(كلام عابر)
مع الدكتور جعفر كرار
أستاذنا الدكتور جعفر كرار رجل مرتب ومنظم في أفكاره وأسلوب حياته العامة والخاصة.وفوق ذلك هو رجل شجاع لا يسكت على "الحال المايل" عملا بمبدأ الساكت عن الحق شيطان أخرس، ويجاهر برأيه وموقفه في أسوأ الظروف مما جعل حياته سلسلة من المعارك المتصلة التي لم يكن من بينها معركة شخصية واحدة، "أغلب كتاباتي عن ظلم أرتكب في السر أو العلن". وقد كان من بين ما دفعه ثمنا لذلك كرسي وكيل أول وزارة الزراعة والموارد الطبيعية في سنوات النميري. وقد فتح ذلك له آفاقا أفضل فالتحق بمنظمة الأمم المتحدة مستشارا للبيئة الذي كفل له دخلا تقاعديا لولاه لأصبح اليوم ،كما قال بطريقته الساخرة، واحدا من أكبر الشحاذين الذين تمتليء بهم شوارع الخرطوم. تزيده الأيام ألقا وحيوية ، وتستقر في داخل شخصيته القوية المصادمة شخصية أخرى يغلفها المرح والود والشهامة. جعفر كرار هو ذلك الرجل الشجاع الواحد الذي يشكل أغلبية عظيمة والذي لم تعد تنجبه الأزمنة البخيلة.
وقد انعكس غيض من فيض هذه الشخصية المسكونة بحب الوطن على سفره القيم (نظرات في التجربة السياسية السودانية) الصادر من دار عبدالكريم ميرغني في أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط .والكتاب الذي انتظرت وقتا طويلا لأحصل على نسخة منه ، مجموعة من المقالات التي نشرها الدكتور جعفر في بعض الصحف السودانية خلال الفترة من بعد ثورة أكتوبر 1964م إلى 2006م، ومجموعة من الأوراق أوالكلمات التي قدمها أو ألقاها في مناسبات مختلفة. ويعتبر الكتاب في مجمله مرجعا قيما للدارسين والباحثين والطلاب وللقاريء وإضافة حقيقية للمكتبة السودانية يجمع بين السرد التاريخي وتحليل الحدث بوصف المؤلف مراقبا لصيقا للأحداث ومشاركا في صنعها خصوصا في فترة ثورة أكتوبر التي تقلد فيها منصب سكرتير عام جبهة الهيئات التي قادت تلك الثورة الشعبية. اشتمل الكتاب على دراسة لنتائج التصويت في دوائر الخريجين في انتخابات عام 1986م ، وهي آخر انتخابات يشهدها السودان وعلى إحصائية طريفة لمبادرات واتفاقات ومحاولات لم الشمل والتي بلغ عددها العشرين وإحصائية أخري لفترات الحكومات العسكرية والحكومات الديموقراطية .
عن الخدمة المدنية يقول المؤلف ،وكيل الوزارة السابق، في إحدى فقرات كتابه إثر واقعة تسيب معينة " حزنت لما وصل إليه أداء العاملين في الخدمة المدنية وتصرفاتهم غير اللائقة. وأسفي على أن كاتبي بروتوكولات نيفاشا ومراجعيها والمصدقين عليها لم يتعرضوا لها ولا أظنهم يعلمون بما يجري في مكاتب الحكومة من قهر وعرقلة وتضييق على المواطنين الذين من أجلهم أنشئت الخدمة المدنية، لا لخدمة العاملين فيها والمالئين الطرق بعرباتها" .
وفي مواقع مختلفة من الكتاب،الذي لا يمكن استعراضه في هذا الحيز الضيق، يطرح الكاتب أفكاره الجريئة فهو يرفض أي نوع من التكامل بين مصر والسودان لا يجيء في ظل حكومات منتخبة. ويقول في موضع آخر إن "المشكلة ليست في خروج الإنجليز ولكن في عجزنا عن تحقيق الحكم الرشيد". وقال إن الشعب السوداني الذى سعى ونال حرية التجمع والتنظيم دون أن يمر عبر دستور أو ميثاق وكون الأحزاب ليس بالإمكان أن تمحو من ذاكرته أنه قد مارس حرية التعبير وحرية التجمع وحرية التنظيم ولا أصدق أنه مضطر ليستجديها اليوم.
كنت أتمنى لو أن الكتاب جاء موضوعا واحدا متصلا عن التجربة السياسية السودانية الحديثة ،أو حتى سيرة ذاتية تركز على تقاطعات الجانب الخاص مع الجانب العام، بدءا بالمراحل الدراسية المختلفة للدكتور جعفر ، مرورا بعمله كطبيب بيطري في مناطق مختلفة في السودان ووصولا لجبهة الهيئات وثورة أكتوبر ثم الأنظمة التي تعاقبت على الحكم بعد ذلك من موقفه كمراقب نشط ومسئول حكومي ومشارك في صناعة الأحداث و شاهد على هذه العصور ، فكان ذلك سيضمن التتابع السردي ووحدة الموضوع التي غابت لحد ما في "نظرات في التجربة السياسية السودانية".
والتحية في النهاية للرجل العملاق جعفر كرار مع الأمنيات له بدوام الصحة والعافية.
(عبدالله علقم)
[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة