تاملات في الشأن السوداني
جمال عنقرة
شهادة في حق الرئيس البشير
حسناً فعلت الحكومة السودانية حين أوفدت نائب الرئيس السيد علي عثمان محمد طه ليقود وفدها لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فخطاب السيد طه الذي قدمه شكل مرافعة قوية تستعصي علي كثيرين غيره، ولا تناسب آخرين ، وتحرج بعضاً آخر لو قدمها.وأكثر ما استوقفني في خطاب نائب الرئيس السوداني، تقديمه للمفارقة في مذكرة أوكامبو التي استهدفت توقيف الرئيس البشير أكثر من أعطي للسلام والوحدة في السودان. ولقد أثار هذا الحديث عندي رغبة شديدة لتقديم شهادة خاصة في حق الرجل من خلال تجارب شخصية معه في قضايا عامة، تظل شاهدة علي تدافعه نحو التراضي وحسن الجوار والسلام، عندما لم يكن ذلك نهجاً غالباً للحكومة التي كانت لها رءوس متعددة. وأشهد له من خلال ملفين هما أكثر ما كان يأخذه الناس علي الإنقاذ أول عهدها. ومما حسب علي الإنقاذ سالباً في أيامها الأولي أنها ضيقت علي معارضيها الخناق، وتعاملت معهم بعنف شديد. ثم أخذ عليها أنها قطعت علاقاتها مع دول الجوار ودخلت معهم في معارك غير محسوبة، وفي مقدمة هؤلاء دولة الجوار شقيقة الوادي مصر. وفي هذين الملفين اللذين كنت قريباً منهما أشهد للرئيس البشير أنه كان علي العكس من ذلك تماماً، بل لم يدخر جهداً يمكن أن يقرب بينه وبين القوي الوطنية السياسية المعارضة، وكان دائماً يبحث مظان التواصل مع مصر وإصلاح ما أفسده آخرون من علاقات معها.
ففي العام الثالث للإنقاذ حدثني أحد المقربين من الرئيس أنه مستاء من تدهور العلاقات السودانية المصرية ولا يري لذلك سبباً وجيهاً، وأنه لا يثق في كثير مما يقال عن مصر ويرجو أن تستقيم هذه العلاقة لكنه لا يري في الأفق بوارق أمل . وقال لي محدثي أنه حدث الرئيس البشير عني وعن صلتي واتصالاتي بمصر، فطلب منه الرئيس أن أكتب له قراءة عن العلاقات السودانية المصرية وتقييم لما يجري بين البلدين في تلك الفترة، ورؤية لإعادة هذه العلاقة إلي طبيعتها. وطلب مني صاحبي أن أفعل ذلك للرئيس.
كتبت ورقة للرئيس البشير حول ما طلب في نحو خمسين صفحة أو يزيد . خلاصة الورقة أني عبت علي الأجهزة السودانية سباحتها ضد المسار التاريخي للتعاطي مع مصر ومحاولتها اختراق الدولة من النوافذ، واستعدائها للحكومة بالرهان علي قوي مناهضة لها ودعمها. وأوصيت بأن نبتعد عما يثير حفيظة الحكومة المصرية بموالاة من لا يستطيعون سد فراغها لا سيما أن هؤلاء الذين نواليهم من مصر يستغل بعضهم علاقة السودان معهم لتصفية حسابات داخلية بينهم وبين حكومتهم، ورجوت أن نسعي لترميم الجسور التي دمرت بين مصر والسودان لصالح البلدين معاً.
أعجب الرئيس البشير بطرحي اعجاباً شديداً، وطلب أن أتواصل معه وأشاركه قراءة الأحداث وتطوراتها بين البلدين. وبالطبع ما كان من الممكن أن أتأخر عن استجابة مثل هذا الطلب الذي صادف هوى عميقاً في نفسي. فظللت أوالي الرئيس بتقديم الرأي في أكثر الشئون السودانية المصرية لنحو أربع سنوات تقريباً. وكان غالباً ما يتعارض رأيي مع رأي آخرين يرفدون الرئيس بمثل هذه القراءات ، وكان الرئيس يرجح ما أقول علي ما يقول به غيري. وكنت أدعو للتقارب ويدعون للتنافر مع مصر. فكان هذا يغضبهم فلم يجدوا غير الكيد، وتوزيع الاتهامات الزائفة.
أما في شأن التواصل مع القوى السياسية المعارضة فخلال إقامتي في تسعينات القرن الماضي في مصر اقترحت علي الرئيس أن نمد حبال التواصل مع المعارضة السودانية الموجودة في القاهرة، فرحب بذلك ترحيباً شديداً. فبدأنا حواراً جاداً مع الاتحاديين عبر الأمين العام الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندى ورعى الرئيس هذا الحوار الذي تكلل بعودة الهندي التى فتحت آفاق الوفاق في السودان. وتحاورنا مع العسكريين المعارضين، وكان العميد يحيى جمال القيادى العسكري المعارض آنذاك الأكثر استجابة، وأجريت معه حواراً صحفياً داوياً نشرته صحيفة أخبار اليوم السودانية، أغضب كثيرين حاولوا قطعه إلا أن البشير رعاه وحماه وأوصلنا يحيى بدفعته وأصدقائه العسكريين الإنقاذيين العميد سليمان محمد سليمان والعقيد محمد الأمين خليفة. ثم فتحنا حواراً آخر مع معارضي الشرق المقاتلين عبر الأخ إبراهيم أداب وقطعنا شوطاً بعيداً، وذهبت إلي بورتسودان والتقيت أطرافهم في الداخل وزرت أسرته ونشرت حواراً صحفياً مع والده. وكل ذلك كان برعاية الرئيس البشير.
وعندما كونا الهيئة الشعبية للحوار الوطنى والسلام برعاية الإتحاد العام لنقابات عمال السودان، وقف الرئيس البشير معنا منذ اللحظات الأولي رغم أن حاكمين آخرين كانوا يناصبونا العداء. وأذكر أن مرتين تحدد لنا لقاء مع الرئيس أفسده الآخرون. اللقاء الأول رتبه مستشاره الصحفي الأخ الدكتور الصادق بخيت، والثاني رتبه القمص فيلوثاوس فرج. وفي اللقاءين نذهب إلي القصر مع رئيس الهيئة الدكتور حسين أبو صالح والأمين العام الدكتور عبد الله سليمان العوض ورئيس إتحاد العمال تاج السر عبدون، والقمص فيلوثاوس فرج فيحولون دون وصولنا للرئيس البشير الذي لم يفت ذلك من عزمه، حتي وصل بالسودان إلي هذه المرحلة من التراضي التي يود أوكامبو قطعها بطلبه الجائر الظالم توقيف الرئيس عمر البشير.
جريدة الأخبار المصرية الثلاثاء 14/10/2008م
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة