(كلام عابر)
دمـاء في الذاكــرة
ثلاثة من أفراد عائلتي راحوا ضحية للعنف في أماكن وتواريخ مختلفة وظروف متشابهة على مدى ربع قرن من الزمان. أولهم ابن أختى عوض عبدالرحمن الشاب المقتحم الطموح الذي يقفز قفزا نحو المستقبل.. ترك الدراسة ودخل في مجال التجارة وتزوج وأنجب في سن مبكرة وكأنه كان يسابق الأيام.. لم تكن رحلته التجارية الأولى لجنوب الوطن ذلك اليوم من عام 1983م بسيارته "اللوري" ولكن شاء قدره أن تجيء الرحلة في اللحظة الخطأ والمكان الخطأ.كان قد قنع من التعليم بمرحلته الأولية، ولكنه درس في تلك المرحلة منقو زمبيري وحفظ النشيد الذي يقول "أنت سوداني أنا .. ضمنا الوادي فمن يفصلنا .. منقو قل معي لا عاش من يفصلنا". داهمه مسلحون في زمن لم تكن فيه حرب معلنة أم غير معلنة فقتلوه ببربرية بشعة ثم نهبوا "اللوري" بما حمل.. ذهب دم عوض هدرا وظل الفاعل مجهولا،ثم أتى حين من الدهر لم يعد اسم "منقو" يتردد كثيرا على الشفاه مثلما كان الحال في سنوات مضت.
ثانيهم ابن عمي الدكتور بشير أحمد علقم، الذي كان "شيخ عرب" بدرجة سفير شعبي. كان هو الآخر يقود سيارته في الجزائر في الطريق المؤد ي للعاصمة في شهر سبتمبر من عام 1994م .. توقف عند حاجز حكومي مسلح فانهمرت عليه زخات الرصاص مبددة الظلام والسكون تاركة أثرها على كل شبر من جسده وسيارته. لما تبين لهم فداحة ما ارتكبوه ادعوا أول الأمر أن سيارة الدكتور بشير كانت تشبه سيارة مطلوبة أمنيا فتشابه الأمر عليهم فاطلقوا الرصاص .. ولكنهم بعد حين استقبحوا ما قالوا فعادوا ليدعوا إن السيارة لم تتوقف أصلا عند الحاجز وكان ذلك سببا كافيا و"مشروعا"، في رأيهم، لإطلاق الرصاص ،ولكن آثار إطارات السيارة على الشارع كذبت هذا الإدعاء فعادوا من جديد ليقولوا إن السيارة كانت مسرعة وأنها توقفت عند الحاجز بصعوبة شديدة مما أدى لإطلاق النار عليها، وتمسكوا بهذا الرواية. لم يعتذر أحد،أيا كان لأي أحد، عن "الخطأ" الذي أودى بحياة الدكتور بشير ، و لم تطلب أي جهة رسمية سودانية مثل هذا الاعتذار، فالدم السوداني رخيص وقيمته في هبوط مستمر شأنه في ذلك شأن كل العملات الرديئة ، وأصحاب الدم غير آبهين، ولو كان الدكتور بشير يحمل جواز سفر أمريكي أو فرنسي أو أي جواز سفر أوروبي لكان الحال غير الحال ولسارعوا بالإعتذار لدولته وأسرته ولكل الدنيا، رغم أن الاعتذار لن يعيد الحياة للقتيل، ولقبّلوا الرؤوس والأيدي ولربما لعقوا الأحذية .. وهكذا تفرق دم الدكتور بشير في قبائل الأوراس التي لا زالت تخرب بيوتها بأيديها.
وفي سبتمبر آخر كان في هذا العام ، وفي مطلع العشرة الأواخر من الشهر الفضيل، كان ابن خالتي وصهري علي الطاهر حسين الضحية الثالثة. اعترضت طريقه،هو ومجموعة من التجار، وهم في طريقهم لمنطقة تايا بجوار باسندة، اعترضتهم جماعة من الجماعات الأثيوبية المسلحة التي استمرأت العربدة في عمق التراب السوداني، وأردتهم جميعا قتلى ، فاجتمع شمله برفيقة دربه شقيقتي التي سبقته للقاء ربها قبل أقل من ثلاث سنوات ، وأخذت روحه تحلق مع أرواح الضحايا التسع الصائمين في سماوات الرحمن علها تلقى الزاكي طمل تبثه يأسها وهوانها وضعف قوتها وقلة حيلتها ، وتحكي له عن القتلة القادمين من وراء الحدود ، السادرين في الغي وانتهاك الأرض وترويع أصحاب الأرض.
ثلاثة أبرياء عزل ،أحبوا الناس وأحبوا الحياة ولم يحملوا سلاحا في حياتهم ولم يعرفوا الشر لكن الشر لاحقهم في الوطن وفي خارج الوطن ، وكان نصيبهم الموت الذي "يخطف العزيز ويفجع السرور ويرسل الأحزان والأسى"، وتفرقت دماؤهم في كل القبائل. أسأل الله العلي العظيم أن يسكنهم فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء وأن يأخذ بثأرهم ممن ظلموهم.
(عبدالله علقم)
([email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة