الفاضل عباس محمد علي
لعبة الروليت السوداني
حسنا فعل الحزب الاتحادي الديمقراطي (حسب علمى) و الحزب الشيوعي و المؤتمر الشعبي، ثم أهل الجلد و الرأس: الجيش الشعبي (عبد الواحد محمد نور) و العدل و المساواة (د.خليل ابراهيم) و باقي المنظمات الدارفورية الحاملة للسلاح و غير الحاملة للسلاح (احمد ابراهيم دريج)... حسناَ فعلت هذه الفعاليات بمقاطعتها لما يسمّى بمبادرة أهل السودان، اذ أنها لم تكن سوى نزوة عابرة من نزوات حاكم فرد تراوده أضغاث أحلام في النوم أو فى الصحيان و يريد لها أن تتحقق come what may ، مثل واحد من اَخر ملوك سنار طائش يافع مستبدّ سكيّر عربيد، أمر وزيره أ ن يجمع كل فقهاء السلطنة الزرقاء ليطلب منهم تعليم بعيره اللغة العربية لأنه أثير لديه و جاءه هدية من ملك البشارين ( اي انه من ابناء عمومة الناقة البجاوية التي هرب بها المتنبي من مصر تاركاَ مليكها الاخشيدي وراءه)؛ فجمعهم الوزير و خاطبهم: (يا أهل الوجوه النايرة..و الدقون الدايرة..البتعرفو الراكّة و الطائرة..الخ)، و أمهلهم سويعات يأتونه بعدها بما هم فاعلين بشأن تعليم البعير البشاري اللغة العربية.. و ما أخرجهم من تلك المحنة الا الشيخ فرح ود تكتوك الذي قال: (أنا مستعد للقيام بهذه المهمة، و لكننا عادة نأخذ أربع سنواتفى تلقين تلاميذنا الاعاجم العربية، خاصة البشارين و الدناقلة و التكارين.) فراقت الفكرة للملك الطاشم و أمر باعطاء البعير للشيخ فرح و معه مؤونة أربع سنوات (بمثابة مصاريف الدراسة tuition fees) و بعض الاماء (أي ما يشبه الفليبينيات في هذا العصر) ؛ و لما خرج فرح في معيّة البعير و خدمه و حشمه التف حوله الفقهاء يتهامسون: (كيف بربّك ستعلّم هذا الحيوان أن يتكلم؟) ، فأجابهم الشيخ الحكيم : (هي أربع سنوات، و سيقضي واحد من ثلاثتنانحبه أثناءها: الوزير أو البعير أو الفقير.) و هكذا فقهاء السودان الى يمونا هذا، يجمعهم السلطان و يخاطبهم من عليائه كأنهم تلاميذ نجباء مطيعين، و يأمرهم بدراسة أمر ما في اطار ما يحدده لهم من موجهات و ما يومىء به من خيارات.. كمن ألقاه في اليّم مكتوفا و قال له.. اياك اياك أن تبتل بالماء.
و بالفعل اجتمع الفقهاء و جهابذة العلوم السياسية و الأحزاب المطهّمة و المدجّنة بكنانة.. و نثروا كنانتهم ليختاروا منها عودا مناسباً يوصون به للسلطان، و لكنهم حتى الآن لم يتوصلوا لحل لمشكلة دارفور، وعادواا للخرطوم للمزيد من الأخذ و الرد و الاجتماعات المطوّلة بالقاعات المكيّفة، اذ أنّهم فيما يبدو قد فقدوا البوصلة.... أو كما يقول الدارفوريون:(الدرّب راح ليهم في ألمى... أي الماء).. فعادوا للخرطوم بخفي حنين.
تلك نتيجة معروفة سلفاَ، خاصة لدهاقنة النظام الحاكم الذين يجيدون لعبات كسب الزمن؛ و ما ذلك النشاط في مشروع سكر كنانة و قاعة الصداقة بالخرطوم الا مجرد تزجية للوقت، أي اهدار للزمن.......... و ما هو الا عظمة ألقى بها النظام لبعض خصومه علّهم يتشاغلون بها الى حين، و ليتهم يتجادلون و يختلفون و يتماحكون بما يعطي العالم الخارجي فكرة زائفة عن الديمقراطية و حرية التعبير التي يسمح بها نظام البشير؛ و مهما يكن من أمر فان صافرة الحكم بحوزة النظام الحاكم الذي يستطيع ان يوقف اللعب في أي وقت يشاء، أليس هو الخصم و الحكم؟
ثم أخذنا نلمح في الأيام الأخيرة انعطافاَ نحو المبادرة القطرية بعد محاولة الالتفاف حولها، لا لأن الفشل أصاب ما يسمّى بمبادرة أهل السودان أو لأن العود أحمد و المبادرة القطرية بها بعض أمل للخروج من النفق، و لكن لأنه بات من المؤكد أن الفعاليات الدارفورية ستقاطعها، و من ثمّ فهي أيضاَ تمرين في لزوم ما لا يلزم و اهدار للزمن في الجلبة و الضوضاء و العلاقات العامة و التصريحات الصحافية و المقابلات التلفازية مع الفتيات ذوات الثياب الزاهية و العيون الحالمة و الأنوثة المتدفّقة.
و المبادرة القطرية رغم جديتها و ارتياح المعارضة الشمالية لها لن تجدي فتيلا اذا قاطعتها العناصر الدارفورية، و قد ورد في تصريحات قادتهم أن المهم في الأمر عدم التشويش على المبادرة الأهم و هي ما أودعه لويس أوكامبو من دعوى موجودة الاَن فوق منضدة محكمة الجنايات الدولية تطالب بادانة الرئيس السوداني بموجب اتهامات محددة و موثقة بالابادة الجماعية و ارتكاب جرائم حرب من تقتيل و تعذيب و اغتصاب و حرق للمساكن و تهجير و تشريد....الخ. و يرى الزعماء الدارفوريون أن الحلقة اَخذة في الضيق حول عنق الرئيس المتهم، و في بضع أيام ستفصح محكمة الجنايات عن رأيها في هذه القضية، و بعد ذلك مباشرة تسعى كافة الأجهزة المعنيّة نحو الطريقة التي ستتبعها فى احضار المتهم للمحكمة؛ و يراهن القادة الدارفوريون أن ذلك ينطوي على مرمطة من نوع خطير و غير مسبوق في تاريخ البشرية و اهانة في وضح النهار للرمز الأساس بالنسبة للنظام الحاكم في السودان، و قد ينتج ذلك عن رد فعل سالب من جانب النظام، كتصعيد الحرب في دارفور، أو تعليق الدستور و الغاء اتفاقية نيفاشا من طرف واحد و طرد ممثلي الحركة الشعبية من الخرطوم و تصعيد الحرب في اقليم أبيي، و ربما في الاقليم الجنوبي برمته.....و ذلك طريق محفوف بالمخاطر المؤكدة بالنسبة للنظام اذ أنه سيدفع القوى الحارسة لاتفاقية نيفاشا للتدخل العسكري المباشر، و الدول هي النرويج و انجلترا و امريكا و ايطاليا، بالاضافة لدول الايقاد: كينيا و اوغندا و اثيوبيا و اريتريا و جيبوتي، و في تدخلها سيكون الفرج ليس فقط لجنوب السودان انما لدارفور كذلك، و للوطن كله، اذ أن حرباَ تشنها كل هذه الدول على نظام الخرطوم ستقضي عليه بلا ريب، اليس كذلك؟
بيد أن الحركات الدارفورية فيما يبدو تراهن على سناريو اَخر أكثر معقولية و أقرب للواقع، و هو نفض اليد من الرئيس البشير من جانب الحلقة الامنية العليا و تسليمه لقمة سائغة للمحكمة الدولية، و الشواهد على ذلك متعددة، فالنظام بلا أدنى شك في قبضة العناصر الأمنية الاسلاموية التي سبق أن تم تدريبها في ايران اَية الله الخميني، بقيادة الدكتور نافع و صلاح قوش و اَخرين منتشرين في أصقاع السودان يبتغون من فضل الانقاذ و يعيثون فساداً فى الأسواق، و يمكن تجميعهم عند الملمّات كما حدث صبيحة الجمعة التي غزا فيها د.خليل و جيشه المتحرك باللاندكروزرات ام درمان، فانبرى له عناصر الامن الجبهوى الاسلاموى، و ليس الجيش الذي وضح أنه مهمش تماماً، و كذا الحال بالنسبة لمجمل القوات النظامية.
و الشاهد الثاني أن هولاء القوم يتمتعون بلزوجة و مرونة فائقة و ميكافيلية مدهشة، كما يجيدون التطبيق العملي لفقة التقيّة الشيعيّ، فعندما تدلهمّ عليهم الخطوب يحنون ظهورهم للعاصفة (و يسردبون) حتى تنقشع كما تنقشع الهبباي مهما اشتدت قتامتها وحدّتها، و الأمثلة عديدة:-
- عاش كارلوس الثعلب لعدة سنوات ضيفاً على النظام في الخرطوم كخبير يحتاج الارهابيون الحاكمون في السودان لخدماته و مشوراته، فأكرموا وفادته و نهل من متع البطن و الفرج حتى الثمالة؛ و ذات فجر خبيث داهموا نزله وأوثقوه و حقنوه بمخدر عجيب و شحنوه في تابوت، و لما أفاق كان في قبضة الشرطة الفرنسية بباريس.
- لإى أعقاب تفجيرات 11/9/2001 ارتعدت فرائص النظام، وظن سدنته أنهم المعنيون بالحرب على الارهاب التى أعلنتها الولايات المتحدة وأخذت تعد لها ما استطاعت من قوة ورباط الخيل، فاستبقوا الأحداث وأدخلوا النظام المصري كواسطة خير (كما جاء فى الصحف الغربية قبل بضعة شهور)، وانبطحوا تماماً واعلنوا استعدادهم للتعاون الكامل مع المخابرات الامريكية، وبالفعل سلموا السي آي إي ملفات وأشخاصاً مطلوبين لديها من بقايا الافغان العرب كانوا قد لجأوا للسودان بعد انتهاء مهمتهم بافغانستان؛ وقال كولن باول وزير الخارجية الامريكية آنئذ : النظام السوداني متعاون بشكل يفوق أحلامنا، ولعل الجنرال باول هو صاحب العبارة التى استخدمها الصادق المهدى فيما بعد واصفاً اتفاقه مع النظام السودانى الذى تم فى جيبوتي: (أتينا لنصطاد أرنباً فوجدنا فيلا.)
- رضخ النظام للإرادة الدولية، ممثلة فى دول الإيقاد وأصدقائهم ( النرويج والولايات المتحدة ..الخ)، وقام بتوقيع اتفاقية نيفاشا فى يناير 2006 رغم أنها تعنى فيما تعنى تحوير النظام كلية بما تضمنته من وثيقة لحقوق الإنسان ونصوص واضحة خاصة بالتحول الديمقراطي وتطبيق الفدرالية الراشدة وتوزيع السلطة والثروة أفقياً ورأسياً.
والحالة هذه، ربًما تأخذ الحلقة الأمنجية زمام المبادرة وتضع حداً للأزمة بالتعامل مع المتهم الرئيسي بمثلما فعلت مع طيب الذكركارلوس ذى جاكال؛ بيد أن هذا السناريو ملبًد بالغيوم والألغام والمفاجآت، فالمتهم الرئيسى هو الأدرى بجميع الخبايا والأسرار ، وإذا وجد نفسه بقفص الاتهام فى لاهاي فإنه سيطلق العنان لكلما يجرّم الآخرين، خاصة المتآمرين الذين شاركوا فى وضع أساور الحبس على معصميه. و هذا هو نفس المنطق الذي يجعل الرئيس متردداً حالياً في القاء القبض على أحمد هارون و على كشيب ، اذ يعلم جيداً ماذا سيقولون في قفص الاتهام و الى أي الشخوص ستتجه أصابع اتهامهم ، كما يعلم جيداًمن هو بالتحديد الذى كان يعطيهم الأاوامر!
اذاً ، فالوضع السوداني معقّد لدرجة بعيدة ، و ليس هنالك أي ضوء بنهاية النفق ، و ستظل كرة الروليت دائرة حتى صدور قرار محكمة الجنايات ، و عندئذ تستقر على رقم واحد معين هو الفائز لمن يراهن عليه؛ و لعل ذلك هو الذي تنتظره الفعاليات الحاملة للسلاح بدارفور، و ستظل دونه في حران مستمر و مقاطعة لا سرمديّة لجميع المبادرات الجادة و الهازلة ، كما انه ليس هنالك أي حل لمشكلة دارفور لا تكون هذه الفعاليات طرفاً أصيلاً فيه. و السلام.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة