
من جملة العشرات إن لم يكن المئات من الوقائع التي تَحكي عن أصالة شعبنا، أخترت لهذه الحلقة واقعة من العاصمة، و ما العواصم في كل الدنيا سوى مجسمات مصغرة للأمم تجسِد كل مكوناتها و خلفياتها العرقية و العقائدية و الثقافية، و على الرغم مما تفرضه و تبلوره خصوصيات المجتمعات الحضرية من سلوكيات جديدة يظل العاصمي، في مثل حالتنا، بدوي المعدن، ريفي الجوهر و قروي المحتد.
لا أذكر في أي عام كانت تلك الليلة و لايهم ذلك كثيراً لأنه عندما تدلهم الخطوب و تهيمن أحداث جسام فبذاك وحده تذكر السنين و تعرف و ليس بالأرقام. كانت تلك الليلة في عهدٍ اتسم ضمن ما
أتسم به، بأمرين أولهما شح و ندرة في وقود السيارات لدرجة جعلت منه، و لست أبالغ، بالنسبة لبعض الناس أغلى و أقيم من الدم يقطعون لأجله المسافات و يبيتون في "الطرمبات" و يدخلون في دامي المشاحنات و تفتح بسببه البلاغات و يدفع الناس لأجله جلِّ ما يكسبون من جنيهات، و لا اسهب في ذلك أو افصل فتلك "ثقافة" يعرفها كل من عاش ذلك الزمن و يستطيع أن يروي عنها عشرات بل مئات الأساطير و الحكايات. الأمر الثاني كان مرتبطاً بحالة طوارئ فُرضت و حظر تجول يبدأ من منتصف الليل و حتى بزوغ الفجر الصادق، الذي أظن أن بلادنا لا زالت تنظره. شاءت ظروف ملحة أن أتوجه في تلك الليلة من منزلنا بحي "عمر المختار"، الإسم الذي أفضله نسبياً على "كوبر"، إلى امدرمان، بعض الثورات تحديداً، لأعود بعد ذلك الي حيِّنا العتيق و كنت أظن أن لدي من الوقود في سيارتي و من الوقت ما يمكنيي من فعل ذلك بأرتياحٍ و العودة للمنزل سالماً مكتفياً من الغنيمة في هكذا ليلة بحسن و عاجل الإياب. لم تسر الأمور كما قدرتُ و رغبتُ و أنتهى بي الأمر قبل منتصف الليل بدقائق تُعد على أصابع اليدين و ربما رجلٍ واحدة علي مقربة من "مقابر البكري" حيث شهقت سيارتي عدة شهقات ثم شخرت ثم لفظت أنفاسها الأخيرة معلنة أن خزان وقودها غدا أفرغ من فؤاد أم موسى. للحظات ظللت أتساءل ماذا يمكن أن يكون قد حدث فقد كنت موقناً أن لدي من الوقود ما يكفي لتكلك الرحلة و رحت أبحث عن أسباب لتفسير الأمر و لم أجد سوى تفسيراً واحداً هو أن شخصاً ما قد "حلب" سيارتي في غفلة مني و كثيراً ما كان يحدث ذلك في ذاك الزمان و إن كان "الحلب" وقتها قاصراً على "البنزين" و "الجازولين". بعد لوم النفس و ذم الزمان و المكان بدأت أفكر في مخرج من تلك الورطة فقد كانت المقابر خلفي و حي "القماير" أمامي و ما أدراك ما "القماير" في ذلك الزمان. دون كثير تفكير، و في حقيقة الأمر دون تفكيرٍ على الإطلاق و فيما يشبه التلقائية او التصرف الغريزي، وجدت نفسي واقفاً على طرف الشارع و في يدي جركانة" خاوية و في اليد الأخرى "خرطوش" فقد كانت تلك من مستلزمات العيش و البقاء في ذلك الزمن "البهي". مرت بي سيارة ثم الثانية فالثالثة و العاشرة و كلها مسرع يسابق وقت بدء حظر الجول و ما لم يكن مسرعاً حسب من بداخله أن بي مس من الجنون كيف لا و قد كنتُ أتوهم أن شخصاً ما سيتوقف في تلك الساعة و أن يجود علي ببعض من ماء الحياة و اكسيرها. لم يتجاهلني البعض فحسب بل تعمد أن يبتعد بسيارته إلى الطرف الآخر من الشارع وأن يتحاماني و يتحاشاني و سيارتي كما لو أنني كنت مجزوماً يقف إلى جنب بعير أجرب. رحت أدوِّر في خاطري عشرات السيناريوهات و أستعرض في ذهني بسرعة ستين "غيغابايت" في الثانية مئات الإفكار التي كان بعضها أسود من تلك الليلة و أنتقل ما بين أسرة لا و لن تعلم ماذا حلَّ بي حيث لم يكن للجوال وقتها وجود و لم يكن بمنزلنا أصلاً هاتف و بين سيارة لا أدري هل أبيت بداخلها و ليحدث ما يحدث أم اتركها لأعود صباح اليوم الثاني لأجدها أو لا أجدها أو أجد بعضاً منها و دوريات حظر التجول الوشيكة و التي كان لي مع بعض منها تجارب غير سارة. بينما أنا في تلك الحالة من الهلع و يداي تهبطان و تعلوان في تلقائية و يأس كلما عدت أمامي سيارة، خرج من الطريق على بعد خطوات مني "بوكس" و قبل أن يتوقف تماماً كنت قد لحقت به و لحقت و تعلقت به قبلي آلامي و آمالي و لهفتي لأي مخرج من ذلك المأزق. خرج من "البوكس" شاب و رغم أن حالي كان يغني عن سؤالي بادرني بالسلام و بسؤالي "إن شاء الله ما في عوجة يا شاب؟"، و كنت وقتها أملك بقية من مقومات ذلك اللقب الإجتماعي الجميل. أوجزت شرح الورطة التي كنت فيها فأفادني ذلك الفتي و لا كل الفتيان بعد تفكير لبرهة وجيزة بأنه لديه "جركانة" بها حوالي جالونان كان على وشك أن يفرغهما في سيارته و أنه يمكنه تفريغها في سيارتي إن كان يناسبني أن اوصل بسيارتي في طريقي والدته و أخته اللتين كانتا برفقته إلى حي "الملازمين. أجبته بأنه يناسبني ولو كنت أو كان هو من البلد إياه لكنت قد قلت له ( يناسبني"؟؟؟ يناسبني إيه يا بيه؟؟؟؟ دا يناسبني و هات إيديك أبوسها يا بيه دا أنت .......". أحضر الشاب الجركانة و عدة الشغل و اجرينا اللازم فعادت لي و لسيارتي الروح و أنا بين مصدق و مكذب. حضرت في ذلك اثناء والدة الشاب و أخته و بعد سلام غاية في الإحتشام جلستا في المقعد الخلفي للسيارة. كنت وقتها قد أخرجت محفظتي و سألت الشاب عن ما يتوجب علي سداده ليس نظير جوده علي بما كان يعد وقتها أغلي من دم الأخ الشقيق فحسب بل لإنقاذي من ورطة حقيقية و كنت على استعداد لأن أدفع أي ثمن يطلب بل أن ازيد على ذلك، فجاءتني إجابته واضحة و قاطعة لا" كشكرة" فيها و لا غموض، "عيب يا راجل" و توجه بخطى حثيثة إلى سيارته و أنا أتبعه إليها ملحاً أن يتقاضى على الأقل ثمن الوقود. و هو يستدير بسيارته ليعود أدراجه إلى مكانٍ ما في "الثورة" أو "الحتانة" او "الوادي" أو "مرزوق" أو غيرهم أضاف "بحتاج ليهم يوم و بلقاهم أو يحتاج ليهم غيري و يلقاهم" ثم تابع، "أتوكل ياشاب قبال ما تلم فيك الكشَّه" و مضى لحال سبيله. وقفت مأخوذاً ومنبهراً وأنا أرقب "بوكس" الشاب يبتعد و قطع عليّ حالة الوجد التي كنت فيها تذكر "الكشَّة"، أو كما قال.
لم تقل أم الشاب أو اخته الكثير غير إرشادي إلى أين كانتا تتوجهان. قبل بلوغنا غايتهما سألتني الأم بلكنة محببة فيها الكثير من العطف و المودة و "المحنَّة" التي عُرف بها أهل تلك النواحي من الوطن الحبيب عن البلد الذي قدمت منه فأجبتها أنني من "كسلا" و عرفت أنهم من "كاس". و أنا لا أزال ماخوذاً باريحية أبنها قلت لها أنها قد ولدت و ربت و دعوت لها بطول العمر في كنف أبنها الهمام و بالحج في رفقته. الذي لم أقله بل لم أشأ أن افسده بالقول هو أن ابنها حينما رأى في ظلمة ذلك الليل البهيم إنساناً في "وحثةٍ" قرر أن يقدم له كل ما يستطيعه من عونٍ و لم يكن محتاجاً لذلك كما لم يكن في حساباته و هو يقدم على ذلك في عفوية أن يعرف لأي شبرٍ من المليون ميلاً مربعاً ينتمي. أكبرت ذلك فيه و أكبرت أكثر من ذلك أنه إئتمنني على أغلى ما يمكلك، أمه و أخته، و لا يفعل ذلك إلا من تحضه عظمة نفسه و سمو خلقه على افتراض أن الآخرين بمثل سموه و من يثق أن إحسانه سوف يقابل بإحسان حتى و لو أصاب حجراً أو كان من ناله شيطان رجيم.
بعد أن أُوقِفت ثلاث مرات من دوريات كان أفرادها، كما تدل لكناتهم، خليط من غرب السودان و جنوبه و شرقه و شماله و كانوا كلهم للحق في غاية الإنضباط و المهنية و الإنسانية و التفهم، وصلت إلى المنزل و حكيت لأسرتي كيف أن ملكاً من "كاس" أفاض عليَّ و على سيارتي من فضله. أفاض الله عليك يا ذاك الشهم البر و على كل أهل "كاس" و ما جاورها من فضله في الأولى و رفع عنكم كل بلاء و فرَّج كل كربة و جعل في الآخرة النجائب مركبكم مع الغر المحجلين و الوادي الأفيح مقصدكم و أترع كئوسكم مِن رحِيقٍ مختومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ و من عَيْن يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ. مثلك من يجعلني أتساءل في حسرة ماذا دهانا و مثلك من يدفعني لأن أسعى حثيثاً لأن أذكِّر بتلك القيم و عداها فقد كانت هي العمد التي ترفع سماءنا و "الخلطة" أو العجينة التي تتماسك بها لبنات بنياننا.
و في حلقة اختم بها هذا السلسلة ..... أواصل ......
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة