صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


الطريق إلى الدولة السودانية الثابتة يمر عبر مرحلتين من الإنتقالية الحتميه/عبد الجبار محمود دوسه
Oct 23, 2008, 04:30

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

بسم الله الرحمن الرحيم

الطريق إلى الدولة السودانية الثابتة يمر عبر مرحلتين من الإنتقالية الحتميه

الإنقاذ عجزت عن انقاذ الوطن هل ستنقذ نفسها ام ستنتحر

أكثر من خمسين عاماً منذ أن نال السودان استقلاله وما زال حلم الدولة السودانية الثابتة التي ينصهر فيها التنوع بعيداً كبعد الثريا عن الأرض، بيد اننا ندرك أنه يمكن لمن يريد الثريا أن ينالها ولكن...لست في حاجة إلى سرد تاريخي لمراحل الدولة السودانية المعاصرة فهي قصة معايشة لبعض الاجيال وحكاوَىَ لآخرين وإن تباينت مضامين تلك الحكاوَىَ وألقت بتأثيراتها على ممارسات أؤلئك البعض، لاسيما الذين قيّض الله لهم أن يتبوأوا مراكز قياديه في مستويات السلطة وتنوعاتها. ولم تتمكن النخب الحاكمة من تأطير الدولة بدستور دائم يؤسس لممارسة معافاة، وظلّت الدولة ارجوحة في تداول سلطتها بين حكومات التعددية الحزبية البادئة والراغبة في صقل تجربتها عبر الممارسة التي لم تُتَح لها الفرصة، وبين حكومات العسكرية الصرفة وبين التنظيمات الفكرية التي آثرت أن تتزاوج مع او تتخفىَ تحت البزة العسكرية. وإذا ما أحسنا الظن في النوايا إلا أن الأعمال لم تصدّقها بما يجعلنا أن نخلص إلى أن التجربة برمّتها لم تُسجل نجاحاً لميلاد الأمة التي ينبغي أن تكون قد تجاوزت مرحلة بناء قواعد الدولة التي يجد فيها كل مواطن نفسه وتجد فيها الإثنيات والثقافات واللغات والسحنات والاديان المتنوعة مساحتها بتكافؤ للتفاعل لصالح الدولة السودانية، تلك التي نأمل ان يُكتب لها الثبات ويتذوق فيها كل مواطن طعم المواطنه لتنطلق كمثيلاتها اقليمياً ودولياً في منظومة تعمل لصالح البشرية جمعاء.

الإنقلاب على الشرعية وفرض الأُحادية

استولت الإنقاذ على السلطة عبر انقلاب على شرعية ديموقراطية، وفي ذلك نصنّفها لتقع ضمن أنظمة النخب الحاكمة التي تندرج في المنظومة الثالثة لمتداولي السلطة في السودان ممن ذكرناهم في الفقرة السابقة من هذا المقال. فهي تزاوج بين العسكر والجبهة الإسلامية أو إن شئنا قلنا أن الجبهة الإسلامية أتت متخّفية تحت بِزة العسكر. واعتقاداً منها في أنها يمكن أن تؤسس لدولة دائمة تقوم على أُحادية السلطة فقد وضعت استراتيجيتها في الإقصاء والتهميش، ومارست ذلك إلى أقصى درجات الإمتطاط. وقد كانت فلسفة الجبهه هي أن الآخرين إنما لبوس من رؤسهم إلى اخمص أقدامهم بالفساد مطلقاً كان أم جزئياً ومن ثم فإنهم في حاجه إلى تطّهر، أما المنتسبون للجبهة فقد تطّهروا بتراكم الإنتماء للتنظيم وما تشربوه من سقيا الطهارة النفسية وكأنما كان الإسلام حصري الفهم لهم. لقد راهنت نخب الإنقاذ على الأحادية في تطبيق مشروعها الحضاري. لم تمض سنوات طويله حتى كان ما كان وما زال من نتائج تطبيق الإنقاذ للمشروع الحضاري على الوطن. ولا أحسب أن ما طبّقته الإنقاذ يتباين كثيراً مع التعاليم الإسلاميه. لأن من مضامين التعاليم الإسلامية، التقوىَ وان التقوىَ من الإيمان، وان الإيمان هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل. وأن ما حلّ بالبلاد من مصائب لا يمكن أن يندرج في إطار تصديقٍ لما يوقر في أي قلب من إيمان. وأن ما أصبح عليه منتسبوها وما أصبح عليه الآخرون يغني كثيراً عن أي سؤال، ولكن السؤال المحوري الذي نطرحه لأهل الجبهة أو الإنقاذ أيهما أبلغ، وهو إذا افترضنا أن المنتسبين قد تشبّعوا بالطهارة المعنوية. هل ما حلّ بالبلاد من دمار باعترافهم هو نتاج لخطأ المشروع الحضاري أم خطأ في فهم وتطبيق المشروع الحضاري، أم سوء معدن القائمين على المشروع الحضاري بحيث لم يُحدِث تراكم السنين من سقيا الطهارة والتشرّب بالتعاليم الإسلامية أي طهارة لأنفسهم وقد علّمنا بأن النفس لأمّارة بالسوء. علماً بأننا طرحنا سؤالنا ونبقىَ على قناعتنا بأن الإسلام بريء من مشروع الإنقاذ الحضاري، ونظل كحال كل الشعب السوداني ننتظر الإجابة من أهل الجبهة أو أهل الإنقاذ أيهما أبلغ. المعلوم أن آفة الشهوة الأحادية للسلطة هي آفة تتطور تطوراً مميتاً، يمكننا أن نمثّل لذلك بالبالون الذي كلما زادوه انتفاخاً كان اكثر وضوحاً واتساعاً. لكنه في الواقع اتساع يفضي إلى نهايه. لعل انشطار الإنقاذ إلى مؤتمرين ( المؤتمر الوطني) و (المؤتمر الشعبي) هو نتاج لتجربة مماثلة. وها هو المؤتمر القابض على السلطة يعيد التجربة في نفسه دون أن يتّعظ من تجربته السابقة، حيث مارست ثلل من تلك النخب ترتيباً للأولويات واتخذت نخب أخرى تصفيفاً آخر للأولويات وبين هذه وتلك ضاعت الاهداف واتسعت جزئيات الوسائل لتملأ مساحات الأهداف. بيد أننا عندما نتحدث عن الأهداف إنما نعني أهداف الإنقاذ وهي ليست بالضرورة أهداف الأمة والوطن. كل هذا لا يقلل من أن كثيرين من أهل الإنقاذ قد تيقّنوا بأنهم لم تكن بهم طهارة نفس ذات خصوصية وسرعان ما انخرطوا واصطفّوا مع الآخرين. القاعدة البسيطة التي تقول، تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين، هي نفس القاعدة التي يمكن أن نمثل لها بأن المساحة المخصصة لأي تنظيم أو حزب سياسي في الإتساع، هذه المساحة يتوقف اتساعها عندما تبدأ مساحة الآخرين. وبهذا الفهم يجوز لكل قوىَ أن تبلور من استغلال أمثل وتطور من فعالياتها وفاعليتها داخل المساحة المخصصة لها دون أن تفكر في الإستحواذ على مساحة الآخرين حفاظاً على مبدأ الحقوق المتكافئه. وهي تجارب صقلتها امم كثيرة سبقتنا في ذلك، وما ينبغي لنا أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون. كان أجدى وانفع أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون مع القدرة على ضخ الخصوصية في ذلك. وإذا اخترنا أن نُمسك عن سرد تفصيلي لتأثير تلك الآثار الأحادية في كل مناحي الحياة خلال عقدين من الزمان هما عُمر الإنقاذ إلا أننا يجب أن نذكر ابرز النتائج التي تُغني عن السرد. فقد غابت الديموقراطية وانعدمت التعددية الحزبية وحُبست الحريات وتدهورت العملة الوطنية وتراجع الإقتصاد وارتفعت نسبة الفقر وانتشر الفساد الإدراي وتدهورت الخدمات وعمّت الحروب كل أقاليم السودان وساءت علاقات السودان الخارجية في محيطه الإقليمي وانتمائه الدولي وانتهى الأمر إلى تسمية قادته متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في شعبه. لم يشفع استخراج البترول ابرز انجازات الإنقاذ في شيء لأن عائده لم يُستخدم برُشد ومن ثم لم يكن له تأثير إيجابي تجاه ما ذكرنا من تراجعات هي بكل المقاييس تعدّ من الكبائر لأي حكومة تقع فيها.

الحرب والحوار والتفاوض والإتفاقيات

عندما فعلت نخبة الإنقاذ فِعلتها التي فعلت وقوّضت الشرعية الديموقراطية في العام 1989، سارعت القوى السياسية لإثنائها عن هذا النهج، وكان مدخل القوى السياسية بالتي هي أحسن. لم تصغ لمثل هذا الأسلوب الحضاري رغم أنها كانت حُبلىَ بمشروعها الحضاري الذي من المفترض أن يتضمن مثل هذه المعاني الحضارية من أدب الخلاف. لكنها ضربت بكل تلك المساعي عرض الحائط وطفقت تردد بإستمرار ومنذ يومها الأول وبشكل عنجهي بأن على الذين يريدون أن ينازعوها في السلطة أو ينتزعوها منها أو حتى يشاركوها، عليهم أن يحملوا السلاح ويقارعوها، لم تتوقف عند القول بل اتبعت ذلك بالعمل. وبدا وكأنها اعتقدت أن القوة هي وسيلة حكريه لها ولا يمكن لآخرين أن يمتلكوها، وبرغم ثراء الساحة المحلية والإقليمية والدولية بالتجارب الكافية لتكذيب هذا الإعتقاد، إلا أنه مَلك ناصية النخبة الحاكمة في الإنقاذ وبات أن الفكر الإنقاذي يتّخذ من هذه القاعدة منطلقاً لقراراته ومرتقاً لسياساته، ومرواءاً لظمأته. لم يشأ ذلك الفكر أن يستروض نفسه فيكفّ اندفاعها ويعفّ نهمها. لم تستجب لنداء التصالح والتسامح والتسامي على النزعات الأحادية لصالح إثراء التجربة الديموقراطية التي خرجت لتوها من تجربة شمولية قاسية استمرت لستة عشر عاماً. ولما تملّكت القناعة كل القوى بأنه لا جدوى من اسلوب الحوار في إقناع (الإنقاذ) اعتمدت آليات استخدام القوة. والحقيقة حينها كان العنوان ظاهراً في النهج الذي ستتّبعه الإنقاذ في حماية السلطة التي سلبتها بالنظر إلى تعاملها مع قضية الجنوب منذ اليوم الأول. ولما تعرضت لمقارعة حقيقية بالقوة انصاعت ونهجت اسلوباً يشتبه فيه قبولها للحوار مع الآخرين وسيلة لمعالجة الخلاف رغم ما يعتري ذلك النهج من ضعف القيمه الإيجابية للنوايا الصادقة لأنه ثبت لاحقاً أنه من جنس ما ينطبق عليه المثل القائل ( خوف لا استحياء) وبالتالي فهو لحظي. فجاءت مرحلة التفاوض والإتفاقيات وبرغم تعدد النزاعات على أقاليم السودان وكثرتها إلا أنها تحمل مضموناً واحداً يتمثل في الإستخدام العاقل للسلطة والتوزيع العادل للثروة. ومع إدراك أن مثل هذا الحل يستوعب الثورات الإقليمية ويلبي طموحات الهامش، إلا انه يَبقىَ كمعالجات مرحلية أو انتقالية على صعيد أزمة الأمة والدوله، لكنها ضرورية وحتمية لكونها تضع قاعدة صلبة لبناء الأمة الموحدة طوعياً وتثبيت الوطن المتماسك والقادر على البقاء والتطور بعد أن يقتنع الجميع بأنه لا مجال إلى هيمنة فئة على مقدرات البلاد واضهاد العباد. وهي مرحلة مرت بها امم كثيره من قبل ودفعت فيها الشعوب ثمناً غالياً من التضحيات حتى استقامات على صيغة الثبات.

 

الإتفاقيات مع حكومة المؤتمر الوطني

لقد عقدت حكومة المؤتمر الوطني جملة اتفاقيات، اولها كانت اتفاقية الخرطوم للسلام، ثم اعقبتها باتفاقية جيبوتي، وتبع ذلك اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، ثم جاءت اتفاقية القاهره، ومن بعدها كانت اتفاقية السلام لدارفور في أبوجا، ثم اتفاقية الشرق في أسمرا، واتفاقية متضرري سد مروي واخيراً اتفاقية التراضي الوطني. القاريء للأحداث بعمق او بسطحية يخلص إلى أنه لا يمكن أن تكون كل هذه الاطراف مخطئة في نزاعها مع نظام المؤتمر الوطني. وتبقى هذه حقيقة لا تقبل الجدال. ثم تأتي الأيام لتبين أن ثقافة الإلتزام بالعهود والمواثيق لدى المؤتمر الوطني الحاكم ما زالت لم تتغير فكراً ووسيلة وإلى حد كبير آلية. لا يمكن لاحد أن يقدح في الرغبة والنوايا الصادقة لكل التنظيمات والقوى السياسية التي ابرمت اتفاقات مع حكومة المؤتمر الوطني. فقد عبّرت عن رغبتها في أن يتمكن المؤتمر الوطني من استيعاب عِبر وتجارب النزاعات التي اندلعت ويُبدي مصداقية في فتح صفحة جديدة مع القوىَ الأخرى لمصلحة الوطن ووحدته. لم تكن الإتفاقيات إلا نتائج تعقب نزاعات مسلحّة كانت أم غير مسلّحة، ولكم كانت التجربة البشرية ثرّة وغنية بذلك، إلا أنها لم تبرز أن طرفاً واحداً قد حقق أهدافة كاملة من خلال حوار او تفاوض أعقب نزاعاً. فقد كانت الإتفاقيات دائماً نقطة التقاء في المسافة التي تباعد بين الطرفين المتنازعين، بيد أن قرب النقطة من أحد الطرفين إنما تتحكم فيه عوامل عديدة لا يمكن الخوض فيها بتفصيل لأنها تتباين من نزاع إلى آخر. ولم يشهد التاريخ لطرف أن وقّّع اتفاقاً تضمن استسلاماً كاملاً بشروط الطرف الآخر إلا في الحالات التي شهدت انتصاراً ساحقاً لطرف وهزيمة كاملة للطرف الآخر بما لا يترك له فرصة النجاة إلا بالتوقيع الكامل على وثيقة الإستسلام.(حالة اليابان والمانيا في الحرب العالمية الثانية). مثل هذا الوضع ليس له وجود على الساحة السودانية في التجربة مع حكومة المؤتمر الوطني على الأقل حتى الآن. كما لم ولن يتوقع أحداً أن يوقّع المؤتمر الوطني على اتفاق يُلغي به وجوده وسلطته ما دام فيه إحساس بأنه قادر على مواجهة معارضية بالقوة، وما دام ظل رافضاً لصوت الحق. وليس هذا بالطبع دعوة إلى الإستسلام ولا إضفاء صفة الكمال والإقتناع بالإتفاقيات التي تمّت، ولكنها وقفة تأمل لمآلات الأمور والتعمق في البحث عن افضل الحلول في ظل المعطيات الزمانية والمكانية والمؤثرات الإقليمية والدولية. وبحكم أنني أمين الشئون السياسية لحركة تحرير السودان الموقّعة على إتفاقية السلام لدارفور في أبوجا في نيجيريا، وعضواً في المجلس القيادي للحركة وكبيراً للمفاوضين لحركة تحرير السودان بشقيها إبّان المفاوضات، ومن ثَمّ عضواً في السلطة الإنتقالية الإقليمية التي نشأت بموجب الإتفاق ورئيساً لصندوق دارفور للإعمار والتنمية. هذه الصفات تتيح لي الفرصة أن أُعبّر بشكل أفضل عن التجربة كواحدة من محاولات المعالجة للنزاع السوداني في دارفور. ولعل التجارب المتعددة من الإتفاقيات ليست إلا تراكماً ينبغي أن تضيف جملاً مفيدة في مصفوفة المعالجة الشاملة للأزمة السودانية والتي نتحسس خطاها جميعاً وننشدها قريباً.

نموذج قضية دارفور

لنأخذ مفاوضات قضية دارفور كنموذج ومن ثم نمازج بين التجارب لنأتي إلى خلاصات نأمل أن تساعد في رسم الحزمة التي ينطوي بداخلها الحل الشامل للإزمة السودانية. لقد بدأت مسيرة التفاوض برعاية المجتمع الدولي بين الحكومة والحركتين (تحرير السودان والعدل والمساواة) من (أبّشي) مروراً (بأنجمينا) فأديس أبابا ثم أبوجا الأولى. وقبل بدء أبوجا الثانية، بدأت مسيرة الإنشقاقات وسط الحركات، حيث انسلخت مجموعة من العدل والمساواة واسست حركة الإصلاح والتنمية التي لم يكتب لها أن تشارك في المفاوضات. وفي أبوجا الرابعة انسلخت مجموعة أخرى من العدل والمساواة واسست حركة العدل والمساواة القيادة الميدانية. وقبل بدء أبوجا السادسة وعلى إثر مؤتمر (حسكنيته) حدث الإنشقاق الأول في حركة تحرير السودان وقد حضر الفصيلان الجولات المتبقية حتى توقيع الإتفاق في الجولة السابعة. وبالطبع فيما بعد انداحت حركة الإنشقاقات داخل الحركتين بالشكل الذي نعايشه الآن. وبالنظر إلى الحركات الثلاثة التي كانت في أبوجا السابعة، نجد انها تمكّنت من تجاوز تباينها التنظيمي واظهرت تنسيقاً قوياً في الجولة السابعة حتى الثلث الأول منها، بل برغم انفضاض أحد الفصائل من التنسيق في بدايات الثلث الثاني من الجولة إلا أن التنسيق الضمني كان ينبع من تفهم كامل لضروراته، الشيء الذي ابقى على التفاكر المشترك سمة بارزة، وبرغم بروز نوازع انقسامات وسط أحد الفصائل مما ألقى بظلال قاتمة على استراتيجية التفاوض لكنها لم تخدش بشكل غائر في المضمون. لقد حافظ القائمون بأمر تلك الفصائل على الحد الأدنى من ترتيب لائق للأولويات ولا أقول أمثل، ربما كانت الظروف آنذاك أكثر مواءمة مع الخيارات التي اختاروها.

قرار التوقيع

سأتعرض إلى موضوع التوقيع في هذه الفقرة وارجو أن لا يكون ذلك دعوة لأي من القراء لاتخاذه مادة للكتابة بالحديث عن توقيته بعد كل هذه المده، فهو موضوع قديم لكنه يأتي في سياق العبرة وبالتالي لم أقصد أن أتناوله من زاوية صحته أم عدمها، وإنما أردت الإشارة إلى بعض النقاط التي آمل أن تكون أكثر فائدة في مرحلتنا هذه. وقطعاً سنتعرض لمسيرة الثورة بالتفصيل من خلال التأريخ لها، كما سيفعل غيرنا ذلك حتماً.

 لقد تعرض قرار توقيع الإتفاقية من قبل حركة تحرير السودان بقيادة الأستاذ/ مني اركو مناوي والذي اصبح لاحقاً كبيراً لمساعدي رئيس الجمهورية ورئيساً للسلطة الإنتقالية المنشأة بموجبها، تعرّض ذلك التوقيع للكثير من الآراء منها المتوازن ومنها المؤيد ومنها المعارض وقد تفاوتت الأحكام في ذلك، ولعله لكلٍ اسبابه ودوافعه ولا تخرج كل الدوافع عن كونها تستقصد هدفاً سامياً هو تحقيق مطالب أهل دارفور. لقد مايز قادة الفصائل المفاوضة بين اتفاقية تؤمّن كل الحقوق لأهل دارفور من خلال سلام عادل شامل ودائم وإن طالت المعاناة، وبين اخرى تؤمّن تلك الحقوق وذلك السلام من خلال مراحل إذا كان ذلك يوقف نزيف الدم ويرفع المعاناة. فاختارت الحركة الخيار الثاني رغم ادراكها بأنه في حال تخلف أي فصيل من الفصائل الشريكة في التفاوض آنذاك عن التوقيع قد يؤدي هذا الأمر إلى أن يتجاوز الرأي العام في دارفور خطوة الحركة نحو تحقيق الأهداف بخيار التمرحل إلى ترجيح كفة الخيار الآخر في الحصول على كامل الحقوق مهما كلف الأمر من معاناة ولو طال الأمد. ولم يكن خيار الحركة آنذاك سهلاً، فقد بلغ الأمر مداه في الأخذ والعطاء في مؤسسات الحركة بدءاً بوفدها في التفاوض، وقد كنت ضمن الأصوات التي ترجح خيار الحصول على الحقوق من خلال خيارالسلام العادل الشامل والدائم وإن طال أمد المعاناة وهو الخيار الذي كان مخالفاً لخيار رئيس الحركة وكثير من قياداتها بالتوقيع. ولأنني كنت على رأس المعارضين للتوقيع في وفد الحركة آنذاك فقد كان منطلقي لذلك قائم على اسس سياسية وقراءة مباشرة للظروف التي كانت تحيط بتواجد المجتمع الدولي ومسيرة التفاوض، الشيء الذي أدى بي حتى لعدم حضور الحفل الختامي للتوقيع علماً بأنني قد قدّمت مرافعة الحركات الختامية حول رفضها لوثيقة الإتفاق في الجلسة النهائية قبل التوقيع بتاريخ 29/4/2005. في الجانب الآخر كان للفريق الذي يقوده رئيس الحركة في ضرورة التوقيع اسباباً عسكرية وربما بعضها سياسية، فالأستاذ/ مني وبحكم انه رجل ميداني يعايش بشكل اكثر قرباً تحولات الساحة العسكرية وظروفها، وبحكم أن الرجل كان رئيساً للحركة صاحبة الوجود العسكري الأكبر آنذاك والتي تعتمد على نفسها وعلى ما يجود به مواطن دارفور في تمويلها لقواتها الدفاعية الكبيرة ومتطلبات المعارك المكثفة وعلى مغانمها من معاركها، تلك المصادر قد بدأت بالإضمحلال في الأشهر الأخيرة من العام 2004 والأولى من العام 2005 لأن النظام قد أجبر المواطنين بالنزوح واللجوء وهم كانوا يشكلون أحد أكبر مصادر الدعم اللوجستي للثورة، ومن ثم تم محاصرة تنمية احد مصادر التمويل بجعله هو نفسه في حاجة إلى تمويل. كما تنبه النظام إلى تعديل صيغة خطوط إمداده بحيث يخرج بأقل المفقودات في معاركه من معينات مخلّفات لوجستيه يستفيد منها الطرف الآخر. في وقت ظل وضع النزوح واللجوء والمعاناة في تزايد مستمر. كل ذلك كان يُلقي بمسئوليات جسام على الرجل وعلى القرار الذي تم اتخاذه. ليس ذلك فحسب بل من الأسباب ما لا يقل خطورة عن السابقات، آلا وهو نُذر الإنقسام في اوساط الحركة وجيشها ومساعي النظام الدؤوبة إلى النجاح في ذلك مما يعني إضعاف وتشرذم القوة الضاربة للثورة، وقد أثبتت الايام أن تلك القراءة كانت قد لامست كبد الحقيقة في كثير من جوانبها لا سيما بعد الإنقسامات الكثيرة التي ضربت حركات دارفور قبل وعقب الإتفاقية والتي بلغت أكثر من خمسة وعشرين فصيلاً. كما أنه في الطرف الآخر اثبتت فعاليات مرحلة تطبيق الإتفاقية أن النظرة السياسية التي بنينا عليها رفضنا وعارضنا بموجبها التوقيع كانت ثاقبة أيضاً. بيد أن اختلاف الرؤىَ آنذاك لم يكن مدعاة لنا للتشرذم بقدرما كان التزامنا بقرار الأغلبية مصطحبين في ذلك قِصر فترة نشوء الحركة وتجربتها وضرورة صقلها، علماً بأن ثقافة الإنقسامات والإنسلاخات أضحت نهجاً ماثلاً في القوى السياسية السودانية بأجمعها ولم تكن دمغة حصرية في جبين حركات دارفور . من جهة أخرى فقد اتّسم التباين في الرؤية حول التوقيع بين قادة الحركات الثلاث آنئذ الأستاذ/ مني أركو مناوي والأستاذ/ عبد الواحد محمد أحمد النور والدكتور/ خليل إبراهيم محمد، إتّسم بمرئيات كل حركة للظروف التي تعيشها وقدرة تلك الظروف في الحفاظ على قوة الصمود مع تقدير كامل لخيار الأطراف رغم مرارة الإحساس بالخيار الذي اتخذه الأستاذ/ مني والذي كانوا يأملون أن يواصل معهم صاحب القوه العسكرية الأكبر. كل هذا بالطبع لا ينتقص من دور الحركات الأخرى والتي بقدر ما تملك ظلّت توأئم فاعلة في ساحة النضال من أجل الحقوق كما نأمل أن تبقى بإذن الله. كما لا يمكن القول بأن الإتفاقية كانت سبباً في انسلاخات الحركات بل بعكس ذلك كان ينبغي لها أن تزداد رغبة في التوحد والتلاحم أكثر بحكم ضرورات مواجهة تحديات المرحلة التي اعقبت التوقيع على الإتفاقية لكن الأيام اتت بغير ذلك. لقد ظللنا في الحركة ننتهج سياسة ثابتة بعدم تحويل المعركة مع النظام إلى معارك جانبية على كل المستويات بالحفاظ على خطاب ثابث تجاه علاقة الحركة مع الحركات الأخرى حتى بعد التوقيع. وظلت مؤسسات الحركة بمختلف مستوياتها وقادتها وأعضاؤها يمارسون التزاماً قوياً بالخطاب المركزي في ذلك. لا اقول أنه لم تكن هنالك شذرات من القول والفعل ولكنها لا تذم في المضمون والشكل ولا تقلل من الموقف الثابت حتى اليوم. أقول كل هذا لأوكد بأن القوى التي اتخذت قرارات الدخول في اتفاقيات مع النظام ما كانت إلا لتأمل في أن يستقيم حال النظام عبر هذه الإتفاقيات في محاولات دائبة لإنقاذ الوطن من جرف الهاوية الذي ظلّت تنزلق عبره الي قاعها بقوة. ولا يقدح في مصداقية الذين دخلوا في اتفاقيات مع النظام إذا لم يُنجز منها ما يشبع طموحات المواطن بسبب عدم وفاء النظام بالتزاماته مهما كان شكل تلك الإتفاقيات. لأننا بذلك نخلص إلى تبرئة النظام من مسئولية الإخفاق وهو صاحب المسئولية الكبرى وإن تحمّلت الأطراف الأخرى بعض المسئولية ايضاً. فالأستاذ/ مني وكل قيادات القوى التي وقّعت اتفاقيات ، لا يمكننا أن نقدح في نضالها ومصداقيتها، فقد كانوا مناضلين يتربص بهم النظام في كل مكان، حتى أن أحدهم إذا أمسىَ لا يدري هل يصبح، وإذا أصبح لا يدري هل يُمسي. هكذا كان حال كل الذين رفعوا راية النضال وما زالوا في الميدان كانوا أو خارجه. من وقّعوا اتفاقيات أم اختاروا عدم التوقيع وسيبقون مطاردين ومستهدفين من النظام حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. من هنا تأتي دعوتي إلى كل المناضلين في الحركات كانوا أم في القوى السياسية الأخرى، في مؤسسات المجتمع المدني لتجمعات الشعب الدارفوري خاصة والسوداني عامة في الداخل أو في الخارج وعلى رأسها الحركة التي أنتمي إليها أن ينتقلوا إلى مربع التوافق وهو مربع يحتاج إلى الكثير من نكران الذات، وإلى تسابق التنازل، وإلى ترتيب أمثل للأولويات إذا كنا نرغب في أن نعالج قضية الإقصاء ونقّوم مسار الدولة السودانية دون أن يتخلف أحد عن رُكب المسيرة ولا يفوته شرف المساهمه .    

تطبيق الإتفاقيات ونموذج أبوجا

تجربة حركة تحرير السودان التي وقّعت اتفاقية أبوجا تجربة ثرّة مع قِصر المده. وهي بلا شك تمثل انموذجاً لمدى التزام حكومة المؤتمر الوطني بالتزاماتها تجاه الإتفاقيات التي وقعتها. لا أرى حاجة إلى الدخول بتفصيل في شكل التطبيق لأن ذلك يحتاج إلى مقالات ومنابر، لكنني اطرح خطوطاً عريضة تلخّص مضمون التطبيق بشكل عام ليعطي القاريء فهماً اوقع لطبيعة المرحلة. لقد سبق لي أن اوضحت في منابر عديدة بأن الإتفاقيات التي تُفضي إليها النزاعات القائمة في السودان إنما تمثل مرحلة انتقالية هامة مؤطّرة بمدى زمني ولا يمكن تجاوزها لا سيما وأن الثقة بين الهامش والأنظمة قد تلاشت، ولأنه ليس من الممكن تخدير الإنتفاضة التي أيقظت الهامش والهبت في دواخله رغبة النشوة باستعادة الحقوق عبر وسيلة التقاسم كمرحلة هامة لإعادة بناء التكافؤ عبر القناعة المشتركة بضرورة العدالة اياً كان القائم على أمر السلطة. هذه المرحلة الإنتقالية اضحت ضرورة لا فكاك منها. لأن بها يكون الهامش قد بلغ مرحلة القدرة على انتزاع الحقوق وهي مرحلة إن لم تُروّض وتُوجّه ستنتقل وتتبلور إلى غول آخر تأخذه العزة بالنفس وتصبح هنالك أحادية أخرى اسمها الهامش الذي بلا شك لن يصبح اسمها هامشاً حينئذ. فمن أجل مرحلة أكثر أهمية لممارسة سياسية قائمة على التعددية المسنودة بشعور الحقوق والواجبات المتكافئة والثقة المتبادلة ينبغي أن تعمل كل القوى بإنجاح هذه المرحلة بعد أن تُؤطر بكوابح دستوريه. ولن يتأتى ذلك في ظل تشرذم وتقوقع الحركات والقوى السياسية الراغبة في التغيير وانتهاج اسلوب المزايدة بالتصيّد المتبادل لخُطىَ بعضها البعض أملاً في كسب سياسي. الكسب السياسي الحقيقي يكمن في القدرة على التفاعل في أحلك الأوقات، ويكمن في القدرة على تجاوز أخطاء الآخرين بالعمل على مساندتهم لتجاوزها لمصلحة القضية المشتركة.

لقد اعترت ممارسات مؤسسات حركة تحرير السودان الموقعة على الإتفاقية وقياداتها واعضائها بعضاً من اخفاقات، ولا يتأتى لحركة في عمرها أن تُواجَه بما واجهته أن تسلم من هنات. فقد كانت التحديات جسام تمثلت في عدم توقيع الفصائل التي كانت طرفاً في التفاوض ونهجها الذي اتخذته بعد ذلك . كما شكّل عدم التزام الحكومة بقيادة المؤتمر الوطني أحد اكبر التحديات. وليس ضعف الإمكانات المادية للحركة ببعيد حيث اقعدتها من القدرة على تفريغ كوادرها المتواجدة في الداخل والخارج. وتوجس القُوىَ السياسية التقليدية من هيمنة وشيكة لقُوىَ الإتفاقيات على قواعدها مما جعلها تقف بعيدة عن التفاعل مع الإتفاقية تارة وتقف مصادمة لها تارة أخرى. المجتمع الدولي الذي أدار ظهره للإتفاقية من يومها الأول. مواطن دارفور المتأمل في نتائج عاجلة ترضي طموحاته كاملة. الإتحاد الافريقي الذي لم يتمكن من ملء دوره وسيطاً مشرفاً على التطبيق وتلكؤ وريثه (اليوناميد). كان لهذه الحزمة من التحديات دوراً بارزاً في تعويق انطلاق الحركة كتنظيم شاب يريد أن يملأ مساحته السياسية، ولم تكن طموحات المواطن السوداني في الشق الثاني للإتفاقية والخاص بالتحول الديموقراطي واطلاق الحريات ببعيدة عن ذلك. لقد حدث الصدام العسكري الأول مع النظام في الخرطوم عندما هاجمت قواته مسكن جرحىَ الحركة في مدينة المهندسين في أم درمان حيث فقدت الحركة بعضاً من قواتها الذين استشهدوا في تلك الواقعة، كما فقد النظام ضابطاً وبعضاً من جنوده. كل هذه التجارب لم تُحرّك من فهم المؤتمر الوطني لمعنى الحفاظ على وحدة الوطن بالإعتراف بأخطائه وحقوق الآخرين، ولم تحوّله إلى تنظيم اليف قادر على التعايش مع نظرائه، ولم تخمد فيه نشوة الأحادية، ولم تنزع منه سطوة الشموليه، ولم ترسّخ فيه معنى التحوّل الديموقراطي وضرورة التعددية وحتمية التداول السلمي للسلطة. بل بقي النظام وفياً لمعتقده القائم على عقد الإتفاقيات، قويها وضعيفها، صغيرها وكبيرها، والإيتاء بالآخرين وإحالتهم إلى ركام ورصفهم فوق بعضهم لعله يجد في الجلوس عليه أنه يبدوا أرفع مقاماً وأعلى درجة. بل ذهب أكثر من ذلك حين زّين الصرح بركام القرارات الدولية التي لم تنفذ. تُرى هل ينتظر الإتفاقيات القادمة نفس المصير أم يتغير النظام؟ وما الذي يجبر النظام أن يتغير؟. وهل يعلم النظام أنه إنما ينسج أكفانه بيديه وأنه ماض إلى انتحار لا محاله؟!.

لقاء الأستاذ/ علي عثمان

والأستاذ/ مني مناوي ومصفوفة الفاشر

إن لقاء الفاشر الذي جمع نائب رئيس الجمهورية الأستاذ/ علي عثمان محمد طه بكبير مساعدي رئيس الجمهورية الأستاذ/ مني أركو مناوي ، هذا اللقاء جاء على خلفية رغبة الأول في قيادة وفد النظام إلى إجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك بغية تحسين الصورة، واستياء الاخير والتزامه البقاء وسط قواته في الميدان احتجاجاً على عدم التزام النظام بتعهداته وهو ما يكذّب الإدعاء الدائم للكثيرين ممن يتناولون الإمور بسطحية حين يصفون الذين تبوأوا مناصب عقب إتفاقية أبوجا أو غيرها من اتفاقيات بأنهم طلاب مناصب وانتهازيين وما شابه ذلك من أوصاف. بل يذهب البعض الآخر إلى ترديد المقولة المشهورة والقائلة (بأن الثورات يخططها المفكرون وينفذها الشجعان ويستثمرها الإنتهازيون) يكررونها دون إدراك حيث تختلط لديهم الفواصل بين مفهوم من هو المفكر ومن هو الشجاع ومن هو الإنتهازي ويتيهون في هذا المثلث فاغرين أدمغة وأفواه. إن بضعة أمثله من التاريخ كافية بانتشال مثل هؤلاء من فوهة أعصار الضياع الذي انحبسوا فيها. ففي غضون ثلاثه قرون كان هنالك المهدي والخليفه التعايشي وعمر المختار وعبد القادر الجزائري ومحمد علي جناح وغاندي ونكروما ولوممبا وأبوبكر تفاوا بليوا واحمدو بيلو وماوتسي تونج وأحمد سوكارنو وجومو كنياتا ودكتور باندا وجمال عبد الناصر ولينين وماركس وجيفارا وابراهام لينكولن ومهاتير محمد وجون قرنق وهوشي منّه ومارتن لوثر كنج. جميعهم كانوا جزءاً من ثورات باختلاف مضامينها وأهدافها وفكرها وهنالك غيرهم كثر، ترى أنّىَ لمرددي الأقوال جزافاً أن يصنفونهم؟! إذاً استثمار الجهود فيما هو أنفع يعد أقصر الطرق إلى تحقيق الأهداف. جميعنا ندرك بأنه لا يمكن لأي مناصب تفرزها أي إتفاقية أن تبقى خاوية. نتفق مع الجميع في أن المناصب تنشأ قرينه للإتفاقيات لتعبّر عن عدة مضامين من بينها الرمزية للمشاركة والتقاسم في السلطة وأداء الوصف الوظيفي والأهداف الوارده ضمنها مصلحة المواطن وتوازن القوى واسباب فرعيه أخرى. وفي وصف سابق قلنا أن المناصب بالنسبة لنا مثلها ومثل بيت الأدب نعافه لكننا ندخله، وآمل أن يكون للكثيرين بهذا الفهم مع المعذره. كما نتّفق في أنه إذا لم تُحقق تلك المناصب كامل الأهداف المرجوة منها نظراً لعدم التزام الطرف الاقوى في الإتفاقية، وهو في حالة اتفاقيات السودان هي حكومة المؤتمر الوطني، في هذه الحالة لا يمكن القدح في شاغر الوظيفة أو المؤسسة التي ينتمي إليها لأن جزءاً من الأهداف حتماً قد تحققت ويكفي أن المنصب إذا كان مشغولاً بشخص كامل الولاء للطرف الآخر سيختلف الحال فيه عما هو الوضع بخلاف ذلك. هذا لا يعفي التنظيم المشارك في أن يستسلم للأمر الواقع وإنما عليه العمل على تعديل ذلك من خلال ما تتوفر له من وسائل وآليات وضمانات. وإذا نظرنا لنموذج أبوجا نجد أن الضمانات ليست بالقوة التي تجبر أي طرف وتلزمه إذا أخلّ بالتزاماته وإذا تنكّر لتعهداته. وبرغم مساعي قيادات الحركة العسكريين وثوارها المتواجدين منذ بدء الإتفاقية في الميدان صابرين على ابتلاءآت التجاوزات المتكررة والخرق المتواصل لوقف إطلاق النار من النظام، وممتصّين لمضايقات رفقاء النضال من غير الموقعين متفهمين لدواعي وطبيعة تلك المضايقات، وصبر قيادات الحركة وناشطيها وجماهيرها في الداخل والخارج على مواجهة التحديات التي ذكرتها من قبل، وتجاوزهم لكل صنوف النقد اللاذع من الحادبين وغيرهم، ومحاولاتهم الدؤوبة لإجبار النظام للإلتزام بتعهداته ، وصبر مواطن دارفور وفي مقدمتهم اللاجئين والنازحين، وصبر كل الشعب السوداني على الإبتلاءلآت التي ألمّت به. تمكنت الحركة من امتصاص كل ذلك في سبيل بناء تنظيم له رؤيته السياسية، تنظيم قادر على مواجهة التحديات، وقادر على تجاوز الإبتلاءآت، وعازم على المشاركة مع الآخرين في معالجة الأزمة السودانية. وإذا كان قدر الحركة في أنها تلقّت الصدمة الأولى من وهج النظام في اتفاق أبوجا، فهي بذلك قد شكّلت تجربة حرية بالإعتبار بها والإستفادة منها وليست للسخرية أو المزايدة بها وقد قلنا أن العجز مرجعه عدم التزام الحكومة بتعهداتها، ولا ينبغي أن يؤسس قاعدة للقدح في تضحيات المناضلين وهو ديدن وحال كل القادمين بموجب اتفاقيات اخرى أو الذين سيأتون باتفاقيات قادمه لطالما ظل النظام الذي يتفقون معه باقياً ومتمسكاً بغيّه. كما لن يكون بأي حال من الأحوال موضعاً لمزايدات في محاولة للإنتقاص من الدور النضالي للحركة أو التنظيم أو القوىَ المعنية أملاً في إزاحتها من الساحة السياسية باستخدام ممارسات تخالف قواعد الممارسة السياسية، ودوننا تجربة حية كيف أن ممارسات الإقصاء قد قادت المؤتمر الوطني إلى مقصلة العزل السياسي الوطني وساقت ثلة من قادته إلى لائحة الإتهام لدى العدالة الدولية. ولا أعني هنا أنني أقارن بين أؤلئك والمؤتمر الوطني وإنما أشبّه بالفعل وحسب، حيث أن أؤلئك من الثوار ولا مجال للمقارنه. شكّلت اتفاقية أبوجا لموقّعيها تحدياً في إثبات صِحة أنه يمكن إقرار الحقوق بالتمرحل مع وقف نزيف الدم وتقليل المعاناة فيما إذا التزم المؤتمر الوطني الحاكم بتعهداته. ولقاء الفاشر جاء في مرحلة مفصلية لطرفي الإتفاقية. فالمؤتمر الوطني مواجه بطلب المدّعي الجنائي الدولي بتوقيف رئيس الجمهورية على خلفية الجرائم التى ارتكبها النظام في دارفور وهو يسعى إلى التمسك بقشّة التأجيل. وحركة تحرير السودان مطالبة بعد مضي سنتين من توقيعها على الإتفاقية ومحاولاتها بهداية النظام بضرورة الإحتكام للرشد واعتماد ثقافة الإلتزام بالتعهدات والإرعواء عن المخاصمة الدائمة للشعب، مطالبة بتحديد موقف فاصل، حيث لا يستقيم أن يبقى ذلك الجمود وتبقى هي دون موقف و إلا وضعت رصيدها النضالي موضع الشك والإتهام. في هذا المفترق الفاصل جاء لقاء الفاشر الذي تمخض عن مصفوفة القصد منها تحريك السكون في إنفاذ اتفاقية أبوجا. والمصفوفة ليست بنوداً للتفاوض من جديد، وإنما هي جدولة مضغوطة لاشياء متفق حولها وواردة في الإتفاق، يحدد الزمن القريب صدقية رغبة المؤتمر الوطني في الإلتزام من عدمها. علماً بأنني عن رؤيتي الذاتية أبقىَ على قناعة بأن قيادات المؤتمر الوطني ما زالوا في سكرتهم يعمهون ويبحثون عن شراء الوقت. لكن دعنا نصطف إلى جانب المحاولة فلا نخسر أكثر من أن نضيفها إلى التجارب الفاشلة مع النظام إن هي جاءت مصدّقة لقناعتنا ولا أتمنىَ. وحتى نقيّم منذ البدء نجاح أو فشل مصفوفة الفاشر ونحدد ما إذا كانت ستلقىَ مصير سابقاتها من التعهدات، هنالك أربعه أمور يجب أن تصدر بها مراسيم من مؤسسة الرئاسه حتى تنجح المصفوفة وتتجاوز استنساخ حالة الركود السابقة ،وقد سبق أن ذكرنا ذلك خلال مسيرة التطبيق في أكثر من منبر من منابر انفاذ الإتفاقية ، الأمر الأول هو أن الإتفاقية قد تم إجازتها في المجلس الوطني ولم تدرج في الدستور كما هو حال اتفاقية السلام الشامل، وهو أمر ظلّت أمانة الشئون القانونية بالحركة تنادي به منذ اليوم الأول للإتفاقيه، ويجب أن يتم فوراً. الأمر الثاني هو أن الإتفاقية قد نصّت على أن كبير مساعدي رئيس الجمهورية هو المسئول الأول عن ملف دارفور وتطبيق الإتفاقية وهو الذي يشرف على تطبيقها وبالتالي فهو الذي يصدر بشأنها القرارات التنفيذية مالية كانت أو إداريه للجهات المناطة بالتنفيذ الجاري ومسئولاً عنها لدى مجلس الوزراء ومؤسسة الرئاسه والمجلس الوطني. والوضع السابق مختل حيث كان الملف لدى شخص دستورياً أدنى درجة من كبير مساعدي رئيس الجمهورية يستمد قوته فقط من كونه من قيادات المؤتمر الوطني فحسب ويتجاوز في تعامله مع ملف التطبيق التدرج الدستوري للحد الذي يسعى فيه إلى أن يفرض سريان قراراته على كبير مساعدي رئيس الجمهورية ويضرب بقرارات كبير المساعدين عرض الحائط، بينما هو في الواقع يجب أن يكون رئيس لجنة الإنفاذ التي تشكّلها الحكومة باعتبارها طرفاً من أطراف الإتفاقية نظيراً لرئيس اللجنة العليا لتطبيق الإتفاقية من جانب الحركة وليس نظيراً لرئيس الحركة، واللجنتان تجتمعان برئاسة الإتحاد الأفريقي سابقاً وحالياً برئاسة اليوناميد الوريث للإتحاد الأفريقي في كل آليات التطبيق. بينما معروف أن رئيس حركة تحرير السودان هو المرجعية العليا للجنته. وتكون مؤسسة الرئاسة التي تضم رئيس الجمهورية والنائب الأول ونائب رئيس الجمهورية هي المرجعية للجنة الحكومة، وليس رئيس الجمهورية لأن الإتفاقية تم توقيعها مع حكومة الوحدة الوطنية وليس مع المؤتمر الوطني، ولا يملك المؤتمر الوطني حق الهيمنة لمجرد أنه درج على ألا يلتزم بالأطر القانوية ويعتمد على تحكّمه في السلطة وسيلة في كل شيء. ولا يضير أن تشكّل مؤسسة الرئاسة لجنة عليا لتطبيق الإتفاقيات أجمعها برئاسة أحد أعضائها. في حين يكون كبير مساعدي رئيس الجمهورية هو رئيس أي لجنه عليا تشكّلها مؤسسة الرئاسة لتطبيق إتفاق السلام لدارفور. حينها فقط يكون تقاسم السلطة والمشاركة الفاعلة لشخص من دارفور في السلطة قد انعكس بقدر مترجماً لجزء من أهداف الثوره. الأمر الثالث هو أن الإتفاقية في فصلها بين العلاقات الرأسية للولاة ورئيس السلطة الإنتقالية قد خلقت وضعاً مخلاً بإعطاء الولاة صلاحيات إدارية ومالية وارتباطهم مباشرة برئيس الجمهورية دون أن يكون لرئيس السلطة سلطة عليهم في ذلك، ويحق لكل إنسان أن يطرح لنا السؤال لماذا قبلت الحركة بهذا الوضع عند التوقيع!؟ والإجابة أننا شرحنا ملابسات التوقيع وشرحنا مرافعتنا حول الوثيقة في فقرة سابقه، كما اشرنا لهذا الوضع المخلّ قبل التوقيع. وشرحنا ملابسات قبول الإتفاقيه. ولكن في نفس الوقت أعطت الإتفاقية لرئيس السلطة الإنتقالية بحكم الترتيبات الأمنية الواردة في الإتفاقية صفة المسئول الأول عن الأمن في دارفور وبحكم أن الولاة رؤساء للجان الأمن في ولاياتهم، فهم بذلك يخضعون في مرجعيتهم تجاه القضية الأمنية إلى رئيس السلطة الإنتقالية وهو في ذلك رئيس لجنة أمن دارفور وفي مقدوره تجاوز صلاحيات الولاة الإدارية والمالية لأن الأمر خاضع لحاله استثنائية هي المعالجة بعد النزاع المسلّح ويتأثر أي وضع إداري في أي من مستويات السلطة المحلية أو الولائية بمنظومة الترتيبات الأمنية التي فصّلتها الإتفاقية وفق خرائط جغرافيه وكتل اجتماعيه لا تقبل التعدليل قبل التطبيق حتى لا يخل مضمون الإتفاقيه. الأمر الرابع هو أن مناصب رؤساء مفوضيات السلطة الإنتقالية هي ترجمه لمبدأ تقاسم السلطة، لذلك فشاغليها أعضاءاً في مجلس دستوري سياسي ولا بد أن تعكس مراسيم تسميتهم، ايضاً درجاتهم التي لا ينبغي أن تكون دون المستوى الوزاري الإتحادي بحسبان ان قوامتهم على مفوضيات على مستوى دارفور وليس على مستوى ولايه ولا بد أن يكون لهم ترتيبهم البروتكولي في قائمة البروتكول حتى يتمكنوا من أداء دورهم كاملاً في التعامل الدستوري مع مستويات السلطة الإتحادية ومستوى حكومة جنوب السودان والولائية والمحلية والتعامل الدولي في حضور المؤتمرات والملتقيات الإقليمية والدولية وبعثات الدوله الدبلوماسية، وهم رغم مضي سنتين لم يؤدوا اليمين الدستورية بعد. هذه حزمة تفاسير قانونيه لصياغات سياسيه تعكس مضامين وثيقة إتفاق وقد عكستها لجنة الشئون القانونية باللجنة العليا للحركة في أكثر من مذكّره واجتماع، كما فعلت اللجنه العليا للإتفاقيه، وكذلك فعل المفوضون بالسلطه. وبالتوقف عند تخصيص هذه النقاط الأربعه لا أقصد اختزال مضامين المصفوفة ومحتوياتها التي أعدتها جهة الإختصاص في الحركة بتفصيل وبدقه ودرايه، كما نحفظها جميعاً في الحركة عن ظهر قلب، ولكن الإختبار الحقيقي يكمن في صدور هذه القرارات والمراسيم الأربعة بعاليه لأنها تمثل الفيصل في الجدية بعيداً عن ما اتّبعه النظام من تفسير وفق الهوى وفرضه وأعاق به تنفيذ الإتفاقية. وفي حالة فشل النظام من استصدار تلك القرارات والمراسيم يبقىَ من حق رئيس الحركة أن يستعصم بمقامه الحالي، كما يحق للحركة أن تعيد تقييم ارتباطها بالإتفاقية بما يتواءم مع الموقف الجديد ذي التقاسيم القديمه، لأنها تتحمل مسئولية كبرى باعتبارها اتخذت قراراً صعباً بالتوقيع، فإذا تمسك الطرف الثاني برفضه التطبيق قولاً أو فعلاً يجب أن تتحمل الحركة مسئوليتها تجاه ما ينص عليه نظامها الاساسي حول تحقيق أهدافها، ويجب أن تُبرر لشعب دارفور أي موقف يخالف ما التزمت به باسمها وهو تفويض ضمني لكنه ليس حصري بالطبع، ولأن المكاسب هي للمواطن في الترتيبات الأمنية والسلم والمصالحات كانت أم في التنمية والإعمار و إعادة تأهيل النازحين واللاجئين والتعليم والخدمة المدنية والتعويضات فضلاً عن الحريات والتحول الديموقراطي. وأن ما ينوب الحركة من ذلك لا يتجاوز بضعة مناصب فرضتها ضرورة كونها طرفاً مسئولاً مباشراً عن التنفيذ.

بين الطموحات الذاتية وتكاثر الحركات والتنظيمات السياسية

إن شهية انشاء التنظيمات مفتوحة على مصراعيها وقد شهدنا ونعايش باستمرار كيف تتكاثر الفصائل من مجرد خلاف عارض في ابسط المسائل داخل أي حركة، فلا مكان لأدب الخلاف في صغائر الأمور، وبات أن الكل يعتقد بأنه قادر على تأسيس حركة أو تنظيم. وزاد من ذلك أن ظلّت وسائل الإعلام مشرّعة يطالها كل طموح بيسر، ولا يحتاج الأمر لأكثر من بيان من نصف صفحة ينشر في الإنترنت. كما عايشنا كيف أن خلاف في الرأي بين أثنين في حزب سياسي يؤدي إلى انشقاق وبروز حزب سياسي جديد. نعم إنشاء وتأسيس التنظيمات هو حق مكفول لكل فرد أو مجموعه بموجب حقوق الإنسان والعرف وأي دستور سوي. وساحة النضال من أجل قضية دارفور أو أي قضية أخرى وفي مقدمتها مأزق الأزمة السودانية أيضاً ليس حكراً لأحد ولا يمكن لأحد أن يدّعي ذلك. لكن القدرة على ممارسة أدب الخلاف في التنظيم الواحد والصبر على بناء التنظيم هو الأمر الذي يؤدي إلى وجود تنظيمات قويه وقادرة على إنتاج فكر يستند إلى تجربه، ودون ذلك ستفرخ صغائر التباين في أبسط الإمور التنظيمات كما تفرخ بعض الدواجن أعداداً من البيض الفاسد. لا بد أن نعترف بأن الأطراف المختلفة من حركات دارفور بما فيها الحركة التي أنتمي إليها وكذلك القوى السياسية قد مارست شكلاً من أشكال الوصاية والحصرية لأمر هو في الواقع حق مشاع. لكننا نذهب إلى القول بأنه بالضرورة أن نأخذ تلك الممارسات ونصبغها بالنوايا الحسنة، لأن ذلك هو أول خطوات المعالجة وتوحيد الجهود نحو الحل الناجع لأي معضله. الإعتراف بالدور السلبي لكل منا في مسيرة النضال وتأكيد القدرة على أخذ العبرة من ذلك. هذا ليس حصراً على تنظيم بعينه ولا على حركة بذاتها ولكنها وصفه يستوجب على الجميع التعاطي بالعلاج الوارد فيها. إلا أننا نؤكد بأن تكاثر الفصائل وإن كانت ظاهرة ضارة لكونها تعبّر عن ضعف البنيات الفكرية والتنظيمية والبرامجية للكيانات القائمة، كما تعبّر ايضاً عن حاجة القيادات القائمة على هذه التنظيمات في بناء الرصيد الكاريزمي وصقل المقدرات القيادية بما يقوم على اتساع القدرة على قبول الرأي الآخر والعمل وفق ضوابط دستور التنظيم والقدرة على استخدام مؤسسات التنظيم ووسائله في استصدار القرارات التي تتوافق وضرورة المرحلة الثورية وعدم التخوف من نمو البناء الطردي للقيادات المستقبلية داخلها، برغم كل هذا لا يجب أن نتشاءم وإنما نحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى في أن نعمل بمنظومة أكثر قدرة وانجع وسيلة واكبر اتساعاً لتجاوز هذه المرحلة وبناء المؤسسات والتنظيمات القادرة على البقاء والقادرة على فعل التغيير المطلوب. ولا يتأتى ذلك كما سبق أن اشرت إذا تقوقعت كل حركة أو تنظيم أو فصيل خلف نفسه وادعى أنه القائم بأمر العباد والبلاد دون الآخرين.

السبيل إلى الخروج من المأزق

لقد اتخذت الحركة على نفسها عهداً بعد عودتها إلى السودان وعقب توقيع الإتفاقية أن تسعى بين حركات دارفور طارحة مشروع الحد الأدنى من التوافق، لم يقف مسعاها عند ذلك بل امتد إلى طرق أبواب كل القوى السياسية، وفي ذلك فقد استضافت دارها العديد من المنتديات والندوات والإجتماعات، ليس ذلك نشاطاً تنفرد به الحركة وإنما هو دأب كل تنظيم قدّر له أن يتبوأ ذلك المقام ويقف ذلك الموقف. لكن الظاهرة الجديرة بالوقوف عندها هو أن الحركة كتنظيم خارج عن مرحلة نزاع مسلّح، تمكنت في فترة وجيزة من وضع جملة أنشطه على طاولة التنفيذ ومضت فيها في شقها التنظيمي والسياسي على مستوى الحركة، ولا يقلل عدم التزام الحكومة المؤتَمَرة بالمؤتمر الوطني بتعهداتها من هذا النشاط الداخلي. كما لا نعفي الحركة من بعض الإخفاقات وهي بلا شك قرين الإجتهاد فيما لم تكن لها سابقة فيه.

بعد أكثر من خمسين عاماً على مأساة الجنوب واثنين وعشرين عاماً بداخلها من تعزيز المأساة بدخول جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وثلاثة وخمسين عاماً من تأرجح الدولة بين الدساتير المؤقتة والإنتقالية، وواحد واربعين عاماً من حبس الدولة بين قضبان الحكم الشمولي، وعشره أعوام من الممارسة الديموقراطية الموؤده، وسبعة أعوام من مأساة دارفور، ومثلها من مأساة الشرق، وبؤر ثورات تتواثب حِممها في أقصى الشمال وفي منطقة المناصير تنذر بالإنفجار، وثمانية اتفاقيات عجاف لا يُؤكلن ولا يُسمنّ من جوع وقد يعقبهن أُخر. وتسابق في التأسيس والإنشقاق للتنظيمات والأحزاب والفصائل والمنابر. بعد كل هذا ينبغي أن نسجل جميعاً اعترافاً بأن كل ذلك لم يحقق الدولة التي نريد. لقد جاءت لحظة السكون مع الذات فرادى او جماعات، شتات أو تنظيمات ونبدأ بالإصطفاف حول هدف انتشال الوطن وتأسيس الدوله التي نأمل. ذلك ليس مجرد أمنيه عابره وإنما دعوه ندرك أنها تَلقىَ صحفاً من التفاسير، وينظر إليها ببصائر وبصر، وتوصم ويُعبّر عنها بالقدح والمدح، وتَلقىَ هوىً عند البعض كما تُهان عند آخرين. لكنها تُصيب كبد الحقيقة في مضمونها، وتُسمع الأصم ويراها الأعمى وتُطنق الأبكم. لا بد لي أن أقول إذا كنت تنشد النجاح فاحلم وتخيّل وأعمل على تحويل كل ذلك إلى حقيقه. العالم كله يفعل ذلك ونحن جزء من هذا العالم.

من أين نبدأ   

كنت قد أوضحت رؤية الحركة في تمرحل مشروع الدولة الثابته وإن لم يكن بهذه المفردات لكنها بنفس المضمون. واشرت إلى أن الوطن يعيش مرحلة إنتفاضات إقليميه، فهي نتاج للإستخدام الغاشم للسلطة والتوزيع الظالم للثروه. فأضحىَ الحل عبر ذلك ضروره إنتقاليه لا يمكن تجاوزها، وهي بمثابة المدخل للمعالجة الشاملة للأزمة السودانية. وهو كما قلنا في ندوات ومنتديات سابقه وأوضحنا فيها رؤية حركة تحرير السودان. لا بد من إقرار هذه الحقوق السليبه وقد حدث حتى الآن إجماع بين القوى السياسية بذلك، بما في ذلك المؤتمر الوطني. بقيت مرحلة القناعة بالحل وبأنه لا بد من تمكين مبدأ تقاسم السلطة والثروة بحيث تحدث قناعة كاملة في المشاركة في السلطة وتوزيع عادل للثروة في المرحلة الإنتقالية الأولى لخلق التوازن التنموي. وهذا لا يتأتى إلا عبر الإتفاقيات السِمان اللاتي لا يأكلهن أخر عجاف. بذلك ننطلق لبناء الثقة ورصف الأرضية المشتركة للمرحلة الإنتقالية الثانية التي تُشكّل فيها حكومه انتقاليه محايده تُنجز دستوراً يستوعب كل تجاربنا الماضية ويستفيد من تجارب الآخرين ويعكس طموحاتنا للدولة الوليده وتمهد لإنتخابات حره ونزيهه. لكن يأتي السؤال وماذا عن المؤتمر الوطني الذي يتشبث بسلطته ويواصل رقصه على جماجم ضحاياه؟ وماذا عن المطلوبين في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ هل هي حقيقة عقبة كأداة أمام هذا الحلم. لا ليس كذلك فهي عثره لكنها لن توقف المسيره لأن أضحت بيد العدالة الدولية حيث لا تسقط بالتقادم.

لقد ظل مفكّرو حركة تحرير السودان طوال مسيرة الإتفاقية يبحثون في أمر المعالجة الشاملة للأزمة السودانية ويضعون شكل المرآة التي تعكس الصياغة التنظيمية والسياسية للحركة، وظلّوا يبحثون في ماهية فكر الحركة بحسبان تحولها لتنظيم سياسي أمر حتمي وآت لا محالة ولا يحبس انطلاقته النهائية إلا عامل الوقت وظروف الأزمة. لقد وضعت الحركة الخطوط العريضة لرؤيتها السياسية، حيث يعكف المكلفون من اختصاصيها في الداخل وفي شتى انحاء العالم في وضع تصوراتها لبرنامج عملها الشامل لميلاد (الدولة السودانية الثابتة) والتي ستجد طريقها للبحث والمداولة في مؤسسات الحركة للإجازه بعد أن تستكمل صياغتها وهو طريق طويل في استيعاب معاني الدقة والإتقان. وقد نال ذلك من المكلفين الكثير من البحث والتنقيب في التجارب النظيرة وسيتواصل دأبهم، فالوقت لا مناص منه لمثل هذا المشروع الحيوي. ولن يُنجز ذلك العمل دون أن يناله من التنقيح ما ينبغي أن يناله، ولا تزاود الحركة في ذلك على آخرين، لأن للجميع مساهماتهم في اتجاه معالجة أزمة الدولة السودانية، وإنما تجد أن مساهمتها هذه بمثابة خيط ضمن شبكة خيوط يساهم بها الآخرون في رتق فتق الأزمة. وهو في الواقع برنامجها الإنتخابي لما بعد المرحلة الإنتقالية الثانية التي تقترحها.

في شأن وحدة حركات دارفور

والمبادرة الجديدة للحركة

في زيارة وفد السلطة الإنتقالية الإقليمية لدارفور إلى دولة قطر في شهر نوفمبر من عام 2007، بقيادة كبير مساعدي رئيس الجمهورية رئيس السلطة الإنتقالية والذي ضم عدداً من رؤساء مفوضيات السلطة وأعضائها، طرح الوفد للقيادة القطرية بأن تتبنىَ مبادره لمعالجة أزمة دارفور . وقد شرح الوفد للقيادة القطرية كيف أن صورة الدول العربية لدى مواطن دارفور شائنه عطفاً على المواقف التي يشهدونها لها منذ اندلاع الأزمة. وعقب نجاح قطر في معالجة الملف اللبناني، أرسلت خطاباً إلى الشيخ حمد بن جبر/ وزير الخارجية القطري مهنئاً بالإنجاز ومكرراً دعوة حركة تحرير السودان لقطر بتبني مبادرة نحو أزمة دارفور وأحسب أن القياده القطرية لم تهمل دعوة الحركة وإن جاء تحركها متزامناً مع طلب المدّعي الجنائي الدولي. لا يضير التجاوب مع كل مبادره للمعالجة حتى تحقق النتائج التي تلبّي طموحات كل الأطراف، ولا ضير في إضافتها لرصيد التجارب إذا أُخضعت للتجربه العملية والممارسة ولم تحقق النتائج. من هذا المنطلق فالحركة لا تمانع في أن تأخذ المبادرة القطرية حظّها من التجربة، ولعل الحركة بحسبانها صاحبة الفكرة وبحسبانها طرفاً في اتفاق قائم ستتفاعل إلى أقصى درجات التجاوب فيما لا يؤثر سلباً على أمل المعالجة الشاملة والعادلة والدائمة للأزمة. وستعكس تجربتها الثرة بعد الإتفاق لصالح هذه المعالجه، وتأمل أن يتلاقىَ الجميع على أرضية مشتركة لذلك. ومن هنا فالحركة تتبنى بدورها طرح مبادرة داخلية لحركات دارفور بإختلاف فصائلها ولا تستثني في مبادرتها فصيلاً. حيث ينبغي أن يكون الجميع قد تشبّعوا من الإنتظار ومن ضبابية الأفق ومن معاناة المواطن في دارفور ومن اي تفكير لإقصاء أي فصيل ومن ضرورة وحدة الرؤية والآلية إن لم تكن وحدة الفصائل. وستبدأ أمانة الشئون السياسية في الحركة تحركاً واسعاً وشاملاً بين نظيراتها في حركات دارفور لإعداد مشروع ميثاق الرؤية الموحدة والآلية المشتركة ليتم عرضه في لقاء يضم قيادات الحركات لإجازته واعلان العمل به استعداداً لأي منبر يتناول المعالجة الشاملة للقضية. لا بد لقيادات حركات دارفور أن تدرك بأنها أمام مسئولية تاريخية، ولا بد أن تدرك بأن انتظار الحل من أي جهة سواء كان المجتمع الدولي أو الأقليمي أو المحلي لا يتأتى دون أن تتحمل هذه القيادات مسئولية تجاوز الإنغلاق وترتيب أمثل للأولويات وتحجيم للخلافات، فلا تطفو فوق القضية الأصل. ويجب أن تدرك بأن معاناة الإنسان في دارفور لا يمكن أن تنتهي وهم في سكون. نعم الكل ساهم ولتكن الرؤية لكل تلك المساهمات بمنظار النوايا السليمه ناجحة أم فاشله. ولا بد أن تمتلك القدرة على رؤية بعضهم البعض بمنظار القبول وليس بمنظار الرفض. القادة العظام هم من يستطيعون تخطي حاجز القبول بالآخر. كيف يتأتى لقاده يناضلون لإزالة التهميش بينما يرفض بعضهم بعضاً. كيف يشاركون في تقاسم السلطة في السودان ويصبحوا قادة دوله. كيف يمارسون القيادة في الدولة إذا كانوا يعجزون عن قبول أخطاء بعضهم البعض. ليس هذا هو الطريق الذي سار عليه مانديلا وأمثاله. ذلك الطريق مليء بعثرات لا يتجاوزها إلا القادة الذين يعترفون بأخطائهم وتحسبهم  جميعاً فلا يخيبون الظن ولا كمن تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ويستطيعون التفاعل ويعافون التنافر ويقبلون الرأي الآخر وينظرون إلى نظرائهم بمنظار الفخر والإعزاز لا بمنظار الرغبة في الإحتقار، ولهم القدرة في العفو عند المقدرة بما لا يخل بالعدالة، ويتّخذون من القرارات ما يستقيم بأمرها الحال، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويفرحون حين يفشلون على الصعيد الشخصي وينجح مشروعهم الجماعي، ويحزنون عندما يفشل مشروعهم الجماعي ويتقلص إلى نجاحهم الذاتي. هؤلاء فقط قادرون على المسير في خطىَ مانديلا وبلوغ نجاحه. هؤلاء فقط يمكن أن يقال عنهم قادة ألوعزم. وحينها فقط يمكن أن نأمل في وحدة عاجلة لأهل دارفور، ونشهد حلاً عاجلاً وشاملاً ودائماً للأزمة ونستطيع أن نشكّل ذلك الرقم القادر على التفاعل بإيجابية في معالجة أزمة الأمه والوطن وتأسيس الدولة السودانية الثابته. يجب أن يتحسس قادة حركات دارفور ما تحت أرجلهم. ولا أعفي نفسي من كل ما ذكرت من مسالب وآمل أن تجد قِسطها من الرشد دائماً. أرجو أن أكون قد عكست قراءة الحركة لمآلات الأحداث بدقة  وطرحت رغبتها ومبادرتها بصدق.

          والله ولي التوفيق،،،

 

 

عبد الجبار محمود دوسه

عضو المجلس القيادي وأمين الشئون السياسية

حركة/ جيش تحرير السودان الموقّعة على الإتفاق

عضو السلطة الإنتقاليه الإقليمية لدارفور

لندن 15/10/2008

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج