المحكمة الجنائية قضاة بلا متهمين
[email protected] كمال الدين بلال / لاهاي
قامت الصحيفة الهولندية (NRC Handelbland) بإعداد تحقيق عن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بمناسبة مرور خمسة أعوام على بدء عملها، وقد نشر التحقيق الذي أعده كل من «هنكا شين» و«مارسل هينن» في عدد الصحيفة بتاريخ 18/10/2008 تحت عنوان (قضاة بلا متهمين). وقد أستند التحقيق على إفادات عاملين حاليين وسابقين بالمحكمة وخبراء في العدالة الدولية، وقد تم حجب أسماء العاملين حاليا بالمحكمة لحمايتهم. تنبع أهمية التحقيق من أنه يقيم إنجازات المحكمة من قبل مطلعين على شؤونها الداخلية، كما يقيم الأداء المهني للمدعي العام «لويس أوكامبو» ومحركات مواقفه بعيون داخلية عليمة بطبيعة تعقيدات شخصيته وذلك مما يساعد في فهم دوافعه في توجيه الاتهام للرئيس «عمر حسن البشير».
جاء في التحقيق أن عدد العاملين بالمحكمة حوالي (900) فرد ولها ميزانية سنوية ضخمة تبلغ (90) مليون يورو، ولم تنجح المحكمة حتى هذه اللحظة سوى في النظر في (4) ملفات بالرغم من رفع العديد من المنظمات الدولية دعاوى تزعم بوقوع جرائم دولية في (139) دولة مختلفة يحتمل أن تقع في اختصاص المحكمة. كما فشلت المحكمة في بدء النظر في مضمون الاتهامات الموجهة ضد المتهمين الأربعة الذين ألقي القبض عليهم بينما تشغل نفسها حتى الآن بالمسائل الإجرائية والشكلية. هذا الوضع غير المقبول حدا بالعديد من المهتمين بالعدالة الدولية للتعبير عن خيبة أملهم في المحكمة، فقد وصف البروفيسور «وليم شباز» مدير المركز الايرلندي لحقوق الإنسان حال المحكمة بالقول: (إن عملية تأسيسها جاءت كاختراق ثوري إلا أنها ولدت معاقة الحركة). ولقد تعالت الأصوات المطالبة برؤية طحين لعملية طحن المحكمة التي استمرت لخمسة أعوام، وعبر العاملون بالمحكمة عن شعورهم بتنامي الضغوط الممارسة عليهم لتقديم نتائج ملموسة، وقد أشارت المستشارة الفرنسية «باتريس دو هلن» التي تشغل حاليا منصب مسئولة التعاون الدولي بالمحكمة إلى تلك الضغوطات بأن بدء المحاكمة في هذا الوقت سيعطي شرعية حقيقية للمحكمة... وأن عملية الاختراق الحقيقية ستكون في حال إصدار القضاة أمر قبض في حق الرئيس السوداني حيث سيعطي مثل هذا القرار المدعي العام الفرصة لتثبيت دعائم المحكمة بصورة نهائية.
أكدت تصريحات بعض العاملين السابقين بالمحكمة أنهم توصلوا عبر الممارسة اليومية إلى قناعة بأن تصورهم المثالي عما يمكن أن تقدمه المحكمة صعب التحقق، وقد حدا هذا الوضع بالبعض لمغادرة المحكمة محبطين خاصة من قسم المدعي العام. وقد اعتبرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان أن لنزيف الخبرات بقسم المدعي العام نتائج جلية على أدائه بصفته يشكل قوة الدفع المحركة للمحكمة الوليدة، وأرجعت المنظمة مغادرة هؤلاء لما أسمته بمتلازمة الأرق والإرهاق الذاتي إضافة لعدم تقدير رب العمل لما يقومون به. وضرب التحقيق مثالا للأمر بما ذكره أحد العاملين في المحكمة بأن البلجيكي «سرجي برامرز» الذي كان الساعد الأيمن لأوكامبو كان في حالة خلاف وشجار دائم مع رئيسه بسبب تكتيكات الأخير وإهماله لنصائحه بصورة منتظمة. وكان أوضح اختلاف في تقدير الأمور بين الرجلين قيام «لويس أوكامبو» بكشفه في مؤتمر صحفي في لندن في يناير 2004 في حضور الرئيس الأوغندي «يوري موسيفيني» عن بدء المحكمة في التحقيق في جرائم جيش الرب وذلك بالرغم من معارضة نائبه لوجود قرائن تشير إلى أن الجيش الأوغندي نفسه قد أرتكب جرائم تقع في اختصاص المحكمة. ويجب هنا ألا نغفل المغزى السياسي لعملية إعلان بدء التحقيق في حضور أحد الخصوم مما يقدح في استقلالية وحياد المدعي العام. وقد نتج عن حالة عدم التفاهم بين الرجلين مغادرة «سرجي برامرز» للمحكمة والالتحاق بمحكمة يوغسلافيا السابقة. وقد أشارت الأمريكية «كرستين شين» التي تعمل حاليا بالمحكمة دون قصد للدوافع السياسية لمواقف المدعي بذكرها أن القرارات التي أتخذها «أوكامبو» تجاه السودان أكسبته احترام الحكومة الأمريكية... التي كانت تتمنى في يوم من الأيام دفن المحكمة.
أرجع العاملون السابقون بالمحكمة حالة الجمود التي تعاني منها المحكمة بدرجة كبيرة إلى الطبيعة المزاجية المتقلبة لأوكامبو والطريقة المتسلطة التي يدير بها المحكمة، حيث أعتبر موظف أن تجارب «أوكامبو» في بلده الأصلي الأرجنتين مع الفساد واستبداد العسكر جعلته يعاني من الارتياب والشك المرضي لدرجة أنه لا يثق في العديد من الذين يعملون في القسم الأمني في المحكمة بزيهم الرسمي العسكري، وأكد هذا الأمر موظف أخر بأنه تلقى شخصيا أمراً من «أكامبو» بالتجسس على بعض العاملين بالمحكمة، وأشار إلى أنه سبق وأخبر «أوكامبو» ببعض الانتقادات لأدائه التي تنتشر بين العاملين بالمحكمة، فما كان منه إلا وهدده بالطرد من العمل إذا لم يذكر له أسماء منتقديه. ومن ناحية أخرى سلط التحقيق الضوء على وجود صراع داخل قسم المدعي العام حول التكتيكات الواجبة الإتباع، حيث يرى الأوروبيون أن تكتيك إصدار أوامر قبض سرية يعطي فرصة كبيرة لإلقاء القبض على المطلوبين عبر مفاجأتهم كما حدث في قضية الكنغولي «جان بيير بمبا»، بينما يفضل «أوكامبو» أوامر القبض المعلنة في المؤتمرات الصحفية العامة.
ألمح التحقيق إلى أن «أوكامبو» يحيط نفسه بنساء فاتنات غير مؤهلات يتمتعن بسلطات واسعة داخل المحكمة تتناسب وأحجام أثدائهن ومؤخراتهن العظيمة وذلك بالرغم من أنهن يعملن بعقود مؤقتة. كما كشف أحد العاملين بالمحكمة حب «أوكامبو» للأضواء والأداء الاستعراضي والالتقاء بالمشاهير حيث ينتشي بتصفيق الجمهور كما حدث في تورنتو الكندية عند عرض فيلم عن دارفور بحضور الممثلين الأمريكيين «انجلينا جولي» وزوجها «براد بيت». هذه الصفات مجتمعة جعلت بعض المراقبين لعمل المحكمة يرون أن ملاحقة «أوكامبو» للرئيس السوداني الهدف منها تناسي الخلافات الداخلية التي تعاني منها المحكمة حالياً (بضربة معلم). ويرى البروفيسور «وليم شباز» أن توجيه الاتهام للرئيس السوداني بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بالذات هدف منه «أوكامبو» لخطف العناوين الرئيسة للأخبار، وأشار إلى أن التهمة تمثل اختياراً خاطئاً للمدعي العام لكونها صعبة الإثبات من الناحية القانونية مما يعقد القضية. وفي نفس السياق إعتبر البريطاني «الكس دا وال» مدير منظمة حقوق الإنسان (عدالة أفريقيا) توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس السوداني محض هراء وفيها محاولة لإظهار الرجل بصورة «جوزيف ستالين» السوداني الذي يهندس إبادة شعبه، كما أعتبر ملاحقته من حيث المبدأ تدل على قصر نظر المدعي العام لأن القضية ليست في مصلحة الضحايا لكونها تصعب من مفاوضات السلام وتقديم تنازلات سياسية.
ووصف السويدي «كرستيان بالم» الذي شغل منصب الناطق الرسمي باسم المدعي العام وصف رئيسه السابق بالضعف المهني وعدم التمتع بالخلاق الرفيعة كما يتطلب النظام الأساسي للمحكمة، وأستدل على ضعف أدائه المهني بقرار قضاة المحكمة الإفراج عن «توماس لوبنغا» أول متهم تحاكمه المحكمة وذلك لوقوع المدعي العام في أخطاء إجرائية. وفي نفس السياق عبر البروفيسور «وليم شباز» عن استغرابه لفشل «أوكامبو» لمدة عامين في إعداد ملف اتهام مكتمل ضد المتهم الكنغولي، كما انتقد كذلك بطء القضاة في اتخاذ قرار بشأن وجود بينات مبدئية لتوجيه الاتهام ضد الرئيس السوداني. وخلص البروفيسور إلى أن اجتماع الضعف القانوني وطبيعة شخصية «أوكامبو» توضح أسباب فشل المحكمة في أن تقوم لها قائمة.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة