وددت إعادة نشر بعض المقلات التي قمت بكتابتها لصحيفة الخرطوم الغراء حينما كانت تصدر من القاهرة أثناء حقبة التسعينات من القرن المنصرم تحت الاسم الصحفي "د. سعد البركالى"، لأنني قد رأيت أن مضامينها لا زالت تتناسب و أحوال السودان الراهنة، و لكأن عجلة تاريخنا السياسي قد ظلت راكنة منذ ذلك الحين !! فيا له من سبات ذو دلالات عميقة !!؟؟
د. إبراهيم الكرسنى
31/1/2008
نحو وطن سوداني خالٍ من الإرهاب والفساد ( 1 )
نشر في جريدة الخرطوم ، يوم 27 نوفمبر 1995 م – العدد رقم "1051"
لقد فكرت كثيراً عند اختيار العنوان المناسب لموضوع هذه الحلقة من سلسلة ( قضايا مستقبلية ) نسبة لوجود إشكالين يمكن أن يغير كل منهما كثيراً من كنه الموضوع المطروح للنقاش. الأول يدور حول كلمة وطن وكانت المفاضلة بينها وبين كلمة مجتمع. يبدو واضحاً أن كلاً من الكلمتين يمكن أن تعطي دلالات تختلف تماماً عن الأخرى. فاقتران مفهوم الإرهاب بالمجتمع السوداني يمكن أن يدل على أنه جزء أصيل من مكونات ذلك المجتمع أو في أحسن الأحوال ، أنه يشكل أحد إفرازاته , ولكن اقترانه بالوطن يمكن أن يدل على أنه عنصر أجنبي دخيل على المجتمع السوداني ، وفيما بين هذين المدلولين فروق شاسعة ، ففضلت مفهوم الوطن على مفهوم المجتمع لأسباب سيرد ذكرها في متن هذا المقال ، أما الإشكال الآخر فهو عن علاقة الفساد بالإرهاب وعلاقتهما بمفهومي الوطن والمجتمع . على عكس الإشكال الأول ، فإن الفساد ينتج أساساً عن التركيبة العضوية لأي مجتمع ولا يشكل العامل الخارجي سوى جزءاً ضئيلاً من مجموع العوامل التي تقود إلى استشرائه وهو بهذه الصفة يرتبط بمفهوم المجتمع أكثر منه ارتباطاً بمفهوم الوطن . لكن في النهاية وقع اختياري على العنوان أعلاه لأن الحديث سوف يدور حول ظاهرتين تحدثان داخل أرض الوطن وإن كانت إحداهما دخيلة على مجتمعه تماماً.
إن الإرهاب المنظم بمعناه السائد اليوم والذي يعني ترويع الآمنين سواء كان ذلك في أماكن عملهم أو سكنهم أو دور عبادتهم ، أو في جميع الأماكن الأخرى غير العسكرية ، والذي يمتد من المساءلة الشفهية التي لا تستند إلى قانون إلى أن يصل إلى مرحلة التصفية الجسدية هو ظاهرة جديدة تماماً على المجتمع السوداني . لقد أدخل هذا النظام الكثير من الممارسات الغريبة والشاذة عن التقاليد السمحة والراسخة التي ظلت تميز السودانيين وعرفوا بها من بين جميع شعوب العالم منذ أن عرف السودان بحدوده السياسية الراهنة . وبالتأكيد فإن هذه التقاليد قد ميزت جميع القبائل التي استوطنت داخل هذه المناطق حتى قبل وجود السودان كدولة حديثة موحدة.
إن معظم الأساليب التي ابتدعها هذا النظام المستبد لإرهاب الشعب السوداني لم نر مثيلاً لها من قبل سوى في اعتي الأنظمة الديكتاتورية والعنصرية كأسبانيا في عهد فرانكو وايطاليا في عهد موسيليني وجنوب أفريقيا في عهد الحكم العنصري للأقلية البيضاء أو الضفة الغربية وقطاع غزة في ظل الاحتلال الإسرائيلي . إن الهدف الرئيسي للإرهاب المنظم الذي تسنده أداة سياسية ويستمد قوته من جهاز الدولة هو تحقيق الغلبة والسيادة لفئة صغيرة لا تشكل سوى أقلية بسيطة داخل المجتمع وتمكينها من أدارة شئونه عبر وسائل وأساليب قمعية وذلك لأنها غالباً ما تكون قد فشلت في تحقيق هذا الهدف عبر الوسائل السلمية الديمقراطية المتعارف عليها . إن هذا النوع من الإرهاب يهدف في المقام الأول إلى استغلال موارد المجتمع وتسخيرها لخدمة مصلحة قلة ضئيلة وإثرائها ثراءً فاحشاً عبر الوسائل غير الشريفة وهو بهذا المعنى يشبه في الكثير من جوانبه الإرهاب الذي تقوم به عصابات المافيا . لكن يختلف اختلافاً جذرياً عن إرهاب عصابات المافيا من حيث أن الأخيرة لا تزعم أن لديها برنامج توجه حضاري ولا تضع إعادة صياغة إنسان مجتمعها ضمن الأجندة التي تحكم مسار عملها ، إذ إنها تهدف فقط إلى تحقيق الثراء الفاحش بطرق غير مشروعة .
إن أخطر ما في مشروع النظام وأكثر ما يميزه هو أنه يستند في الأساس على العنف القائم على استغلال الدين أسوأ استغلال سياسي لتحقيق مآرب دنيوية محضة . إن هذه الفئة قد سطت على السلطة بليل وسرقت حريات الشعب الأساسية وصادرت مؤسساته الديمقراطية وهي تزعم في تبجح يتسم بالصلف والغرور والتعالي بأنها قد فعلت كل ذلك من أجل أن تضيء نور الأيمان في قلوب المواطنين !! ، وقد زعموا إضافة إلى ذلك أنهم يودون بعث الإسلام من جديد على أرض السودان وبين مواطنيه وكأنهم قد وجدوا الأصنام منصوبة في جميع أركانها !! ، هل هناك إدعاء أكثر كذباً من هذا !؟ لقد أوضحت تجربة الأعوام الستة العجاف التي مضت بأن هذه الفئة لم تأت بجديد سوى استغلالها للدين كأسوأ ما يكون الاستغلال حينما أقحمته في صراعها السياسي مع بقية فئات المجتمع الأخرى والتي هي أكثر تديناً منها بحكم فطرتها السليمة التي فطرها الله عليها ، مدغدغة الحواس الدينية للمواطن البسيط عن طريق رفعها للشعارات الهلامية المتمسحة بالدين الإسلامي الحنيف دون أدنى وازع ديني أو أخلاقي . إن هذه الفئة الباغية لم تدر أنها بفعلتها تلك إنما قد أساءت إلى الإسلام أيما إساءة وحقرته من خلال ممارستها أيما تحقير ومنحت أعدائه أمضى الأسلحة لمحاربته .
على الرغم من المكاسب السياسية والمالية والإعلامية الكبيرة التي حققتها الجبهة أثناء فترة الديمقراطية الثالثة ، عن طريق العنف الفكري والجسدي المستند إلى الدين ، إلا إن قيادتها كانت تعي تماماً بأن هذه المكاسب لم تنبع من تأييد الشعب السوداني لها أو لبرامجها وإنما كانت نتاجاً لتحالفها الاستراتيجي مع الديكتاتور جعفر نميري الذي أعقبته بتآمرها الواضح والمفضوح مع المجلس العسكري الانتقالي واللذان شكلا أساس التوجه الإستراتيجي أثناء فترة الديمقراطية الثالثة لخدمة مصالح السماسرة والرأسمالية الطفيلية التي تشكل القاعدة الاجتماعية الرئيسية للجبهة القومية . هذا الوعي بحماية المصالح الدنيوية ، وليس إضاءة نور الأيمان أو بعث الإسلام من جديد ، هو الذي أملى على الجبهة أن تسرع انقلاب يونيو 1989 قبل أقل من عام واحد فقط من أجراء الانتخابات النيابية العامة ، وهذا اعتراف بفشلها التام ليس في تنفيذ برنامجها المزعوم فقط وإنما في حماية مصالحها بالوسائل الديمقراطية كذلك . لهذا كان لابد لها من اللجوء إلى جميع الوسائل الانتهازية والديكتاتورية من أجل بلوغ هذا الهدف.
جوهر هذه الوسائل يقف معادياً للحرية أياً كان مصدرها ومهما صغرت مساحتها ولا يقبل بالرأي الآخر أو مشروعية الاختلاف ناهيك عن المبادئ السامية والراقية من قبيل التداول السلمي للسلطة !! إن أسلوبهم الرئيسي الذي اتبعوه في تنفيذ برنامجهم الظلامي يستند إلى القمع والإرهاب الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن ما عهده شعبنا من مختلف وسائل القمع المعروفة لديه من خلال ممارسات الأنظمة الديكتاتورية المختلفة التي تعاقبت على حكمه . لقد اعتمد هذا النظام وسائل التعذيب المختلفة كأسلوب ومنهج منظم لمواجهة خصومه السياسيين والتنكيل بهم . ولقد ابتدع من خلال هذا المنهج العديد من الوسائل المجافية ليس فقط للخلق السوداني الأصيل وإنما للخلق الإنساني القويم في صورته المطلقة بدءاً بالتعذيب النفسي والمعنوي ، مروراً بالتعذيب البدني بمختلف صنوفه ، وانتهاء بالتصفية الجسدية بعيداً عن أعين الأجهزة الرسمية للدولة وداخل مخابئ لا يمكن أن يبتكرها سوى عقلهم السقيم فيما أطلقت عليه عبقرية شعبنا " بيوت الأشباح " .
أن ارتكاب جرائم بحجم اغتيال الخاشعين الساجدين لله تعالى داخل بيوته الآمنة كما حدث للأبرياء المصلين من الكهول والأطفال داخل مسجد الثورة ، أو التصفية الجسدية للمؤمنين أثناء شهر رمضان المعظم وعشية عيد الفطر المبارك كما حدث لشهداء رمضان من ضباط قوات الشعب المسلحة ، كانت تطلب نوعاً خاصاً من البشر للقيام بارتكابها . هذه الخصوصية تتمثل في أن يتحول الإنسان من بشر سوي إلى وحش كاسر متجرد من جميع الصفات الفطرية التي تربطه ببني جنسه .
لقد استقدم هذا النظام العديد من الإرهابيين والمطلوبين للعدالة من البلدان الشقيقة والصديقة ووفر لهم جميع ما يحتاجونه من وسائل لنجاح مهمتهم المنكرة. لقد كان الغرض من وراء اتخاذ هذا الأجراء هو تحقيق هدفين في غاية الأهمية في ذات الوقت. الأول هو المحافظة على النظام الفاشي في السودان وأهمية استمراره باعتباره " النموذج الحضاري " لحركة الإسلام السياسي العالمية الذي ستضاهي به النماذج الحضارية الأخرى باعتبار أنها هي المسئول الأول والأخير عن هذا الانقلاب المشئوم الذي اتخذ قراره في اجتماع عالمي لقيادتها في أحدى البلدان الأوروبية والتي اختارت بدورها السودان من بين خمسة دول أخرى من دول المنطقة كانت مرشحة لذلك. لهذا تصبح مهمة المحافظة عليه هي واجب كل إرهابي أينما وجد على هذه البسيطة وفرض عين عليه يجب أن يؤديه
.
لقد تمكن هذا النظام ، وفي فترة وجيزة للغاية ، من تحويل السودان من دولة سلام وطمأنينة ، حيث كانت أرضه ملاذاً لجميع المضطهدين من دول الجوار وآوت في وقت من الأوقات أكبر عدد من اللاجئين داخل القارة الأفريقية ، إلى دولة ترعى الإرهاب الدولي بشهادة كافة أعضاء الأسرة الدولية التي تمثلت في الإدانات المتكررة للنظام من قبل الهيئات والمنظمات المتخصصة في رعاية حقوق الإنسان، بالذات ت التابعة منها لهيئة الأمم المتحدة .
إن هذه الإدانات المتكررة للنظام من قبل الأسرة الدولية لم تردع هذه الفئة الباغية بل زادتها صلفاً وغروراً وسدرت في غيها متحدية بذلك إرادة المجتمع الدولي ، إن ظاهرة الإرهاب قد أضحت بالفعل ظاهرة عالمية وإن مواجهتها والقضاء عليها يتطلب جهوداً عالمية مكثفة من قبل جميع أفراد الأسرة الدولية . إنها أصبحت كثعبان عالمي لا يمكن القضاء عليه عن طريق الإمساك بذيله ومحاولة ترويضه، وإنما السبيل الوحيد إلى ذلك هو قطع رأسه المتمثل في الأنظمة التي توفر الرعاية الضرورية له. وبما أن هذا النظام هو الوليد الشرعي لتنظيم دولي هو تنظيم الأخوان المسلمين الإرهابي فيصبح من واجب المجتمع الدولي تقديم كل مساعدة ممكنة للشعب السوداني الصنديد من أجل تمكينه من الإطاحة به في أقصر وقت ممكن، ويأتي في مقدمة تلك المساعدات فرض العقوبات الاقتصادية عليه ، اللذان يشكلان عصب حياته ، إلى أن تتوقف آلته الحربية الضخمة عن العمل في تقتيل أبناء الشعب السوداني في الجنوب والشمال على حد سواء .
إن نجاح هذا النظام المستبد في تحويل السودان إلى دولة إرهابية قد زاد من معاناة الشعب السوداني ، في الداخل والخارج ، ووضع الكثير من العراقيل في وجه أبنائه وبناته الذين يودون التنقل منه وإليه إلى أي جهة في العالم حتى أصبح السودانيون فئة منبوذة وغير مرغوب في دخولهم إلى أراضي معظم الدول بفضل الوثيقة القانونية التي يحملونها المسمية بجواز السفر والتي تحولت في ظل هذا النظام إلى عقبة كأداء تحول دون سفر السودانيين تماماً .
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة