جعفر الصادق
عَلَمٌ جَهِلنا
علي يس الكنزي
هذا مقال دفعتني روحي أن أخطه بيميني، وراودتني نفسي أن يسطره قلمي. إلا أني كلما اقتربت من ساحل هذا الإمام البحر، أخاف الدرك، وأخشى الغرق، فيسقط ما بيمني مهابةً وتعظيماً وإجلالاً لجعفرٍ، تحسباً من أن لا أعطيه بعض حقه، فما بالك بجلَّ حقه؟ من حِكَمِ الله علينا أنه جعل لنا أبحراً تغرقنا بمائها، وأبحراً تغرقنا بعِلمها. فمن الأولى أستعيذ بالله وأبرأ لنفسي، أما الثانية، فإن سقطتُ عليها، فلا أبالي أدركني الموت أم الغرق.
ونقول: هو الأمام جعفر الملقب بالصادق، ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن على بن أبي طالب وأمه فاطمة الزهراء، أهل الكساء أهل بيت رسول الله الذي قال الله وبلسان نبيه في حقهم قرآن يتلى في سورة الشورى آية 23 (... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ... ). أما في حب رسول الله وآل بيته فلنقرأ قول الشاعر:
يا أهل بيت رسول الله حبكمُ فرض من الله في القرآن أنـزلـه
كفاكمُ من عظيم القدر أنكمُ من لم يصل عليكم لا صـلاة له
ذاك قول الشافعي. أما برعي اليمن أعني وليس لبرعي الزريبة أرمي، فكلاهما مثالٌ لحب رسول الله e، وآل بيته، كلما أطلعتُ على ديوان مدحه لرسول الله e تذكرتُ ثوبان مولى رسول الله e ، فقد كان شديد الحب له، قليل الصبر عنه. أتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن. فقال له رسول الله e: "يا ثوبان ما غير لونك؟" فأجابه ثوبان: "مابي من ضر ولا وجع يا رسول الله، غير إني إذا لم أراك اشتقتُ إليك، وأصابتني وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم أذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة أدنى منك. وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أراك أبداً". فأجابه رسول الله e يطمئنه ويبشره: "يُحشرُ المرءُ مع من أحبَّ". وفيه نزلت الآية 69 من سورة النساء، (وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً). أما برعي اليمن فقال في حبهم:
إن في طيبة قوماً جـارُهُم في محلِ النجمِ يعلو أن يُسامى
روضةُ الجنةِ في أوطـانهِمِ وثرى أثارِهم يَبري الجـذاما
كلُ من لم ير فرضاً حُبُهم فهُو في النارِ وإن صلى وصاما
ينتهي نسبه لأمه، إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فهذا نسب لم يجتمع لأحد من الخلق غيره. فأعلاه من دماء الرحمة المهداه، وأدناه من دماء ثاني أثنين إذ هما في الغار. ففي هذا النسب حكمة عظيمة لمن أراد أن يتذكر ويتدبر ويتأمل، فالرحمة المهداة تركنا نعبد إله واحد ونتعبد بدين واحد، وكتاب واحد انزله على نبي واحد، لا سنة فيه ولا شيعة. ولكن هوى السلطة والسلطان، وحب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومه والأنعام والحرث. ذاك المتاع سيطر على عقولنا وعواطفنا، فكان لابد من خلق حجة سياسية، ظهارها عبادة الله، وباطنها رضاء السلطان يتذرع بها الفقهاء على الحكام، يغدق بها الحكام على الفقهاء زلفى لمتاع حياة دنيا. لذا كان لزاماً علينا أن يكون منا السني، والشيعي، والصوفي، ول وول ول، خروجاً على قوله تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) آية (92) من سورة الأنبياء، وقوله: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (52) من سورة المؤمنين.
فلنعد لأمامنا ونقول ولد عليه السلام بالمدينة المنورة في عام 80 هجرية، وتوفى بها في عام 148 هجرية، ومرقده بالبقيع الغرقد وهي مدفن أهل المدينة من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخذ العلم عن أبيه الإمام محمد الباقر، الذي بقر العلم بقراً أي فجره تفجيراً. قال له أبوه وهو يعظه يا بنيَّ: "ما دخل في قلب امرئ من كبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل". لهذا نجده شديد التواضع، واسع القلب، يلتمس الأعذار حتى لمن جهل قدره، وغبط حقه.كان منارةًً في العلم ومرجعاً في الحلال والحرام، ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، صاحب علم لدني. قال مخاطباً يوماً تلاميذه الذي يربو عددهم عن أربعة آلاف، بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مردداً ما قاله جده أمير المؤمنين علي: (سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي).
دخل عليه يوماً أبو حنيفة، فقال له الإمام أأنت القائل بالقياس يا نعمان؟ فأجابه بنعم. والقياس هو فرع من علم الأصول بوبه الأمام الشافعي على النحو التالي: القرآن، فالحديث، فالإجماع، فالقياس، ثم الاستصحاب. قال له الأمام: ويحك يا نعمان إن أول من قاس إبليس، حين أمره الله بالسجود فأبى وقال: خلقتني من نار وخلته من طين. فسأله الأمام وهو يريد القياس: أيهما أكبر يا نعمان القتل، أم الزنا؟ فأجاب النعمان القتل. ويحك يا نعمان، فلم جعل الله في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة؟ أيهما أكبر البول أم المني؟ فأجاب البول. ويحك يا نعمان، فلماذا أمر في البول بالوضوء، وفي المني بالغسل؟ أيهما أكبر الصلاة أم الصوم؟ فأجاب الصلاة. ويحك يا نعمان، فلم وجب على الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ بعدها أدرك النعمان أن مثل جعفر تُشَدُ إليه الرحال. فذهب إلى المدينة وبقى معه عامين، وقال قولته الشهيرة: (لولا السنتان لَهُلِكَ النعمان). أما الأمام مالك ابن أنس فقال: (رأيتُ جعفر بن محمد وهو كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي أخضر وأصفر. اختلفتُ إليه زماناً، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً وإما قائماً وإما يقرأ القرآن).
أخذَ العلم منه كما أشرنا، الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك. وعلي مالك تتلمذ الشافعي، ومن الشافعي أخذ أحمد بن حنبل، لذا فالمذاهب الأربع ما هي إلا نتاج مدرسته. من أشهر تلاميذه سفيان الثوري أمام عصره في الورع والسنة والفقه، وفي اللغة الكسائي، صاحب مدرسة الكوفة النحوية. أما في الكيمياء فتتلمذ عليه جابر ابن حيان. ويعد جابر ابن حيان أب الكيمياء الحديثة. كان ابن حيان يفتتح رسائله الكيماوية بقوله: (حدثني سيدي جعفر بن محمد الصادق) ورسائله موجودة بالمكتبة الوطنية بلندن لمن أراد التحقق والاستزادة.
سئل القاضي أبن أبي ليلى قاضي الكوفة الشهير، أكنت تاركاً قولاً أو قضاءً لرأي أحد؟ فأجاب إلا لرجل واحد، هو جعفر بن محمد الصادق. يقول عنه شيخ الإسلام ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة ما نصه: (نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وأنتشر صيته في جميع البلدان). كان مجلسه منبراً تلتقي فيه أراء كل المذاهب والمدارس وتزدحم فيه أفكارهم. في مجلسه يجد صاحب كلَّ سؤال أو فلسفة إجابة شافية تستمد روحها من كتاب الله ومما قاله جدَّه، رسول الله صلى عليه وآله وسلم. حتى الملاحدة وجدوا في مجلسه حظاً ومقعداً، لصبره عليهم ومجادلته لهم بالحسنى. منهم الطبيب الهندي صاحب الإهليجة، والزنديق العربي واضع الحديث عبدالكريم بن أبي الوعجاء، وعبدالملك المصري. كما كان بمجلسه عمر بن عبيد شيخ المعتزلة. جاءه يوماً الجعد بن درهم وهو من غلاة الدهريين وأول من تكلم بالتعطيل فقال: "إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما" أتي بقارورة فيها تراب وماء، تحولت بعد أيام لدودٍ وحشرات. فقال "أنا خلقتُ هذا، لأني مسبب تكوينها". فأجابه الإمام إذن قل لي: "كم الذكران منها والإناث؟ وكم طول ووزن كل واحدةٍ؟" فبهت الذي كفر. ومن حواره مع معارضيه تظهر لنا سماحة الأمام وصبره على من يخالفه الرأي والسعي لإعادته للحق. فالجعد الذي حاوره الأمام قتله خالد بن عبد الله القسري والي هشام بن عبد الملك على العراق ذبحاً عندما خرج به موثوقاً إلى المصلى يوم عيد الأضحى، ثم خطب الناس، وقال: "أيها الناس! ضحوا، تقبّل الله ضحاياكم، أما أنا فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يُكلّم موسى تكليماً"، ثم نزل وذبحه، وذلك في عيد الأضحى سنة 119هـ. ففي عالمنا العربي والإسلامي قليل منا من يهتدي بجعفر وكثير منا يعمل بما عمل خالد في الجعد.
سُئل في مجلسه، هل رأى رسول الله صلى عليه وآله وسلم ربَّه؟ فأجاب: نعم بقلبه رآه. أما ربُّنا فلا تدركه الأبصار. كما سُئل عن القضاء والقدر وهل الإنسان مسير أم مخير، فأجاب: "الأمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض. وما من قبض ولا بسط إلا لله فيه مشيئة ورضاء وابتلاء". واستّرضَ قائلاً: "إن الله أراد منا شيئاً، وأراد بنَّا شيئاً. فما أراده منا أظهره لنَّا، وأما ما أراده بنا أخفاه عنَّا. فما بالنُّا ننشغل عما أراده منا بما أراده بنَّا؟". سأله زنديق حسب أنه سيوقعه ويعجزه قائلاً: "يا بن بنت رسول الله، مالنا لا نجدُ تحريماً للخمر صريحاً في القرآن؟" هذا سؤال مازال مطروحاً من المرجفين في الأرض إلى يومنا هذا. وقد اشتهر عن الأمام جعفر أنه كان يفسر القرآن بالقرآن، فأجابه "ألم تقرأ قول الله تعالى في سورة الأنعام آية رقم 145 (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ...). وقوله في سورة المائدة آية رقم 90 (يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ ...). فالميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنـزير، رجس، والخمر رجس، وكل رجس حرام". أطرق السائل برهة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة