الحركة الشعبيه في ميلادها الثاني : أعراض تسنين ام عدوي شماليه ؟
عبد العزيز حسين الصاوي [email protected]
خلال شهري اغسطس وسبتمبر الماضيين راجت انباء عن خلافات بين قيادة القطاع الشمالي للحركة الشعبية لتحرير السودان وبعض منسوبيه في مختلف ولايات القطاع الذي يشمل مساحة الشمال المعروفه فيما عدا جنوب النيل الازرق وجبال النوبه. الداعي لامعان النظر في هذه الانباء كان تزامنها وتعدد مواقعها شاملة كافة انحاء القطاع ( الولايه الشماليه، حلفا الجديده، القضارف، بورتسودان وجنوب دارفور ) بحيث استدعت تساؤلا عما إذا كانت تندرج ضمن ظاهرة الانشقاق والتشرذم التي شملت كل الحركات السياسية السودانيه بما فيها شبه-السياسيه مثل انصار السنه، حتي اضحت في حكم القانون الحديدي؟ وهو قانون تجلي فعله ايضا في ان ميلاد اي حركه سياسيه سودانيه جديده رافقه انشقاقها كما تبين تجربة تنظيمي " قوات التحالف السودانيه " و " حق" ثم حركات دارفور المسلحه والخلافات الحاده الناشبه الان بين اطراف " جبهة الشرق "؟ والحال ان الحركة الشعبيه لتحرير السودان جامعة بين الصفتين فعمر وجودها الجنوبي يقارب ربع القرن بينما وجودها الشمالي المباشر لايتجاوز بضع سنوات.
لقد اصدرت قيادتا الحركه الشعبيه المركزيه والقطاعيه عددا من القرارات التنظيميه خلال الاسبوع الثاني من اكتوبر يمكن أن تؤدي الي استبعاد أي مغزي تشرذمي في الانباء المشار اليها ولكن يبقي ان الشرط الوحيد لكي يصبح الميلاد الشمالي للحركة الشعبيه من نوع الاستثناء الذي يثبت صحة قاعده تشرذم الاحزاب السودانيه القديمه والجديده هو ان يتوفر فيها مستوي من النضوج يتجاوز المتوفر عند بقية الاحزاب. وهذه مسألة تحتمل النقاش بحجة تقول ان تميز الاطروحات الفكرية للحركة الشعبيه لايبدو شديد الوضوح عند مقارنته بالاحزاب والتيارات الشمالية اليسارية/ التقدميه خاصة. فالعناصر الاساسية المكونة لاطروحة السودان الجديد ( العلمانيه، الديموقراطيه، المساواة المواطنيه) ليست جديدة علي هذه الاحزاب والتيارات بل انها مبرر وجودها اصلا بالمقارنة لتلك الموصوفة من قِبَلنا بالتقليديه وتزيد علي الحركه بخبرتها النظرية والعملية الطويله. علي هذا الاساس يمكن المحاججة بأن تميز الحركة الشعبية هو في احسن الاحوال بنفس مستوي تميز بعض ان لم يكن كل الاحزاب والتيارات الشماليه الذي لم يحمها، مع ذلك، من الانشقاق. ولايتعارض ذلك مع الاقرار بأن الحركة الشعبيه اكثر جاذبية الان للقطاعات الحية في المجتمع السياسي السوداني من تلك الاحزاب والتيارات بمراحل لان من الممكن تفسير هذا الاقبال بكونها اولا : لاتزال تضئ في تطلعات واشواق هذه القطاعات بوهج كاريزمية الراحل جون قرنق وثانيا : بكونها جديدة نسبيا علي المسرح السياسي الشمالي في اتساعه وثالثا : بكونها تشكل الضمان الوحيد للحفاظ علي وحدة البلاد بالمقارنة للحركات السودانية الجنوبيه المسلحة سابقا. والعاملان الاول والثاني مؤقتان مهما طال بهما الزمن، بينما يبقي العامل الثالث بين شك ويقين حسب مايستقر عليه الرأي بشأن الأفكار التحفظيه التي تطرحها هذه المقاله حول مدي تميزها واهميته الفعليه.
ربما ضمن اخرين ايضا، ظل كاتب هذا المقال يغالب عواطفه واماله الايجابية نحو الحركه عندما يرغمه مايتيسر له من النظر الموضوعي رؤيتها متجهة نحو نفس المزالق التي وقعت فيها الحركة السياسية الشماليه من ان العقبة الاساسية امام التحول الديموقراطي ذات طبيعة سياسيه متمثلة حاليا في نظام حكم المؤتمر الوطني، وعلي ذلك فأن انجاز التحول العتيد يتم بتحجيم النظام بعد ان فشلنا في ازالته بالطريقة الانتفاضيه الاكتوبرية والابريليه. واقع الامر في رأي هذا المقال ان هذه العقبه السياسيه ليست سوي الجزء الظاهر من جبل جليد ضخم تحت سطح الامواج ترسب تدريجيا منذ زمن مايعني ان إزالة الجزء الظاهر نهائيا أو بالاحري تحجيمه بالقدر الكافي، يقتضي التركيز علي تذويبه من تحت بنفس القدر. اما التركيز، كما حدث سابقا ويحدث الان ، علي كيفية التعامل مع الجزء الظاهر فقط، مواجهة او مسالمة، فهو معالجة للعرض دون المرض مايؤدي لاستشرائه. بأختصار يتجنب تكرار افكار مطروحة من قبل في هذه الصحيفة و غيرها العقبة الاساسية هي اضمحلال قوي الوسط الاجتماعي. سواء اهتدينا الي معني هذا المصطلح بالمعيار الطبقي ( بورجوازيه صغيره ومتوسطه) او المديني/ الحَضَري ( فرص الوعي الحديث والاستناره) او مزيج بينهما فأن الوجود الفعلي المؤثر لهذا الوسط الذي يشكل الحاضنة التي لاحاضنة غيرها لتفريخ وتنمية شرائح الناشطين الديموقراطيين السياسيين والثقافيين والنقابيين بات محدودا للغايه من حيث الحجم والنوع نتيجة التعريه العميقه والطويلة المدي التي تعرض لها منذ عقود وعقود من الزمان المايوي وخليفته اليونيوي. مظاهر هذا الاضمحلال نتحدث عنها يوميا وفي كل مجلس مجسدة،علي سبيل المثال وكأوضح مايكون، في الانخفاض المروع لمستوي اكثر قطاعات المجتمع حيوية وهو القطاع الطلابي، دون استقصاء لمعناه فيما يتصل بالماهية الحقيقة لأزمة التطور العامه.
المدخل نحو تفكيك هذه الازمه في بُعدها الجنوبي لم يعد في تصوره كجزء عضوي من القضية العامه كما لم يعد تفكيكها في بُعدها الكلي باعادة صياغة للسودان علي اساس المواطنه والتنوع والوحده الطوعيه لان جوهرها هو انعدام الرافعه الضروريه لحمل هذه الافكار الي الحيز التطبيقي. الافكار والاطروحات في حد ذاتها سليمه ومطلوبه ولكن تجاوزتها التطورات اوبالاحري التدهورات المشار اليها اختصارا، ناقلة بؤرة الازمه الي مجال اخر. وعدم حدوث اختراق علي جبهة التوصل الي التوصيف الصحيح لاصل المعضله ادي الي الفشل في البدء بمعالجتها وصياغة الاستراتيجية السياسية الصحيحه من حيث نقطة ارتكازها الاساسيه واولويات برنامج العمل اليومي المنبثق عنها ومن ثم التحالفات الايله لتحقيقها، وماالتشرذم الذي تعاني منه الحركة السياسية الشماليه الا تعبير عن العقم الانجازي لخططها وتحركاتها الناجم عن هذا الفشل كما يتجلي في العجز عن تحجيم سلطة الاسلاميين المتنكرة في زي المؤتمرالوطني.
واذا كان من المفهوم ان تجد الحركة الشعبية نفسها مضطرة للتحالف مع ابعد الاطراف السياسية الشمالية عنها تاريخا وتكوينا فكريا نتيجة للضعف الذي تعانيه الاطراف الاقرب اليها في علاقته بمقتضيات صياغة وتنفيذ اتفاقية نايفاشا، فأن تشبعها بفكرة السبق الفكري والاقبال النخبوي والجماهيري يعطيها شعورا غير مؤسس بأنها علي الطريق الصحيح مما يعطل مساهمتها في الموضوع الاهم وهو البحث عن سبل تفكيك اصل المأزق مع ان فرصتها افضل من فرص الحركات المؤسسة في الشمال لان مدخل التفكيك وهو الاستناره العقليه مسدود منذ فتره بأستشراء مفاهيم مشوهة للاسلام. ومن هنا الادعاء الذي يطرحه هذا المقال من ان المسيرة الشمالية للحركة الشعبية يبدو انها ستكون تكرارا لمسيرة رصيفتها الشماليه وان بوادر الخلافات التي ظهرت في القطاع الشمالي إرهاص لنفس ظاهرة التشرذم والانشقاقات. ومع الاقتناع بأن للمؤتمر الوطني واجهزته الرسمية وشبه – الرسميه دورا في هذا الصدد الا انه يبقي هامشيا وضعيف التأثير اذا لم تتوفر القابلية لذلك في الحركة المعنيه.
كما ان مما يؤيد الادعاء المشار اليه ان التوجه الفكري للحركه ينزاح رويدا رويدا عن المجري الفكري الذي يركز علي الطبيعة الاجتماعية لسلطة المركز وتوجهاتها السياسية والايديولوجيه كتفسير لفشلها في إعمار مختلف انحاء البلاد بعد الاستقلال الي التركيز علي اطروحة التهميش كما ظهر، علي سبيل المثال، في تصريحات للامين العام باقان اموم ويظهر في ترويسة " اجراس الحريه ". فهذا المصطلح نبع من مدرسة فكرية – سياسيه تفسر ازمة التنميه في الاقاليم الطرفيه بغير معضلة التطور الديموقراطي والتركيبة المصلحية والسياسية لسلطة المركز كما يستدل بوضوح من حصر مطالبها بقضيتي الثروة والسلطه للكيان الجهوي – الاثني المعين. لقد اضحت هذه الكيانات وعاء العمل السياسي لقسم هام من النخبة السودانيه نتيجة فشل مرحلة الانتماءات الحزبيه والوطنيه مع غياب تفسير صحيح لجذوره الحقيقيه بما يحي الامل بإمكانية التغلب عليه وبالتالي إمكانية تصحيح الخلل التاريخي في معادلة التنميه بين الوسط والاطراف ضمن تطور شامل سودانيا.
( عن جريدة الاحداث 24 اكتوبر 2008 )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة