تحليل سياسي
من المشروع الحضاري الى سياسة التشريد الممنهج
أبوذر على الأمين ياسين
ظل الملمح الأبرز في أذهان الكل أن (ثورة التعليم العالي) لم تكن إلا سياسة تشريد وتهميش لأجيال من الشعب السوداني ظلت في تراكم منذ اطلاق تلك الثورة التي كان لها وجه واحد هو التمدد والانتشار في مؤسسات التعليم العالي بلا رؤية تستكمل ذلك بالاستفادة من خرجي الجامعات واستيعابهم ضمن سياسات تنموية يتم عبرها توظيف قدراتهم وما نالوه من تعليم ضمن تلك المؤسسات. ورغم رجاحة تلك الرؤية إلا أنها أهملت وجوها أخرى تبين أن (ثورة التعليم العالي) لم تكن إلا آلية للتهميش بدايةً والتشريد انتهاءاً. ومن غير الملاحظ لدى كثير من المختصين وغيرهم التطورات التي صاحبت ثورة التعليم العالي كرافد أساسي للتجنيد الاجباري للخدمة العسكرية والتي هي الأخرى لم يكن المراد منها تطوير ودعم الخدمة العسكرية، بل إحكام السيطرة على كم الطلاب الهائل الذي قد يزعج الدولة عبر سلسلة من الثورات والمظاهرات التي يقودها الطلاب كما هي الخلفية التي ظل لها بالغ الاثر على التغيرات السياسية في السودان، وكانت آلية منع التظاهرات الطلابية قد بدأت باطلاق حملات (الكشات التجنيدية) بشوارع المدن وكان هدفها المقدس هو إبقاء الرعب مشتعلاً في أذهان الشباب فلا يفكرون في التظاهر ضد الحكومة. بل كان من أهداف تلك الثورة التعليمية استغلال هذا الكم المتراكم من الخريجين العاطلين ومعاملتهم كمورد للجباية التي تزيد من معاناتهم وتجعلهم في حالة من الضعف المتواصل وبذلك تتم السيطرة عليهم عبر مؤسسة الدولة المخصصة لتلك الخدمة.
لكن سياسات الانقاذ منذ انطلاقها كانت سياسة مؤسسة على التشريد كآلية لإضعاف المجتمع وقواه الحية ومنظماته المدنية والسياسية، بل كان التشريد هو السلاح الاقوى لضمان بقاء واستمرار الانقاذ بلا مهدد من قوى داخلية أيا كانت، وكان اعلان التنظيم الجامع (الحزب الوحيد) أول أدوات تلك السياسة، ولضمان نجاعتها تم تشريد كل الخدمة المدنية واعادة تشكيلها لتكون حكراً على الموالين للثورة ونظامها السياسي. ونتج عن ذلك ليس فقط تشريد العاملين والكادر الذي ظل يقود مؤسسات الدولة منذ الاستقلال، بل تم وضعهم ضمن إطار من المعاناة هم وأسرهم ليتحولوا جميعاً كرافد كبير وغير مسبوق لتوسيع قاعدة الفقر وتصاعدها لتصل إلى 90% من مجموع السكان بحسب إفادة مركز الدراسات الاستراجية في النصف الأخير من عقد التسعينات من القرن الماضي. هكذا أصبحت الخدمة المدنية ساحة لا يدخلها إلا أهل الولاء للمؤتمر الوطني، لكنها هي الأخرى شهدت تطورات كبيرة وكثيرة انتهت بها إلى أداة للإستقطاب السياسي لتصبح القاعدة: إذا أردت أن تجد وظيفة ضمن الخدمة المدنية فيجب أن تنتمي إلى المؤتمر الوطني أو يكون لديك استعداد عالي لأن تنتمي للمؤتمر الوطني ولا حاجة للشهادات أو الخبرات، فكل المطلوب هو أن توالي المؤتمر الوطني. وهكذا تحولت حتي الخدمة المدنية من تشريد أهل الخبرات إلى استقطاب المشردين بأي ثمن ولو كان ذلك على حساب الخبرات ذاتها.
أما الأحزاب والقوى السياسية فقد تعرضت لأوسع حملات التشريد التي بدأت فصولها بهجرة كل القوى السياسية إلى خارج السودان لتكون التجمع الوطني الديمقراطي، وظلت قواعدها بالداخل محل نشاط مكثف عبر تجنيد المصادر صعوداً إلى اختراقها الذي نشهد ثمرته هذه الايام عبر الهجرات الجماعية من الأحزاب التاريخية للانضمام للمؤتمر الوطني. وبالرغم من أن تلك السياسة قد شكلت أقوى قاعدة للأزمة السياسية التي نعيشها اليوم إلا أن المؤتمر الوطني ما يزال يراها الأهم لإحكام سيطرته وضمان استمراره. لكن تحقيق هدف السياسة التي استهدفت القوى الحزبية كان يتطلب سياسات أخرى تضمن إحكام السيطرة للمؤتمر الوطني الحزب الوحيد في مواجهة تلك القوى السياسية مهما تبدلت الأحوال أو تغيرت، ذلك أن المؤتمر الوطني يرى أن تظل القوى السياسية في حالة من الضعف بحيث لا يكون لها أثر ولو حدث انفتاح وانتقال قسري نحو الديمقراطية، فالذي يجب هو أن يظل المؤتمر الوطني هو الحزب الذي يتحكم في الأمور ومآلاتها مهما كانت الأوضاع أو صارت. وتطلبت هذه السياسة إضافة للسيطرة السياسية على الحكم ومقاليد القرار السياسي، سيطرة على الأموال ومصادرها ومظانها. ذلك أن السلطة التي لا تسيطر على المال ستكون عرضة للتهديد المفتوح المتوقع وغير المتوقع، لذلك اتجهت الانقاذ للسيطرة على السوق عبر جملة سياسات ومراحل، بدأت بتشريد كل التجار الذين بنو مجدهم التجاري عبر سنين طويلة ومثابرة وتضحية، باعتبار أنهم أهم الروافد الداعمة للقوى السياسية التي تمثل التهديد الأقوى للحزب الوحيد المؤتمر الوطني. وتم ذلك عبر إنشاء جملة من الشركات التي هي في شكلها الرسمي خاصة ولكنها صنيعة الحزب الوحيد وأهم مصادر دعمه وتمويله، وذلك توظيف كل سلطة الإعفاء من الضرائب والجمارك عن تلك الشركات لتجلب السلع ثم تطرحها بالسوق بسعر أقل مقابل التجار القدامي بالسوق الذين يدفعون للدولة كل الضرائب والجمارك لتبور تجارتهم ثم ينهاروا ويخرجون عن السوق ولا بواكي لهم. ثم تطورت تلك السياسة لتحتكر تلك الشركات كل السوق وكل السلع، ثم تتحكم للدرجة التي تفرض فيها هي الأسعار رغم بقاء الإعفاءات الضريبية والجمركية، فتزيد من رهق المواطن الذي يستنزف رزقه المحدود إضافة للإتاوات والضرائب المصوبة عليه من كل صوب والتي في معظمها لا تدخل خزينة الدولة بل ليس للمالية ولاية عليها. ومثل سياسة التعليم العالي ظلت ساحة السوق بعيدة عن متابعة أغلب المختصين والجمهور الذين انصرفوا لمتابعة (المراجع العام) الذي ظل عاجزاً رغم فلكية الأرقام التي تتجدد سنوياً عن مراجعة الكثير من مؤسسات الدولة التي ظلت بعيدة عن ولايته قوة واقتدارا. وهنا أيضاً تحولت السياسة المالية من فرط الاحتكار لأهل الولاء إلى أزمة مالية تفوق الأزمة المالية التي يشهدها العالم اليوم، ذلك أن (ترليون جنيه جديد) منحت لعدد لا يتجاوز الثلاثين شخص تلاحقهم الدولة هذه الأيام أفضت إلى انهيار النظام المصرفي الذي يشهد الكثيرون على عجزه عن استرجاع تلك الأموال حيث تتحدث المدينة حول أن الأموال المطلوبة من هؤلاء أموال هالكة وغير قابلة للسداد رغم تدخل المالية. ولكم أن تتصوروا حجم تلك الأموال التي يمكن أن تضمن ليس حل مشكلة دارفور، بل قيادة تنمية غير مسبوقة في كافة أرجاء السودان بددت بالولاءات ووظفت للاستقطاب ولم يكن استردادها هدفاً في حد ذاته ليكون السجن هو الحل ويبقي الوطن بلا رصيد مالي وكل ما تبقي بيد الحكومة وشركاتها تفعل به ما تشاء وكيف تشاء.
وبلغ الخوف من نشوء كيانات مالية خارج سيطرة الحزب الفريد هاجساً ظل هو الخلفية التي تفرض عبرها (الاتاوات) للدرجة التي تلاحق فيها الحكومة حتى الباعة المتجولين، وتفرض عليهم الكثير من الإجارات والضرائب بلا مقابل أو حد أدني من الحماية، فالكشات هي أداة تجديد واعادة فرض للإجارات والضرائب والغرامات على الباعة المتجولين، ولا يستثني من ذلك حتى بائعات الشاي.
وظلت سياسة التشريد هي السمة الأقوى والأبرز حتى للمشروعات التنموية الكبرى (السدود)، والتي استهدفت مباشرة المواطنين الذين هم أصحاب الحق في مناطق سكنهم التاريخية، والتي جاءت المشروعات بتخطيط هدفه الأكبر تشريد هؤلاء عن مواقعهم بلا مشورتهم أو ضمان بدائل وتعويضات مرضية لهم، بل لم تتورع الدولة عن قتل المواطنين بلا محاسبة في سبيل تشريدهم وضمان ضعف تأثيرهم على بقائها واستمراريتها، عبر أجسام خارج الأطر المتعارف عليها (وزارة الري)، وبعيداً عن رقابة ومحاسبة حتى المجلس التشريعي، بل وتعمدت فرض حق قتل المواطنين المحتجين عبر لجان تحقيق لا يعرف لها مصير ولا يرى لها عمل أو نتائج.
وحتى هذه السياسة تطورت باتجاه استهداف قبائل كاملة كما هو الحال في دارفور، عبر توظيف القبائل ضد بعضها وتوفير الدعم والحماية لبعضها ضد الأخرى. فأحرقت القرى وشرد المواطنون ومنع عنهم حتى العون الانساني في أوسع عملية تشريد، وأبشع عملية احتقار لإنسانية الانسان ضمن سياسة دولة هدفها الأكبر ضمان حماية واستمرار النظام ليس إلا. ولكن إلى أين انتهت تلك السياسة التشريدية؟.
انتهت إلى دولة وشعب من المشردين؟!، بلغت حد اطلاق سياسة تستهدف تجنيد المشردين (بالمفهموم التقليدي البسيط) أؤلائك الذين يجوبون الاسواق كل يوم وليلة، واستهدافهم بالتجنيد ضمن القوات النظامية والدفاع الشعبي!!. وبالرغم من أن تلك السياسة قديمة وجربت ضمن حرب الجنوب منذ بواكير عهد الإنقاذ، إلا أنها تشهد إحياء جديداً هذه الأيام وبتخطيط كامل شمل هذه المرة حتى حسابات صراع مراكز القوى داخل المؤتمر الوطني، له مراحل وأرقام قد تبلغ ال15 ألف متشرد لقوى نظامية و10 ألف آخرين للدفاع الشعبي. هكذا انتهى المشروع الحضاري بعد أن أكمل دورة التشريد على كافة الأصعدة، إلى الاعتماد الكامل على التشريد والمشردين لحراسة وحماية النظام نفسه!!؟.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة