صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


.. بجب فهم قضية السودان أولا (المحاضرة الثانية)/سالم أحمد سالم-باريس
Jan 22, 2008, 09:39

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

.. بجب فهم قضية السودان أولا (المحاضرة الثانية)

 

المسكوت عنه في زعامات الطائفية والعقائدية السياسية:

فصلوا الدّين والشعب.. وجمعوا بين الأختين.. واستأثروا بالحكم والثروة..

لا مستقبل للسودان قبل فصل الطائفية والعقائدية عن الحياة السياسية..

أخطأ إسماعيل الأزهري فتغير تاريخ السودان..

الديموقراطية والحرية من صميم الأديان والسطو عليها مقبوح عند الله والناس

الحركة الشعبية انكفأت على التفاصيل وأهملت التحول الديموقراطي.. وخذلت الناس..

جماعة "جمع الصف الوطني" عليها أن تجمع نفسها وترحل !!

تجميع القوى الديموقراطية الوطنية الباب الوحيد إلى المستقبل..

 

سالم أحمد سالم

باريس

 

سالم أحمد سالم
وباء الأزمات يعصف بالسودان منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا دون أن يستثني إقليما، أو يغادر بلدة أو قرية صغيرة مرمية على حدق النيل، أو أخرى ملقاة بأهلها ودوابها في ذمة الفيافي، أو قرية منثورة قطاطيها بلا انتظام مثل خطا الزمن العاثر، أو قرية معلقة على رؤوس الجبال لا تدري أتهبط أم تصعد إلى بارئها، أو قرية محصورة في بطون الأحراش إلا من درب ضيق شقّته أقدام أهلها الحفاة. وهكذا أحاطت بالمجتمعات السودانية أحزمة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدستورية والبيئية والتخومية والعسكرية والإنسانية والعدلية والأمنية، عدا أمن الحكومات، وأضحت وحدة البلاد على المحك، مثلما أصيبت علاقات السودان الإقليمية والدولية في أكثر من مقتل. ألا أنبئكم بما هو أكثر شرّا من كل ذلك؟.. إنه مستقبل السودان الذي ينفتح على المجهول.

 

وبما أن الوباء فد اكتسب الصفة الوطنية وأصبح عاما ومتفاقما، لابد له إذن من مصدر مركزي واحد تتوالد فيه وتنطلق منه جرثومة "الوباء الوطني" وتنتشر شمالا وجنوبا، شرقا وغربا ووسطا. لم يعد من شك أن مركز الوباء هو الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ الاستقلال. تذهب حكومة فتترك أزمات وتأتي حكومة فتضيف أزمات من نوع آخر. كل أزمة تصبح مصدرا لأزمات أخرى، ومن فرع كل أزمة تتفرع أزمات إضافية بصورة مطابقة لتوالد وانتشار الأوبئة.. وهي كذلك. وعندما تتكاثر الأزمات وفق إيقاع تعاقب الحكومات، فمعنى ذلك أن جميع الحكومات قد امتنعت عن وضع أسس راسية لتبادل إدارة البلاد. وفي غياب أسس أو آليات إدارة البلاد تصبح الحكومات في حد ذاتها مصادر للأزمات. وعندما تكون الحكومة مصدر الأزمات، فإنها بالضرورة تكون عاجزة عن دفع عجلة التطور وعن معالجة الرواسب التي سبقت مرحلة الاستقلال أو أعقبته. ولتوضيح هذه العلاقة بين الآلية وبين التطور، أضعها في المقاربة التالية: إن آلية تداول الإدارة بين الحكومات، هي بمثابة الجنزير في الدراجة العادية، والحكومات المتعاقبة هي الحبيبات المترابطة المكونة للجنزير والتي تدير التروس وتدفع بها إلى الأمام أثناء تعاقبها ودورانها. وبما أن الحبيبات منضّدة في جنزير واحد لذلك تنجح في تحريك الدراجة إلى الأمام فقط لأنها تدفع بعضها بعضا وتسحب بعضها بعضا وفق آلية تتابع منسجمة مع قوة الدفع الشعبي. بديهي إذن عندما يغيب هذا الجنزير أو الآلية تأتي الحكومات خارج هذه الآلية مفككة عن بعضها فتدور كل حكومة من ذاتها وحول ذاتها وفي محلها، وتصبح كل حكومة معزولة تماما عن الحكومة التي سبقتها أو التي تعقبها، لذلك لا تدور (عجلة) التطور ولا تندفع إلى الأمام. وهكذا حال الحكومات التي تعاقبت على السودان مفككة ولا تنتج عنها قوة دفع. الحكومات العسكرية الثلاث تعطينا نموذجا أكثر وضوحا عن الانعزال والفشل. فبعض مشاريع البنية التحتية القليلة التي نفذتها الحكومة العسكرية الأولى كانت نتاجا لقوة الدفع الوطني الذي سبق وأعقب الاستقلال الوطني، وبرغم ذلك جاءت تلك المشاريع غير متناسقة الجدوى وخارج أطر خطة وطنية شاملة. ثم جاءت الحكومة العسكرية الثانية مضرب المثل في الفشل برغم طنين إعلامها عن مشاريع التنمية. وها هي العسكرية الثالثة تتجمل بإعلامها وبعدد لا يحصى من المقصّات والشرائط المستخدمة في افتتاح المشاريع التي يسمع الناس جعجعتها في أجهزة إعلامها ولا يرون لها طحينا على المائدة والمدرسة إلا طحن الغلاء الفاحش وطحنها لإرادة الإنسان. فالمشاريع التي تفخر بها هذه الحكومة لا تخرج عن سياق التطور الحتمي في أبطأ معدلاته، وغالبا ما تكون لها نتائج مستقبلية سالبة على المجتمعات والبيئة. وقد ذكرت في سياق سابق أن الحكومة العسكرية الثالثة هي امتداد للحكومة العسكرية الثانية، فهي بالتالي مجرد رديف لها جهة الفشل الاقتصادي.. فما بالك بعد انقشاعها وزوال الغشاوة الإعلامية ووضوح المشهد؟. وحتى في الحالات التي ربما أنجزت فيها حكومة سودانية عملا، يبقى عملها معزولا يموت بموتها، بل تعمد الحكومة اللاحقة إلى تدميره أو إلى إهماله في أفضل الحالات. أربعون عاما من الحكم العسكري كانت كافية أن ينجز السودان خلالها الكثير خاصة على صعيد تطور التجربة السياسية، حيث كان من المؤمل أن يصل السودان إلى صيغة راسية لآلية تداول إدارة البلاد بدلا من أن يبدأ من الصفر في كل مرة. ومن يظن أن حكومة شمولية أو حكومة تأتي خارج آلية التداول قادرة على معالجة قضايا السودان، ما عليه إلا أن ينزع جنزير الدراجة ويحاول قيادتها!. وتأسيسا عليه كان من المنطقي أن تفشل الحكومات وأن يتداعى الفشل على شكل أزمات جديدة تضرب كل أوجه الحياة علاوة على تفاقم رواسب المشكلات القديمة. وفي حكم المؤكد سوف يخسر الناس المستقبل في غياب أسس إدارة البلاد أو آلية تداول إدارة البلاد. ومن حيث أن الحكومات في حد ذاتها هي إفراز أو نتاج لفعل تسبب في قيامها (كالانقلاب العسكري مثلا)، فسوف نواصل الغوص في هذا السياق حتى نصل إلى مركز الزلازل الوبائية.. فصبرا.

 

إن الأسلوب الدرامي في تعاقب الحكومات السودانية سواء بانقلابات عسكرية أو انقلابات برلمانية أو انقلابات مزدوجة، يبرهن بدوره أن السودان ظل يفتقر منذ استقلاله إلى آلية ثابتة ومتطورة لتداول إدارة البلاد. فإذا كانت هنالك آلية لما تعاقبت حكومات السودان بتلك الصور الفجائية الدرامية لأن آلية تداول السلطة هي التي تضمن التناقل السلس لإدارة البلاد من تكوين إلى آخر حسب برنامج الحزب الذي يختاره الشعب. ويتجسد لنا افتقار السودان لهذه الآلية أولا في عدم حدوث تطور يتسق مع إمكانيات البلاد لكون أن هذه الآلية هي حاضنة التطور. كما يظهر الافتقار للآلية في عدم التجانس المنطقي بين أصناف الحكومات المتعاقبة، وأيضا في التناقض والتضارب بين ما تفعله كل حكومة من أفاعيل. لذلك بدا السودان مثل بيت يتعاقب عليه المالكون، هذا يهدّ جدارا وذلك يبني غرفة وثالث يفتح بابا ورابع يغلق نافذة وخامس يصنع بيتا للدجاج وحظيرة للأبقار.. هذا يبني من طين وذاك من طوب وآخر من قش وصفيح وهذا يهدّ ولا يبني وهذا يبيع قطعة بساكنيها لجار وذلك يفتعل مشكلة مع الجار الآخر.. وكل حسب مزاجه دون اتساق أو مراعاة لأبسط متطلبات حياة الشعب أو العلاقة المتكافئة مع الجيران أو حتى الذوق العام!. وفوق كل ذلك مطلوب من الشعب السوداني أن يسكن في هذا الشيء ويمشي في مناكبه المظلمة يباغته جدار في أنفه وتسقط قدمه في حفرة، يتنفس هواء فاسدا ينهشه البعوض والذباب ويشتمه الجيران. ومن شدة الضيق والشظف الذي عم جميع الأقاليم، يجزم كل إقليم في نفسه أن الأقاليم الأخرى حتما تعيش أوضاعا أفضل منه وأنه هو المهمّش الوحيد. ومن هنا يبدأ التوتر وتبادل الاتهامات والعراك بين السكان.. وهنا تظهر الحكومات لتلعب دور الحجّاز وأيضا الشرطي الغليظ والقاضي الذي يدين الجميع ويعاقب الجميع!!. نعم هذا بالضبط ما تفعله الحكومات المتعاقبة بالسودان وأهله. وليت المهمشون في دارفور لو رأوا إخوانهم في أقاصي الشمال وهم يزدردون جرعات من الماء العكر لسد رمق الجوع، أو تلك المرأة في غيابات الجنوب وقد نفخ مرض الفيل ساقها فلا دواء ولا حراك ولا غذاء، وذلك في الشرق وقد أكل السل رئته على رصيف الميناء لا يسأل الناس إلحافا، أو هذه الأم في الخرطوم لا تجد ماء فول تدلقه على رغيف ناشف للوجبة الوحيدة لأطفالها. لو رأوا ذلك إذن لعلموا أنهم في المحنة والتهميش سواء بسواء. أما إذا عاين كل أهل السودان جهة أقطاب الحكومات المسيطرة وزعامات الأحزاب الطائفية والعقائدية، إذن لرأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا دنيويا بناه هؤلاء بما غنموا من بين لحم وعظم كل المجتمعات السودانية.

 

لا زيد أن عدم التفات الحكومات المتعاقبة إلى وضع أسس راسية لإدارة البلاد وتداول السلطة يؤكد أن كل هذه الحكومات جاءت لتحكم فقط. والذي يقتنص السلطة ليحكم فقط سوف يعمل فقط على تحقيق مآربه التي دفعته لاقتناص السلطة، لذلك لن يلتفت إلى وضع أسس أو آلية قابلة للديمومة والتطور لتبادل الإدارة (الحكم)، بل يعارض هذه الآلية بشراسة. لماذا ؟ أولا لأن من يقتنص السلطة لا يؤمن بالتعاقب أصلا، ولا يريد ولا يؤمن بشيء اسمه بعده ولا يعترف بإرادة الشعب. وثانيا لأن هذه الآلية هي وحدها التي تضمن انسياب تعاقب الحكومات وفق اختيار الشعب وما يقتضيه ذلك من برامج متنافسة وتجرد وأمانة... وهلم جرا.. فلماذا يجهد أصحاب الحكومات والدبابات أنفسهم في حين أن اقتناص السلطة في السودان لا يستدعي كل هذا العنت.. أو حتى الأمانة ؟!. لذلك نستهجن ولا نستغرب أن كل حكومات السودان، بما فيها الحكومات خلال الفترات البرلمانية، تأتي وتمضي على تلك الصورة الفجائية خارج كل الأسس وآليات التداول المتعارف عليها دوليا. مجمل ما ذهبنا إليه ينتهي بنا إلي الحقيقة التي تستبطن كل شيء وهي: السودان يواجه أزمة طاحنة في آلية الحكم. وتتجسد أزمة الحكم كما رأينا في افتقار البلاد إلى آلية تداول السلطة، وهي الآلية التي غيبتها الحكومات عن سبق إصرار. وعليه فقد وصل بنا السياق حتى الآن إلى أن أزمة، أو بالأحرى محنة، غياب آلية الحكم هي النقطة المركزية التي انبثقت عنها سائر أزمات السودان. وتبعا لذلك يكون من العبث بمكان محاولة معالجة أي أزمة من أزمات السودان قبل معالجة المصدر المركزي للأزمات وهو أزمة الحكم، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج. والعلاج يختلف بالتأكيد عن المسكنات التي تخدر بها الحكومات أعصاب الشعب على شاكلة الاتفاقات الجانبية مثل الاتفاقات التي تزمع حكومة الخرطوم عقدها مع الجماعات الدارفورية، أو الصفقات الخطرة التي تسعى حكومة الخرطوم اليوم عقد أركانها مع الأحزاب الطائفية والعقائدية. ونقول بالصوت العالي أن لا علاج لأزمة دارفور قبل معالجة أزمة الحكم ولا علاج لها خارج إطار أزمات السودان الأخرى حتى لو أبرمت حكومة الخرطوم الراهنة اتفاقية منفردة مع كل مواطن من مواطني دارفور. فالاتفاقات المزمعة لن تكون على محصلة نتائج اتفاقات نيفاشا نسبة للاختلاف العميق بين قضية الجنوب وقضايا السودان الأخرى. وحتى في حال أن أبرمت الجماعات الدارفورية والحكومة الراهنة صفقات اتفاقات، فإنها عرضة للانهيار إما بسبب أن الاتفاقات انعقدت بين أجسام مؤقتة لا تمثل القاعدة الاجتماعية الفعلية، أو بسبب نزاعات الجماعات الدارفورية، أو بسبب مماطلة الحكومة، أو أنها لا محالة تنهار مع إجراء أول انتخابات حرة ونزيهة. وللمناسبة فقد كان هنالك بعض الأمل أن تلعب اتفاقات نيفاشا دورا مهما في معالجة أزمة الحكم، لكن انكفاء الحركة الشعبية على الأمور الفرعية بعد اغتيال الدكتور جون قرنق قد بدد ذلك الدور، ولسوف نستوثق من ذلك لاحقا.

 

كل قضايا وأزمات السودان ترتبط عضويا بباقي أخواتها صعودا أو هبوطا لأنها جميعها تنبعث من مصدر واحد. وبسبب هذا الترابط العضوي يخطئ الكثيرون الذين يعالجون قضية دارفور أو أي قضية من قضايا السودان في معزل عن قضاياه الأخرى. يخطئون لأن عزل هذه القضية أو تلك وإخراجها عن المحتوى الوطني يزيد من تعقيداتها وينأى بها عن صيغة الحل الوطني الشامل الطريق الوحيد المفضي إلى معالجة كل قضايا وأزمات السودان. لذلك قلت في سياق سابق أن معظم أعمدة الرأي في الصحافة السودانية تسهم في تفكيك الرأي العام لأنها تتناول المواضيع الجزئية في معزل عن قضية السودان المركزية، أي قضية أزمة الحكم. كما أن توجيه النقد لأداء الحكومة يكسب الحكومة المشروعية!. فمواضيع المجاري أو انتشار الملاريا أو الحمى النزفية لا ينبغي النظر إليها ضمن إخفاقات سياسة الحكومة الراهنة، بل ينبغي تناولها ضمن كليّة عدم مشروعية الحكومة نفسها، أو على الأقل ربطها بذلك. زد على ذلك أن عزل قضية دارفور مثلا عن محتوى أزمات السودان الأخرى يصب في اتجاه "سياسة التجزئة" التي تعتمدها الحكومة الراهنة، وهي ذات السياسة التي فجرت الأزمة وفشلت في لمها ولم تزدها إلا خبالا. يكفي أن أسلوب الحكومة الراهنة قد أغرى حتى جماعات النهب المسلح أن تشرعن نفسها وترفع شعارات ومطالب سياسية أكسبتها شرعية دولية.

 

نعود فنجد أن كل الحكومات المتعاقبة كما تركناها وقد اشتركت في تفريخ ونشر وباء الأزمات الوطنية وفي الفشل وفي اختلاق أزمة الحكم. إذن لابد من وجود علة مشتركة تجمع بين جميع هذه الحكومات. والبحث عن العلة المشتركة يقودنا تلقائيا إلى النظر في أنماط هذه الحكومات التي تعاقبت على السودان منذ الاستقلال فنجدها ثلاث حكومات عسكرية سيطرت على البلاد قرابة أربعة عقود. وبين فجوات الحكومات العسكرية سيطر على البلاد حزبان رئيسيان هما حزبا الأمة والاتحادي الديموقراطي. والحكومات العسكرية دون نقاش هي حكومات شمولية دكتاتورية. والحزبان طائفيان، وبالتالي يخضع أتباعهما لسلطة الفرد زعيم الطائفة رئيس الحزب ومالكه الوحيد، وهي صفات كافية لنزع غلالة الديموقراطية عنهما وتلحقهما بشمولية ودكتاتورية الحكومات العسكرية. إذن الدكتاتورية والفردية هي الصفة المشتركة أو بالأحرى العلة المشتركة بين جميع هذه الحكومات. والنتيجة أن الديموقراطية هي الغائب الأكبر داخل كل هذه الحكومات مثلما هي غائبة أيضا في سلوك هذه الحكومات مع الشعب كافة.

 

والديموقراطية التي أقصدها هي بالضبط آلية تبادل إدارة البلاد أو إدارة الحزب أو إدارة أي مجموعة منظمة. فالديموقراطية أو آلية تداول إدارة البلاد ليست مطلوبة لذاتها أو أنها مسألة ترفية، بل هي مسألة لابد منها لأنها الوسيلة الوحيدة للتطوير المستمر (التطوير بالبرامج المتنافسة المتعاقبة)، وهو تطوير لن يتم إلا عن طريق حكم الناس لأنفسهم. لذلك تقاتل الشعوب الواعية الحرة من أجل الديموقراطية ويمشي المؤمنون بها على حدق الموت دون وجل مثل مشية السيدة نظير بوتو. وعليه فقد وصلنا لحد الآن إلى أن غياب الديموقراطية هو السبب المباشر في أزمة الحكم، ومن أزمة الحكم تفرخت الأوبئة السياسية أو أحزمة أزمات السودان. وحتى إذا لم نقنع بهذه القراءة السليمة وقرأنا المعادلة من الجانب الآخر، نجد أن تفاقم الأزمات فيه الدليل القاطع على الفشل الذريع الذي منيت به مفردات الشمولية والدكتاتورية والوصاية والبابوية السياسية. ومن حيث أن مفردة الديموقراطية ليست ضمن هذه المفردات، فإننا نصل إلى نفس النتيجة وهي أن الديموقراطية ظلت الغائب الأكبر داخل الحكومة الراهنة وداخل جميع الحكومات العسكرية والأحزاب الطائفية والعقائدية والجماعات الدارفورية وغير الدارفورية. كلها جميعها تكوينات لا تعرف ولا تعترف بالآلية الديموقراطية في بنيتها الداخلية. وهنا أيضا يقوم سؤال هام: لماذا ترفض هذه التكوينات والكيانات والجماعات تطبيق الآلية الديموقراطية في داخلها؟. والإجابة: لأن الاحتكام للآلية الديموقراطية سوف يبيد النواة الأساسية التي تقوم عليها الجماعة المملوكة لفرد أو الحكومة الشمولية أو الحزب الطائفي أو العقائدي. والنواة التي أعنيها هي: دكتاتورية الفرد أو خضوع الأتباع لسلطة الفرد سواء كان الفرد شخصا واحدا أو مجموعة متسلطة قابضة سيان. والمحصلة حتى الآن:

من دكتاتورية الفرد غابت الديموقراطية، وبغياب الديموقراطية غابت آلية تداول إدارة البلاد، ومن غياب الآلية نتجت أزمة الحكم، ومن أزمة الحكم تفشل الحكومات، ومن فشل الحكومات توالدت وانتشرت أوبئة الأزمات. إذن الفرد المتسلط هو المصدر الفعلي لكل أزمات السودان. ولكي نعالج الأزمات لابد قبل كل شيء أن نتوجه إلى مصدر جميع الأزمات المتداخلة المترابطة ألا وهو الفرد المتسلط.

 

إن نظرة واحدة سريعة في العدد المحدود جدا من الوجوه التي ظلت تسيطر على مقدرات السودان السياسية لما يقارب نصف قرن (الصادق المهدي، حسن الترابي، محمد عثمان الميرغني، طبعا بالإضافة إلى رؤساء الحكومات العسكرية)، كافية لتأكيد التسلط المطلق للفرد داخل التكوينات والكيانات والحكومات السودانية، وبالتالي الهيمنة التامة لهذا الثالوث على لولب الحركة السياسية. الصورة واضحة والنتائج أوضح، لكن للمقاربة فقط نجد أنه خلال الحقبة المذكورة تعاقب على الولايات المتحدة الأميريكية حوالي سبعة رؤساء وكذلك فرنسا وبريطانيا واختفت عن واجهة المسرح السياسي في هذه الدول مئات إن لم أقل آلاف الوزراء والقيادات السياسية المؤهلة. وفي نفس الاتجاه نرى حركة التقدم المذهل الذي تصنعه هذه الدول الأوروبية على رأس كل ساعة. إذن ثمة علاقة طردية بين التقدم المضطرد وبين تداول الأحزاب لإدارة هذه الدول وما يستتبع ذلك من حركة التغيير النشطة في الرؤساء والقيادات المؤهلة. ونعثر على هذه العلاقة في مرحلتين: المرحلة الأولى في الحوارات الداخلية التي تجريها الأحزاب الأوروبية من قاعدتها العريضة حول برنامج الحزب حتى يتبلور الحوار إلى البرنامج النهائي للحزب. ثم من خلال الآلية الديموقراطية داخل الحزب تجري عملية التبديلات في قيادات الحزب الأوروبي حسب ما تقتضيه تعديلات البرنامج. أي إحلال القيادات المؤهلة لتنفيذ البرنامج المعدل. ثم المرحلة الثانية التي تتجسد في تلك الحوارات المكثفة والعلنية بين برامج الأحزاب في الدولة الأوروبية. ومن الطبيعي أن يتوصل الرأي العام الغالب في الدولة إلى تفضيل برنامج يصوتون لمصلحته في الانتخابات العامة (يصوتون لبرامج لا لأسماء أو رموز). وتبعا لذلك تتبدل الحكومات ورؤساء الحكومات والوزراء وكل الأطقم الإدارية العليا في الدولة. هذه الحركة المزدوجة المستمرة هي التي تدفع عجلة التطور (الجنزير) وتضخ في رئات الدولة هواء نقيا وفي عروقها دما متجددا وفي عقلها المزيد من الأفكار المتنافسة التي تصنع التطور. بالمقابل نجد السودان يعاني من حالة الإمساك السياسي المزمن المتجسد في هذا الثالوث كأحد أبرز أسباب الانسداد المانع لآلية تداول الحكم وكمصدر لانبعاث الأزمات.. إمساك سياسي مزمن يحول دون تقدم البلاد ويجعل السودان يركس في الأوبئة السياسية والفقر والتجهيل والحروب، وهو البلد الغني بمصادره وكفاءاته البشرية.. ولابد من علاج لتحريك الحالة!!.

 

وإذا كان الفرد المتسلط المسيطر داخل الجماعة أو الحكومة أو الحزب لا يعتمد الآلية الديموقراطية في داخل التكوين، فهو بالتأكيد لن ينادي باعتماد الديموقراطية كمنهاج للإدارة على المستوى الوطني الشامل، بل يقف ضدها نفس الموقف المتصلب العدواني. فمن غريب ما قادنا إليه السياق أن الزعامات المتسلطة على هذه التكوينات في السودان يعاضد بعضها بعضا في وجه التيارات والتكوينات المؤمنة بالآلية الديموقراطية. وتذهب هذه الزعامات إلى آخر الشوط عندما تستعين بالعسكريين لقطع الطريق أمام الحركة الديموقراطية. لذلك تظل زعامات الأحزاب الطائفية والعقائدية صاحب القدح المعلى في قطع الطرق أمام الديموقراطية سواء في داخل تكويناتها وحكوماتها أو على مستوى الشارع العام. ونستطيع أن نستوثق من ذلك من حالات الانقسامات اللانهائية داخل الأحزاب الطائفية والعقائدية والجماعات المسلحة، والأمثلة كثيرة مثل انشطارات حزبي الأمة والاتحادي الديموقراطي وانقسام الحكومة الشمولية الراهنة إلى وطني وشعبي، ثم الجماعات الدارفورية التي تشظّت إلى عشرات الجماعات. كل هذه الانقسامات دليل أكيد على غياب الآلية الديموقراطية. والأسوأ من الانقسامات أن قطع الطريق أمام التيارات الديموقراطية خلق حالة الاحتقان السياسي الاجتماعي حيث نجد اليوم غالبية الشعب السوداني خارج أطر هذه التكوينات والحكومات ولا يدينون بالولاء لهذه الزعامات (لاحظ الملايين التي خرجت في الخرطوم لاستقبال جون قرنق ثم اختفت كأنما بلعتها الأرض).. هؤلاء هم المهموشون حقا!. فالتهميش الفعلي حسب تقديري هو "وضع فئة اجتماعية مؤثرة في منطقة عدم الفاعلية السياسية" دون أن يرتبط ذلك بإقليم معين. فهو في هذه الحالة "تهميش سياسي" مثلما كانت عليه أوضاع الزنوج في أميريكا برغم انتشارهم في كل الولايات. أما ما يطلق عليه المناطق المهمشة في السودان فلا يعدو كونه "تهميش أو إهمال اقتصادي اجتماعي" زجّت فيه كل مجتمعات وأقاليم السودان دون تفضيل في درجة السوء!. وبالتالي فإن التهميش أو الاهمال الاقتصادي الاجتماعي هو ناتج للتهميش السياسي. وعندما أنزّل هذه الفكرة على الواقع السوداني أجد أن المهمشين فعلا في السودان هم غالبية الشعب في مختلف أقاليمه بنخبه وكفاءاته باعتبار أن غالبية الشعب يقع خارج دائرة الفاعلية السياسية. وعندما يصبح الشعب فاعلا تعود الكفاءات والخبرات إلى حيز الفاعلية فتعمل على رفع الإهمال (التهميش) التنموي الاقتصادي الاجتماعي عن أطراف ومدن السودان. النخب والكفاءات السودانية مهمشة بعقابيل تسلط زعامات التكوينات والحكومات الشمولية التي تقوم على تقديم الولاء على الكفاءة، ومهمشون أيضا بفعل أيديهم لأنهم ظلوا في حالة بيات في انتظار أن تقدم لهم الحكومات دورهم على طبق من ذهب أو غير ذهب!. المهم أن وضع غالبية الشعب خارج دائرة الفاعلية السياسية يقع ضمن الأدلة المادية على تسلط الفرد وتغييب الديموقراطية داخل التكوينات في السودان. وبدلا أن تكون تكوينات السودان أداة ديموقراطية مناهضة للشمولية، أصبحت هي نفسها تكوينات شمولية يسيطر عليها الفرد!!.

 

كما وجدنا من السياق أن التكوينات الشمولية لا تحارب بعضها إلا بسبب غنيمة استأثرت بها إحداها دون الأخريات مثل الصراع الدائر اليوم بين حكومة الخرطوم وبين رؤوس الجماعات الدارفورية، وهو صراع يطابق تماما الصراع الموازي بين زعامات التكوينات (الأحزاب) الطائفية والعقائدية وبين حكومة الخرطوم برغم اختلاف الأدوات. وغني عن القول أن الصراع سوف يضع أوزاره بمجرد التوصل إلى اتفاق توزيع الغنيمة التي تستملكها الحكومة الراهنة بالقوة ألا وهي ثروة البلاد وسلطة شعبها... ومرة أخرى يبقى الشعب كله على حالة التهميش السياسي وخارج القسمة حتى إشعار آخر رغم أنف اتفاقيات نيفاشا ورغم أنف الحركة الشعبية التي راهنت عليها المجتمعات السودانية وخسرت المجتمعات الرهان لحد الآن.

 

وإذا ظن البعض أن زعامات التكوينات الطائفية والعقائدية تنادي اليوم بالديموقراطية، فما ذلك إلا استخدام لكلمة الديموقراطية وليس مدلولاتها كأداة ضمن أدوات الصراع مع الحكومة الراهنة. فالصادق المهدي ينادي بالديموقراطية من أجل أن يحكم هو. فهناك أكوام من الأدلة دمغت كل تاريخ الصادق المهدي تبرهن على نزعته في الحكم. من ذلك إجبار أحد نواب حزبه على الاستقالة (بشرى حامد) لكي يحل الصادق مكانه في البرلمان، أو انتظار الحزب حتى يبلغ الصادق الحلم السياسي ليكون رئيسا للوزراء. هل كان كل ذلك لأن الصادق هو فريد عصره وعبقري زمانه؟ أو لأنه أفضل من السياسي العريق محمد أحمد محجوب الذي أطاحه انقلاب برلماني لكي يركب الصادق مكانه؟. بالتأكيد لا هذا ولا ذاك، فقط لأن الصادق هو سليل هذه الأسرة التي تمتلك الحزب والطائفة والأتباع. وعندما قال الصادق المهدي وهو يغرر بالبسطاء من أتباعه "هجمت عليّ المهدية" فإنه يعني أنه مهدي هذا الزمان وعلى الأتباع أن يقدموا له فروض الولاء والطاعة زعيما للطائفة ورئيسا أزليا لحزب الأمة. كل الوسائل مبررة من أجل نزوة الحكم والتسلطن الفردي بما في ذلك افتراء الكذب على الله. ولم يتورع الصادق عن المجاهرة بنزعته الفردية المتسلطة عندما قال صراحة أنه الحزب والحزب هو. وكذلك الحال بالنسبة لمحمد عثمان الميرغني يستويان.

 

والأمر لا يختلف قيد أنملة عند حسن الترابي الذي ركب أكثر من مظاهرة ومصاهرة ودبابة وملالة من أجل أن يجلس على رأس السودان فردا متسلطا. فقد تحالف مع الحكومة العسكرية الثانية وحاول الانقلاب على رئيسها وفشل. ثم انقض على الحالة الحزبية بعساكره فكان انقلاب الحكومة العسكرية الثالثة الراهنة، ثم حاول الجلوس على كرسي رئاستها حتى نغزه العسكريون. في ذلك الوقت لم يطرف لحسن الترابي جفن على الحالة الحزبية المسماة بالديموقراطية، لكن بعد أن أقصاه عساكره، ها هو اليوم يتباكى على الديموقراطية التي وأدها بيده. ينتحب الترابي على الديموقراطية لمجرد النكاية في عساكره الذين باعدوا بينه وبين حلمه القديم لعله قد يحققه من منفذ آخر. هو هو نفسه حسن الترابي الذي أسس اليوم لمآربه الذاتية حزبا سماه المؤتمر (الشعبي؟) وطفق ينادي في البرية بتطبيق الشورى والعدل والحرية للأحزاب والمواطنين والحكم اللامركزي وإيقاف تعطيل الصحف وحجز الصحفيين وانتخاب الولاة وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق مبدأ المساءلة وينتقد الفساد (العلني) ويدعو لتنمية الإنسان من صحة وتعليم ومياه صالحة للشرب... وفعلا الإختشوا ماتوا. الكل يعرف أن حسن الترابي هو عرّاب الانقلابات العسكرية والبرلمانية وطرد النواب وقمع الشورى ومحق الحريات والعدل، وهو الذي حول الأحزاب، على عللها، إلى توالي وأوقف الصحف وشرّد واعتقل الصحافيين وحكم علبهم بالإعدام وصادق على تنفيذ الحكم قبل صدوره، وهو أول من ضرب أسس العدالة الاجتماعية وألغى مبدأ المساءلة على الفساد العلني والباطن، وهو القائل بتوظيف معاقل الجهل حيث حاول السطو على معاقل حزب الأمة.. وعندما (دخل الكلام الحوش) قيض الله له من جنسه (الصادق) ما أبعده عن تزعم الأنصار. وهو حسن الترابي الذي ابتدع "قوائم الحظر السرية" التي تضم غالبية الكفاءات الوطنية من أطباء ومدرسين وعمال ومهنيين وموظفين وتحظر عليهم إلى اليوم المشاركة في العمل العام أو الأداء المهني (قوائم الإعلاميين والصحافيين بطرف أمين حسن عمر الضابط المسؤول عن ذلك.. وسوف نعود لتبيان ذلك في سياق مختلف). ثم يأتي حسن الترابي لينادي بالديموقراطية واقامة العدل والشورى والعدالة الاجتماعية!. ولعلني أتساءل عمّن يصدق مزاعم حسن الترابي إلا من سفه نفسه وكان غرا تفيها. مناداة الترابي بالديموقراطية والعدل تعيد إلى الذاكرة نشيد المدرسة الأولية الذي يروي حكاية الثعلب الذي خرج يعظ. النشيد يحذر الناس على طريقة كليلة ودمنة من مثل هؤلاء الوعاظ. لا أحفظ كل الأبيات، لكن أذكر منها: ( برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا .. ومشى في الأرض يهدي ويسب الماكرينا .. ويقول الحمد لله إله العالمينا. ويمضي النشيد إلى أن ينتهي بمقطع: مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا !!). وحتى يتذكر الترابي وغيره أن الشعب غير مصاب بفقدان ذاكرة، أعتقد أنه جدير أن ينشد عليه الناس هذا النشيد في كل ندواته. وبمناسبة النشيد، أظن على دعاة الديموقراطية توظيف مثل هذه الأناشيد والأهازيج الوطنية ضمن الوسائل السلمية للمناداة بالديموقراطية، وأيضا لإرباك زعامات الشمولية في ندواتهم وخطبهم السياسية. ومن الضروري أن يعود الشعراء والموسيقيون إلى الأهزوجة الوطنية التي كادت أن تندثر، فقد كان منكم خليل فرح قائد ثورة التحرير وحاديها بلا منازع.

 

وهكذا بعد نصف قرن من التسلطن الفردي يعود هذا الثالوث (الصادق، الترابي، الميرغني) لينادي بالديموقراطية دون أن تهتز في وجوههم عضلة خجل واحدة!. وطبعا الغاية الواضحة لهذا الثالوث هي توظيف كلمة الديموقراطية كأداة ضمن أدوات التغرير بالشعب ومساومة الحكومة الشمولية الراهنة في حصة من ثروة الشعب وسلطته المأخوذة عنوة. والحال لا يختلف عن توظيفهم الدين مطية نحو مآربهم الشخصية. لذلك يشترك هذا الثالوث في مسمى "الطائفية السياسية"

 

ضمن تناولنا لموضوع تسلط الفرد كنا قد اشترطنا في المحاضرة الأولى على جماعات دارفور أن تتحول إلى مؤسسات ديموقراطية سياسية عسكرية وطنية حتى تنضاف إلى الكل الوطني الذي يعمل على تشكيل مستقبل السودان من خلال آلية ديموقراطية صحيحة. الشرط ذاته ينطبق على الأحزاب الطائفية والعقائدية أن تقوم قواعدها، إن كانت لها قواعد سياسية، بعملية تحول ديموقراطي داخلي أهم قسماته الفصل بين الطائفية والعقائدية من جهة وبين الحزب السياسي من الجهة الأخرى. الفصل التام نعم لأن الطائفية والعقائدية تقوم على الولاء المطلق والطاعة التامة للزعيم، ثم من بعد موته ينتقل الولاء إلى من يرثه. والطاعة والولاء للفرد تتعارضان كلية مع الأسس التي يقوم عليها الحزب السياسي وهي البرنامج وحيوية الحوار وحق قواعد الحزب وقدرتها على استبدال القيادات وفق آلية ديموقراطية ينحني الجميع لنتائجها. وفي حال الفصل بين الحزب السياسي وبين الطائفية والعقائدية، بينهما برزخ لا يبغيان، نحصل على حزب سياسي له برنامج ويحتكم أعضاؤه إلى آلية ديموقراطية داخلية، ونحصل أيضا على طريقة طائفية وجماعة عقائدية نكن لاختيار مريديها كل الاحترام والتقدير طالما بقيت الطائفة بعيدا عن تعاطي السياسة، وطالما امتنع الترابي أو غيره عن توظيف الدين كأداة للسيطرة على البسطاء والشباب غير الناضج لتحقيق مآربهم السياسية الذاتية.

 

لكن المأزق ليس في المتبوع وحده، بل في التابع أيضا!. ففي حالة الحزب العقائدي الديني يتجسد الدين في نظر الأتباع في شخصية الزعيم، فلا يرون الدين إلا متجسدا في هيئته وملامحه الجسدية وصوته. فقد تمكن الزعيم من صهر الدين في نفسه فصار عند أتباعه هو الدين والدين هو. أي أن الزعيم تمكن من خلق نوع من الوحدانية الكافرة بينه وبين الدين. لذلك يصبح في حكم المستحيل على الأتباع فك الارتباط بين الزعيم وبين الدين، وبالتالي بين الزعيم وبين الحزب السياسي الذي يتزعمه. لذلك يتمسك به الاتباع زعيما لأرواحهم ورئيسا خالدا للحزب. وطبعا الزعيم من جهته لا يفرط بأي حال في هذا الانصهار لأنه إن تخلى عن التمظهر الديني يفقد كينونته كلها. أما في حالة الأحزاب الطائفية، فإذا افترضنا جدلا أن زعيم الطائفة قد أعلن عن تخليه عن زعامة الطائفة لمصلحة الحزب، فإن الأتباع سوف لن يتخلوا عن تبعيتهم وولائهم له، فيكرسونه شاء أم أبى في كرسي الزعامة الطائفية والعقائدية!. لذلك يبدو احتمال أن يقوم الأتباع بعملية فصل اختياري بين الطائفية وبين الحزب مثل باب وهمي يفتح على جدار. في كل الأحوال فإن زعيم الطائفة السياسية من ناحيته لن يتخلى عن الجمع بين الأختين، الحزب والطائفة، لأنه إن طلق الطائفة فقد الحزب وفقد المكانة والثروات التي استملكها، وإذا طلق الحزب فقد مطية الوصول إلى السلطة والثروة. لذلك يخرج الزعيم من مخدعه المزدوج ليعلن على الملأ (نحن عملنا انتخابات الحزب والناس عاوزه كده.. نقول ليهم لا ؟)!. وما تلك بيمينك يا هذا.. فالانتخابات التي تجريها الأحزاب الطائفية والعقائدية ما هي إلا انتخابات صورية داخل جماعة شمولية على غرار انتخابات أحزاب الحكومات الشمولية التي تفرز نتائج معروفة سلفا مثل إعادة انتخاب حسني مبارك في مصر وعمر حسن أحمد البشير في السودان والأسد أو نجله في سوريا أو إدريس ديبي في تشاد أو علي عبد الله صالح في اليمن. والحال لا يختلف بالنسبة للجماعات الدارفورية التي لا يجرؤ فيها الأتباع على زحزحة رأس الجماعة ومالكها، والتي لا تعدو كونها فسائل شمولية صغيرة ذات طموحات شمولية تنمو تحت شجرة الشمولية المركزية، فسائل غالبا ما تنزوي أو ربما تتطور تحت شموس الديموقراطية وآلياتها.

 

لقد كانت لكم في تجربة الزعيم التاريخي إسماعيل الأزهري خير برهان على مخاطر الجمع بين الحزب السياسي وبين الطائفية. ففي غمرة السباق المحموم بين الحزب الوطني الاتحادي وبين حزب الأمة نحو تسجيل غلبة برلمانية، قام الزعيم الأزهري بدمج حزب الشعب الديموقراطي (طائفة الختمية)، وقد كان حزبا صغيرا، في حزبه الوطني الاتحادي وقد كان حزبا كبيرا رائدا. كانت حسابات الأزهري، وهو بشر يخطئ ويصيب، أن إضافة نواب الشعب الديموقراطي إلى نواب الوطني الاتحادي كافية لتحقيق التفوق للحزب الهجين، الذي أصبح اسمه الحزب الاتحادي الديموقراطي، على غريمه حزب الأمة. لكن فات على الزعيم التاريخي أن عملية الضم تصاحبها أيضا عملية خروج معاكس!. وهذا ما حدث بالضبط. فقد خرج عن الحزب عشرات القيادات ومئات آلاف من المؤيدين. لماذا؟. لأن الحزب الوطني الاتحادي تحديدا كان أشد الأحزاب مناهضة للطائفية السياسية، بل أنه كان يحرز تفوقه البرلماني بتأييد من القاعدة الاجتماعية المناهضة للطائفية السياسية، مثلما كان يحظى بمساندة أولئك الذين تمتعوا بوعي مكنهم من التمييز بين التصويت للحزب وبين الانتماء الروحي للطائفة. لذلك كان من الطبيعي أن يحدث ذلك الخروج الجماعي لكوادر الوطني الاتحادي وقواعده الجماهيرية بمجرد اندماجه في حركة طائفية. ونتيجة لذلك لم يحرز الحزب الجديد التفوق البرلماني، بل حصل على عدد أقل من تلك المقاعد التي كان يحصل عليها الحزب الوطني الاتحادي منفردا!.. في علم السياسة واحد زائد واحد لا تساوي دائما اثنين.. فقد تساوي واحد وربما أقل..

كانت عملية الدمج أكبر خطأ وقع فيه الأزهري في كل تاريخه النضالي والوطني الناصع المبين. فقد أدت عملية الاندماج إلى تدمير أول وأكبر حزب وطني سوداني مبرأ من الطائفية. فقد كسب ذلك الحزب أول انتخابات وشكل منفردا أول حكومة وطنية بسبب مناهضته القوية للطائفية السياسية. ولم تقف سلبيات الاندماج عند حدود خروج الأعضاء والمؤيدين، يل خسر الحزب مئات آلاف من الأجيال الناشئة. فقبل عملية الاندماج لعب الأزهري نفسه وقيادات حزبه آنذاك دورا مهما في تحرير عقول الشباب من رهبة الطائفية وخزعبلاتها. وبخسارة الأجيال الناشئة خسر الحزب المستقبل فمات. كما نجم عن عملية الدمج انعكاسات خطيرة على المستوى السياسي الوطني في السودان بأسره عندما انغلق الأفق السياسي أمام ملايين السودانيين غير المؤمنين بالطائفية السياسية. فقد أحكم الحزبان الطائفيان قبضتيهما على الساحة السياسية في البلاد وأصبحا الخيارين المتاحين. فذهب الرافضون للطائفية أيدي سبأ بعضهم جهة اليسار تحت مظلة الحزب الشيوعي، والبعض جهة اليمين حيث تغذت بهم جبهة الميثاق الإسلامي حتى كبرت وأصبح اسمها الجبهة الإسلامية. وبقي البعض في الحزب على أمل أن يفيق الحزب من الغيبوبة الطائفية. أما الغالبية العظمى فقد بقوا خارج الأحزاب وشكلوا ذلك الاحتقان السياسي الذي وجد متنفسا في شعارات الانقلاب العسكري الثاني حتى فتك بهم وبالبلاد عسكر الانقلاب، ومن ثم استمر الاحتقان السياسي إلى يوم الناس هذا.

 

ليس في نقدنا لتجربة الزعيم الأزهري ما ينتقص من حنكته السياسية ونظافة يده. بل لقد كان الأزهري خير من يتقبل النقد ويستفيد منه في معترك السياسة. ولسوف يظل الأزهري ذلك السياسي الفذ الذي تمتع بموهبة غير عادية في علم المناورة السياسية وإلا لما استطاع أن يقود الكادحين الوطنيين ويجتاز بقارب الاستقلال تلك التيارات القوية كحزب وطني خالص للوطن بين صخور طائفتين تحظيان بدعم أجنبي قوي من كل من بريطانيا ومصر. لذلك فإن تلك الهزات التي تعرض لها الحزب بعد الاندماج ترجح عندي فرضية خروج الأزهري عن الاندماج وإعادة بناء الحزب الوطني الاتحادي لولا أن عاجلته المنية. وتشاء أقدار السودان العجيبة أن يقع انقلاب الحكومة العسكرية الثانية في ذلك المفصل التاريخي. فقد كان لرحيل الأزهري أثره الواضح في استمرارية الحكم العسكري الثاني لأن الجماهير فقدت أبرز قادتها، وفي موازاة ذلك لعب استمرار العسكر 16 عاما دورا مهما في القضاء التام على ذلك الحزب الوطني، ومن ثم حدوث الفراغ السياسي المستمر إلى اليوم. وبذلك انفتح الطريق أمام سطوة الحزبين الطائفيين وبروز الحزب العقائدي الجبهة السياسية الإسلامية، ومن ثم ماجت البلاد في دوامة الانقلابات العسكرية والبرلمانية.. فكأنما رحيل الأزهري يتماهى بصورة أو أخرى مع رحيل تراهقا بعد هزيمة جيوشه وتقهقره جنوبا ثم موته الفاجع.

 

... موت زعيم وطني تاريخي (الأزهري) وتدمير الحزب الوطني الوحيد وحدوث انقلاب عسكري واستحكام الطائفية والعقائدية السياسية وحدوث فراغ سياسي هائل، كلها متغيرات خطيرة حدثت وتداخلت خلال فترة زمنية قصيرة.. هل ترى كانت تلك مجرد محض صدف أن تتزامن كل تلك الأحداث الجسام في وقت واحد؟. أنا شخصيا لا أؤمن بالصدفة المركبة خاصة في المجال السياسي لأن النتيجة الفاضحة هي خروج السودان عن سكة المستقبل حتى يومنا هذا.. فمن المستفيد إذن؟. لا جدال أن الطائفية والعقائدية هي المستفيد الأكبر بدليل أنها أحكمت قبضتها على البلاد منذ تلك الحقبة، منذ أن تحالفت داخل الجمعية التأسيسية وطردت نواب الحزب الشيوعي. ومن المهم جدا أن نعرف أن عددية عضوية الحزب الشيوعي لم تكن تكفي لتبليغ نائب واحد عتبة البرلمان حتى لو أضفنا إليها الذين كانوا يؤيدون برنامج الحزب. وعليه فإن غالبية الخريجين الذين صوتوا لنواب الحزب الشيوعي كانوا بالتأكيد خارج عضوية الحزب الشيوعي السوداني. لقد أدرك الخريجون بحسهم الوطني وتفاعلهم داخل الحركة السياسية آنذاك أنه لابد من كسر حدة سيطرة أحزاب الطوائف على البرلمان برموز وطنية. لذلك لم يتم طرد النواب لأنهم نواب عن الحزب الشيوعي، بل لأنهم كانوا رموزا وطنية تمثل تيارات وطنية عريضة غير شيوعية لكنها مناهضة للطائفية والعقائدية السياسية. ومنذ ذلك الوقت عمدت الزعامات الطائفية والعقائدية إلى تصفية الكفاءات والكوادر الوطنية (الخريجين).. بيدها وبأيدي حكوماتها العسكرية.. عن طريق الإرشاد والوشاية (راجع تحليلي قبل الأخير تحت عنوان زمن الصديد).

 

على أن قرار الاندماج في حد ذاته يدل أن الحزب الوطني الاتحادي لم يبتعد كثيرا عن أحد محاور هذا السياق ألا وهو مأزق قبضة الرجل الواحد حتى لو كان هذا الرجل هو إسماعيل الأزهري بكل قامته النضالية الفارعة. ولا ريب أن زعامات الحزب الوطني الاتحادي آنذاك تتحمل قدرا عظيما من مسؤولية فناء الحزب إذا علمنا أن إسماعيل الأزهري كان أكثر السياسيين خضوعا للآلية الديموقراطية. وحتى قرارات تنحية عدد من قيادات الحزب التي أصدرها الأزهري تحت عنوان جملته الشهيرة "إلى من يهمهم الأمر سلام" فقد تمت بموافقة الجناح الغالب من قيادات الحزب الوطني الاتحادي التي قبلت الاندماج. فقد كان في مقدور تلك القيادات وقف عملية الدمج حتى لو اقتضى الأمر تكريم الأزهري عن الأداء المباشر والمحافظة عليه كرمز وطني للسودان وللحزب. لكنهم استهانوا بمقدرة الطائفية على الالتفاف والاحتواء والسيطرة تماما مثلما استهان الأشراف بدهاء الخليفة عبد الله التعايشي فدارت عليهم الدائرة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. المهم أن المحصلة النهائية أن الحزب الطائفي الصغير (الشعب الديموقراطي) التهم الحزب الكبير (الوطني الاتحادي) وتغذى به فأصبح لدينا الحزب الاتحادي الديموقراطي الموجود حتى يوم الناس هذا وعلى رأسه مكاوية الطائفية (راجع كتابي "الطريق إلى الدولة" دار جامعة الخرطوم للنشر والتوزيع). وإذا كانت تلك تجربة الأزهري مع الطائفية، فإن تجربة ما كان يعرف بالتجمع الوطني قرينة أخرى على خطر التغلغل الطائفي في الحركة السياسية والتيارات الوطنية السودانية. فقد استخدم زعماء الطوائف التيارات السياسية المعارضة كورق محارم ثم انفلتوا وأبرموا اتفاقات شخصية ومباشرة مع الحكومة الشمولية الراهنة. ورحم الله الشريف حسين الهندي الذي قال "احذروا سارقي الثورات..." وكان يعنيهم بدقة.

 

وطالما أننا رجعنا إلى التاريخ، فلنتعمق فيه قليلا فننظر فنرى الثائر محمد أحمد بن عبد الله (المهدي) ينجح في جمع السودانيين على كلمة سواء ويؤم واحدة من أكبر ثورات التحرير الوطني التي وضعت السودان في مصاف أول الأقطار التي انعتقت من ربقة الاستعمار التركي. مات محمد أحمد المهدي فقيرا ولم يترك وراءه إرثا من الأموال والأطيان والمشاريع الشاسعة ولا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. بل إن عبد الله التعايشي الذي خلف المهدي لم يكن من أهل بيته. كذلك كان محمد أحمد المهدي حربا على الطائفية حيث أنكر عليها الكثير من السلوك الضار الذي يفرّق ولا يجمع. لذلك من نافل القول أن محمد أحمد المهدي لم يترك وراءه طائفية دينية سياسية حتى يرثها عنه أحد أبنائه أو أحفاد أبنائه، بل ترك ميراثا ثوريا وطنيا يرثه كل أبناء وبنات السودان. إذن محمد أحمد (المهدي) ليست له أدنى صلة بطائفة الأنصار، ولو كان له أن يعود اليوم لأشهر سيفه في وجهها. وبرغم أن طائفة الأنصار قد تم تأسيسها إبان حقبة الاستعمار البريطاني (وليس البريطاني المصري) تحت زعامة عبد الرحمن المهدي، إلا أن ذلك لا يقدح في الدور الوطني الكبير الذي لعبه عبد الرحمن المهدي من أجل الاستقلال التام بصرف النظر عن دوافعه آنذاك. ونثمن عاليا مناهضة نجله الصّديق عبد الرحمن للحكم العسكري الأول، علما أن زعيم طائفة الختمية آنذاك علي الميرغني قد أعلن تأييده الصريح لحكومة إبراهيم عبود العسكرية. وفي موازاة طائفة الأنصار نجد أن طائفة الختمية قد حظيت بدورها بدعم كبير من المستعمر التركي ثم البريطاني. العلم هو ترياق الطائفية. لذلك حرص زعيما الطائفتين على إبقاء مناطق تمدد نفوذهما في غرب البلاد وشمالها وشرقها كمناطق مغلقة أمام حركة التعليم، بل أن زعيم طائفة الختمية منع أتباعه من إرسال بناتهم للمدارس التي فتحها الاستعمار!. وإذا كانت زعامة طائفة الأنصار قد استخدمت الأتباع في فلاحة مشاريعها الزراعية الشاسعة بلا أجر فقط مقابل وجباتهم الغذائية شديدة التواضع، فإن علي الميرغني زعيم طائفة الختمية آنذاك وظف موقعه الطائفي في استملاك الأراضي الزراعية الشاسعة خاصة في الشمال، والتي كانت مملوكة لمزارعين بسطاء توارثوها أبا عن جد منذ مئات السنين. لكن تحت الضغط الطائفي العنيف والماكر "الإرهاب الطائفي" انتزع زعيم الطائفة تلك الأراضي بشتى الأساليب وحول ملكياتها إلى اسمه الشخصي، وتحول أصحاب الأراضي إلى مجرد أجراء يعملون في نفس المزارع مقابل ما يسد الرمق وأحيانا لمجرد البركة!. من تلك الأساليب كما ورد في التراث الشعبي المتواتر عند الشايقية أن علي الميرغني كان يكفيه فقط أن يمشي بقدميه على أرض الجنينة التي تعجبه فتحرم على صاحبها فتؤول له ملكيتها رضي صاحبها أم أبى. الحيف يولد النكتة السياسية.. فقد نسج خيال المظلوم حكاية ذلك الرجل الذي حمل الزعيم وعبر به جنينته حتى لا يطأها الزعيم بقدمه!. وفوق ذلك درج فقراء المزارعين والرعاة على إرسال الأطنان من محاصيلهم الزراعية وأغنامهم إلى (الدائرة) مثلما يرسلون أولادهم وبناتهم للخدمة في الدائرة.. وذلك شيء من فيض.. ونظرة يا ابو هاشم.         

 

ومهما يكن فإننا نحمد لزعيمي الطائفتين خلال تلك الحقبة أنهما لم يجمعا بين زعامة الطائفة ورئاسة الحزب السياسي، واقتصر دوراهما على (رعاية) الحزب، عبد الرحمن المهدي راعي حزب الأمة، وعلي الميرغني راعي حزب الشعب الديموقراطي. كان الهدف من تلك المسافة التي جعلاها بينهما وبين الحزب هو حماية الموقع الروحي من التراشق السياسي. ومع ذلك لم يكونا في منأى عن مرمى التراشق سواء ضد بعضهما البعض أو بفضل تلك الحملات القوية التي قادها زعامات الحزب الوطني الاتحادي، والتي أحدثت تآكلا ملحوظا في رهبة الطائفية وفتحت الطريق أمام الأجيال الناشئة للانفلات من سطوتها. لكن خلف بعدهما خلف أضاعوا الحزب وأضاعوا المكانة الروحية للطائفة عندما جمعوا بين زعامة الطائفة وبين رئاسة الحزب. اليوم الصادق المهدي هو الإمام زعيم طائفة الأنصار ورئيس حزب الأمة، ومحمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية ورئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي منذ ما يقارب نصف قرن. وأول تأثير ضار للطائفية أن زعيم الطائفة أصبح رئيسا للحزب مدى الحياة تماما مثل زعامته للطائفة.

 

وفي مكان وزمان غير بعيد من ذلك أنشأ حسن الترابي تكوينه السياسي وجلس على رأسه منذ ستينات القرن الماضي. ولم يختلف حسن الترابي عن زعماء الطوائف لجهة توظيف الدين لخدمة المآرب السياسية والتطلعات الشخصية. وبعض ما يهمنا هنا أن هذا الثالوث يحكم سيطرة طويلة الأمد على مجموعته، وله القدرة على تحريك أفراد جماعته وهي مسلوبة الإرادة لتنفيذ أي عمل يريد. سنأخذ مثالا على ذلك اعتراف حسن الترابي بلسانه أنه قد أصدر أوامره للعسكريين بتنفيذ الانقلاب العسكري واغتصاب الحكم. لم يتورع الترابي في سبيل تحقيق مآربه عن دفع أتباعه إلى ارتكاب مغامرة عسكرية كبرى تريق الدماء وتهلك الحرث والنسل ولا يقرّها الدين. فالانقلاب العسكري في حد ذاته مغامرة في غاية الخطورة على الأرواح غالبا ما ترافقه أو تستتبعه مذابح وإراقة دماء بريئة وتدمير ممتلكات نجح الانقلاب أو فشل. زد على ذلك أن اغتصاب حرية الشعب وحقوقه بالسطو عليها بقوة السلاح تحت جنح الليل عمل مقبوح عند الله والناس. فالسطو المسلح على مصرف قد ينتهي إلى فقدان الودائع. أما السطو على السلطة بقوة السلاح فهو اغتصاب لكل أموال وثروات الشعب، وقبل الأموال استلاب حرية الشعب التي هي أرفع مكانة عند الله من الأموال وأقدس ما كرم به الله الإنسان، لذلك حرّم استلابها وحضّ على حرية العقل وإعماله. والسيطرة على حرية الناس بالقوة هي نوع من الاستعباد، وقد قالها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حينها (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟). مبلغ بغيتنا هنا أن تنفيذ مغامرة على هذه الدرجة من الخطورة (الانقلاب العسكري) تبرهن على مدى سيطرة الزعيم على حالة اللاوعي وعلى حركة الوعي عند أفراد مجموعته.. وتبرهن أن كل الوسائل والتبعات جائزة عند الزعيم طالما أنها تقربه من غايته بما في ذلك قتل النفس البريئة. وقد استهدف حسن الترابي بسطوته الروحية الشباب دون سن النضج الجسدي والسياسي فسهل عليه التقاطهم وبلشفتهم، منهم من انقلب عليه بعد أن كبر وعرف أسرار العرّاب، ومنهم من ألقى بهم الزعيم قبل تنضج عقولهم في أتون جهاده في الجنوب فأنضجت نار الحرب أجسادهم المتبرعمة، والتهمت النيران تطلعاتهم وآمال أسرهم.

((هو هو نفسه حسن الترابي عرّاب الجهاد بين الأخوين في الشمال والجنوب، وتلك أكوام رماد محرقته البشرية التي التهمت آلاف الشباب.. كانوا ذلك الأمل الذي كان يحجل تارة بين يدي الآباء والأمهات وتارة من خلفهم في أول يوم يذهبون فيه للمدارس.. وتعهدت الأسر غرساتها وإكسير مستقبلها بالرعاية والسقيا من أعذب ماء الحياة والعيون لبنا سائغا من بين فرت المعيشة الضنك ودم الأيادي المجروحة في الورش.. فما أن كبروا حتى برز لهم العراب، وجاء في الأثر أنه برز لهم ثلاث مرات مرة تلو جمرة.. فقاسمهم.. حتى سيطر على عقولهم اليافعة.. وقال للأهل أنا أدعو إلى السماء وأنا جار لكم ولا غالب لكم اليوم من الناس.. ثم امتدت يد العراب فحصدت الأبناء تمرا رطبا بعراجينه وقذف بهم في وجه إخوة لهم ولا الأبنوس.. وقال لهم وهو يبتسم ابتسامته تلك موتوا جميعا حتى نتدفأ بنار الجهاد ونحكي الأحاجي لفلذات أكبادنا.. وعندما حصدت أرواحهم أتون جهاده المزعوم، لم يبخل عليهم العراب بابتسامته وعطاياه، فوزع عليهم صكوك جنانه وزوجهم الحور العين.. وجاء في الأثر، لكن بعد أقصاه عساكره واستولوا على صولجانه وحرّقوا زرائبه، انقلب العرّاب على عقبيه فألغى أرصدة صكوك جناته وطلّق منهم حوره العين وبدّل القول وقال لم يكن ذلك جهادا. وجاء في الإصحاح أن العراب سار بين الجبل والسهل حتى بلغ نهر الدانوب وفاوض الحركة الشعبية سرا !.)). هذه الفقرة الأخيرة ترجمة من عندي، والترجمة هنا ليست من لغة إلى أخرى، بل ترجمة المعنى المعلوم إلى المعنى المقصود حتى تثبت الحقائق وتسير بها الركبان.

 

لقد عرف التاريخ الإنساني الكثير من الجماعات المغلقة التي يحكم فيها الزعيم سيطرته على وعي الجماعة ويستلب إرادتهم، ومن ثم يدفعهم لتنفيذ رغباته. من ذلك تلك الجماعات المغلقة التي سادت أوروبا في عصور الظلام، أو الجماعات الباطنية التي انتشرت في بلدان الشرق الأوسط والجزيرة العربية خلال بعض الحقب التاريخية. والجماعة تكون مغلقة من حيث بنيتها ولوائحها وأجندتها، لكن عملياتها تستهدف كل المجتمع. والجماعة المغلقة (أو العصابة) في تعريفها البسيط هي مجموعة من الأفراد يكونها شخص يتمتع بمقدرة على نزع إرادة أفراد المجموعة وإلغاء تفكيرهم والسيطرة عليهم بأساليب ووسائل مختلفة ترهيبا وترغيبا سواء كانت سيطرة روحية أو مادية أو مزدوجة أو بما يهدد حياة الفرد أو أسرته، وأحيانا عن طريق حاجة خاصة مثل المخدرات. والجماعات المغلقة لا تعرف ديموقراطية ولا يحزنون.. فالزعيم يظل على رأس مجموعته آمرا إلى أن يموت أو يطيحه انقلاب داخلي. وغالبا ما تحيط بالزعيم مجموعة صغيرة مقربة تكون يده وعينه في عملية إحكام السيطرة وفي متابعة تنفيذ العمليات. هذا النمط من الجماعات المغلقة أو العصابات لم يمّحي عن الوجود، فنجده يتجسد في حاضرنا في الجماعات التي تتصيد الشباب وتستخدمهم في عمليات دامية ضد الأبرياء والمدنيين باسم الدين. ونعرف أن معظم هذه الجماعات قد أسستها أجهزة المخابرات الدولية لضرب مصداقية حركات التحرير ووصم عملياتها العسكرية التحررية بالإرهاب، وأيضا لتشويه سمعة الدين الإسلامي وبالتالي سمعة المجتمعات في البلدان المسلمة وتخويف حكامها وتضليل الرأي العام الغربي تمهيدا للسيطرة على ثروات البلاد المستهدفة. من هذه الجماعات تنظيم القاعدة وغيره من المجموعات التي تعمل تحت هذا الاسم. ثم هناك عصابات المافيا التي بلغت شأوا من القوة فاستقطبت الرموز السياسية ونجوم المجتمع والسينما واخترقت أجهزة الشرطة وأصبحت لها روابط وحلقات تعاون مع الحكومات الأميريكية. وعلى نسق السيطرة الروحية فقد عرفت أوروبا في العصور الوسطى سيطرة رجال الكنيسة (وليس الدين المسيحي) على المجتمعات حيث استملك رجال الكنائس الإقطاعيات الزراعية وسخروا الناس في فلاحتها وقطف العنب وصناعة النبيذ بلا أجر فقط مقابل صكوك الغفران وبضع أمتار في الجنة، بينما يعود الريع الدنيوي لرجال الكنيسة!. هذه الظاهرة موجودة في السودان. وفي عصرنا هذا نجد بعض الجماعات المغلقة الطائفية والمذهبية والعقائدية وقد لبست ثوب الحزب السياسي مثلما هو حاصل في لبنان الذي مزقته الطائفية السياسية شر ممزق، وكذلك الحال في السودان، و يكفي الثالوث الطائفي الذي أشرنا إليه. وحتى لا يخلط هؤلاء أوراق هذا السياق، نزجي كل الاحترام لأصحاب الطرق الصوفية والمصلحين الاجتماعيين الذين كرسوا جهدهم في عمارة الخلاوي والمدارس ورفع الأمية وكبحوا النفس عن مغريات السلطان فلم يوظفوا رصيدهم الروحي لمآرب سياسية، بل كانوا يوظفون مكانتهم الاجتماعية لتخليص البسطاء من براثن الملوك والسلاطين الباطشين مثل بعض ملوك مملكة سنار.

 

طبعا لم تخرج أوروبا من عصور الظلام إلا بعد أن تحررت المجتمعات من سطوة رجال الكنائس دون أن يؤثر ذلك ولو تأثيرا طفيفا على حيوية الدين في المجتمعات الأوروبية، بل زادت من حيويته. لكن الجماعات المنغلقة المسيطرة باسم الدين في السودان والشرق الأوسط تأخذ بتلابيب إيمان البسطاء وتخويفهم بالقول أن أوروبا قد فصلت الدين عن الدولة. لا أدري من أي معجم أتوا بهذه الفرية إلا أن تكون من أجندتهم الباطنية أو تحريفهم لكلام الله يضاهئون به ما أحل الله من حرية الإنسان. هذا قول مردود على أصحابه من كل الأوجه. فالثورة الاجتماعية الأوروبية لم تفصل الدين عن الدولة، بل حررت المجتمعات من قبضة واستغلال رجال الكنائس. ولكي نفهم ذلك لابد أن نفهم أن الدين شيء ورجال الدين شيء آخر (إن كان هنالك شيء اسمه رجال الدين أصلا). بمعنى أنه لا توجد حالة انصهار بين الدين وبين رجل الدين، ولو كان الأمر كذلك لانقرض الدين مع موت أوائل رجال الدين. كما أن الدين لا ينتقل عبر الجينات الوراثية حتى ينتقل في سلالات الكهنوت من جيل إلى آخر، لذلك مات الناس وبقي الدين. بقي الدين لأن الإنسان المطلق هو المقصود برسالات الأديان السماوية كافة (يا بني آدم..) (ولقد كرمنا الإنسان..) (أيتها البرية..) لذلك تظل المجتمعات هي حامل الدين بين أجيالها. وعليه فإن تحرير المجتمعات الأوروبية من سطوة الكهنة هو أمر من صميم الدين، لذلك انطلق الدين وانطلقت العقول والحياة ودارت عجلة التطور فأنتجت لنا أوروبا المعاصرة. ثم أن الدين لم ينفصل عن حياة الإنسان الأوروبي، فالدين يتمظهر في كل جوانب حياته منذ تعميده بعد ميلاده إلى زفافه وموته وصلواته على المائدة وكنائسه وتراتيله وأجراسه التي تقرع وعطلاته الأسبوعية وأعياده ومناسباته الرسمية. والأمر المهم الذي عميت عنه بصائر زعامات الجماعات المنغلقة في السودان هو أن الإنسان الأوروبي هو الحكومة لأن الحكومة تأتي بإرادته واختياره، وبالتالي يكون الإنسان الأوروبي هو الدولة بكل ما يحتويه هذا الإنسان من تواشيح دينية وصلوات. أما زعامات الأحزاب الطائفية والعقائدية المسيطرة في السودان فقد فصلت المجتمع السوداني عن الحكومة لأنها كما أفضنا شرحا تقتنص الحكم خارج إرادة الشعب. وبما أن الشعب هو حامل الدين، فإن فصل الشعب عن الحكومة هو فصل الدين عن الدولة بعينه!. لست أنا، بل الواقع المعاش والتاريخ القريب هو الذي يقول ويؤكد أنهم فصلوا الشعب والدين واستأثروا بالسلطة والثروة. والمفارقة أنهم تمظهروا بالدين في عمليات السيطرة على الأتباع وبالتالي السيطرة على الحكم والبلاد وقد لبسوا ما يقتضيه ذلك من لبوس اللحى والجلاليب القصيرة والعمائم المعقوصة والأحزمة والمكاويات، وهي مجرد "أدوات" ليست من الدين في شيء، فما جعل الله من بحيرة ولا سائبة. ونلاحظ أن فرية فصل الدين عن الدولة تتماهى تماما مع فرية تقسيم الناس إلى علمانيين ودينيين. والمؤسف حقا أن النخب السودانية وقعت في هذه المصيدة أثناء فرارها من تهمة الانتماء إلى جماعات الدين السياسي. أيها الناس لا يوجد شيء اسمه علمانية ودينية، فما تلك إلا فرية افتراها المسيطرون على الناس باسم الدين لكي يصموا من يحاول الخروج عن سطوتهم وكأنه قد خرج عن دينه، وسأعود إلى تفصيل ذلك في سياق لاحق. ما يهمنا عند هذا المفصل هو أنه لن تكون هنالك من دولة في السودان قبل أن يختار الشعب الحكومات التي تضع أسس الدولة، وعندما يعود الشعب يعود معه الدين وتتأسس الدولة... فذلك ما نبغي، ولنعد بعد ذلك حُقُبا.    

 

من النماذج التي عرضنا يتأكد أن السودان ليس في مستعصم عن جميع هذه المآلات. بل إن السودان قد جمع بين سائر أصناف هذه الجماعات المنغلقة الطائفية منها والعقائدية والإقليمية والقبلية العنصرية. وبدون فرز نقول أن السودان جمع بين الجماعات الباطنية الدينية الشرق أوسطية وبين عصور الظلام التي سادت أوروبا. كما استوثقنا من خلال السياق أن الثالوث المذكور يرتكز أساسا على الطائفية والعقائدية في تسلطه الفردي على الجماعة، ومن ثم فرضوا هيمنة ذات ثلاث شعب على الحياة في السودان. إذن الطائفية والعقائدية هي قاعدة الأساس التحتية التي يقوم عليها تلسط الفرد الذي أدي إلى تغييب الديموقراطية وبالتالي تغييب آلية تداول إدارة البلاد ومن ثم أزمة الحكم. وطبعا بسبب أزمة الحكم تفشل الحكومات، ومن فشلها تتفاقم وتنتشر أوبئة الأزمات.

 

وتأسيسا على مجمل ما سبق نصل إلى أن الطائفية والعقائدية تصبح المصدر لكل ابتلاءات السودان بمجرد أن تقترن بالحياة السياسية. وعليه نصل أيضا إلى أن الطائفية والعقائدية السياسية هي المصدر الأساسي الذي تنبعث منه كل أزمات السودان السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك حرب دارفور والشرق وغلاء المعيشة الفاحش والحمى القلاعية والحمى النزفية والانقلابات العسكرية وكل ما يكابده المواطن السوداني من إحن ومحن. ولقد كانت الطائفية والعقائدية السياسية هي السبب المباشر في تفاقم أزمة الجنوب وفي المرارات العنصرية التي استشعرها الرعيل الأول من السياسيين الجنوبيين. ولسوف تظل الطائفية والعقائدية السياسية هي العقبة الكؤود التي تحول بين السودان وبين مستقبله. لقد دعوت في المحاضرة الأولى إلى حوار علمي. فمن له رأي مناقض حول الطائفية فما عليه إلا أن يلقي بحباله في هذه المساحة وفي يوم الزينة هذا.

 

خمّسوا وسدّسوا وجمعوا بين الأختين الحزب والطائفة والعقائدية الدينية. وعليه فإن شرع الوطن يقتضي فسخ زيجاتهم (مردودة)... وفسخ الزيجات الذي أقصده هو ما أشرت إليه من ضرورة الفصل بين سطوة الزعامات الطائفية والعقائدية وبين الحركة السياسية في البلاد، وليس فصل الدين عن الدولة كما سوف يزعمون، فالدولة لم تتبلور بعد في السودان، والشعب هو حامل الدين. وشرع الوطن الذي أعنيه هو ضمان العدالة الاجتماعية والسياسية وكفالة الحقوق المتساوية بين الناس، وحماية الحريات العامة والخاصة، وعدم أكل حقوق الناس بالباطل، وعدم تضليل البسطاء في إيمانهم ودفعهم للشرك بالله، وإشاعة الطمأنينة والعلم والمعرفة والصحة وإفشاء السلام وتطوير مصادر البلاد وتحقيق الوفرة، ومنع الأقوياء من أكل حقوق الضعفاء، وتطهير بؤر الفساد والمحسوبية، وإلحاق المجتمعات بروح العصر وأدواته. شرع الوطن إذن هو شرع الله الذي يبطل تقطيع أوصال البشر في أعوام الرمادة السياسية والاقتصادية والأخلاقية. ولا يمكن اقامة شرع الوطن وتطبيق القيم المذكورة إلا إذا حكم الناس أنفسهم بأنفسهم (يد الله مع الجماعة) والجماعة هي الشعب كله. ولن يتمكن الناس من حكم أنفسهم بأنفسهم إلا من خلال آلية ديموقراطية لتداول إدارة البلاد. فالديموقراطية هي وسيلة تطبيق الحرية، والحرية هي من أرفع القيم التي نادت بها الرسالات السماوية، بل تكاد أن تكون محور الرسالات السماوية قاطبة لأنها تمحق تسلط الطغاة والظلم وتؤسس للعدل وتسمو بالإنسان من الشرك وعبادة الفرد وتحرر عقله إلى أنوار الوحدانية حيث لا معبود إلا الله الواحد. والتوحيد هو أوسع فضاءات الحرية (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُِ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَِ *) سورة يوسف. ومن يزعم للمسلمين أن الديموقراطية ليست من أصل الدين الإسلامي فما عليه إلا أن يشادد الدين ويشادد عشرات الآيات الكريمة الواردة في محكم التنزيل التي تمنع تسلط الفرد والطغاة وتدعو إلى حرية الانسان وتحض على إعمال العقل. ولا جدال أن الديموقراطية هي النقيض المباشر لتسلط الفرد وجبروت الطغاة. الرسول المعصوم محمد بن عبد الله صلى الله عله وسلم هو إمام العدل الذي لا ينطق عن الهوى، وبرغم ذلك أمره الله بمشاورة الناس حتى نستلهم نحن الحكمة فلا نفتلي على أنفسنا ملكا جبارا يحكم بإرادته المنفردة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَِ) سورة آل عمران. فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، يكون على بقية البشر أن يحتكموا فقط إلى رأي أغلبية الشعب في البلد المعني لأن مبدأ الشورى (الديموقراطية) للكافة وليس للجماعة الخاصة. والاحتكام إلى رأي الأغلبية الغالبة في البلد المعني هي الديموقراطية بذاتها وصفاتها، ومن أكره الناس على غير الديموقراطية الشاملة فقد أكرههم على ما يخالف الدين الإسلامي والديانات السماوية كافة (لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) سورة البقرة. فإذا تدبرنا هذه الآية بالعقل نرى الإعجاز. فقد جمع الله في آية واحدة أولا عدم إكراه الناس حتى على الدين، وفي ذلك كفالة لأقصى حدود حرية الإنسان لأن منع إكراه الناس على الدين يمنع تلقائيا إكراه الناس على ما هو دون ذلك حتى لو حسنت النوايا. ثم تحكم الآية الكريمة بينونة الرشد من الغي مع ضرورة الكفر بالطاغوت ليبلغ الإنسان مرحلة الإيمان بالله، أي مرحلة التوحيد أي مرحلة الحرية الكاملة وتحرير العقل من أغلال الطاغوت. والطاغوت في اللغة هو جمع طواغ وطواغيت وتعني كل معتد أو كل رأس ضلال أو الشيطان الصارف عن طريق الخير أو كل معبود دون الله، أو الذي يسرف في الظلم والمعاصي. والثالوث الذي ذكرنا لا يخرج عن واحد من هذه المعاني لأنهم تسلطوا أفرادا وجعلوا الولاية والطاعة لهم من دون الله، ولا يجتمع الاعتقاد في الطاغوت والإيمان بالله في قلب واحد إلا وكان مشركا لم يتحرر من عبادة وعبودية الطاغوت. الديموقراطية والحرية إذن وبكل الأسانيد هي من أمر الله، لذلك عندما تتحقق الديموقراطية في السودان أو في أي مكان تتحرر العقول وتنطلق نحو الابداع والعمل وتجد الكفاءات الوطنية مكانها الطبيعي واللائق في تنمية المجتمعات ورفع التهميش الاقتصادي ومحو الجهل والضلالات فيحلّق الوطن في مجاله الحضاري... ويعود الدين نقيا من الهوس ومن عبادة الفرد ومن الطاعة في المعصية.

 

وعند هذا المفصل نضع أنفسنا مرة أخرى أمام معضلة فصل الحزب السياسي عن الطائفية والعقائدية. وحري بنا أن نكون قد أدركنا في خواتيم هذا السياق أن مستقبل السودان ظل ويظل يرتهن إلى هذا الفصل كخطوة واجبة الصيرورة نحو مستقبل تتحقق فيه طموحات الشعب كافة. بدون ذلك لا مستقبل للسودان. والآن أضحى هذا الفصل مسألة ملحة وعاجلة لأن الوضع الحزبي والسياسي الراهن يضع مستقبل السودان أمام احتمالين لا ثالث لهما:

ـ الاحتمال الأول زوال الحكومة الراهنة، وهو أمر محتوم بصورة أو أخرى فجائية أو درامية أو تلقائية. وفي حال أن جرت انتخابات فسوف تخوضها فقط الأحزاب الطائفية والعقائدية القائمة. والنتيجة الحتمية ستكون عودة السودان إلى نقطة ذلك اليوم الذي وقع فيه الانقلاب العسكري الثالث لأن الطائفية والعقائدية السياسية سوف تعتلي المسرح السياسي وتسيطر عليه بمعية حزب الحكومة الراهنة.. وهكذا يحكم الثالوث قبضته!.

ـ والاحتمال الثاني، وهو قيد التنفيذ، ويتجسد في صفقات الاتفاقات التي تنعقد أركانها بين الحكومة الراهنة وبين زعامات أحزاب الطوائف. الاتفاقات قطعت شوطا بعيدا، حيث تمت الصفقة بين الحكومة وبين الصادق المهدي، وقبل ذلك وضعت الصفقة لمساتها الأخيرة بين حكومة الخرطوم ومحمد عثمان الميرغني الذي قد يصل الخرطوم ربما قبل أن تكملوا قراءة هذا السياق. أما الاتفاق بين حكومة الخرطوم وبين حسن الترابي، وإن بدا للناس بعيدا فإنه قائم أصلا وقيد الصيرورة وسوف يتم الإعلان عنه في التوقيت المضروب بين الطرفين. طبيعة الاتفاقات بين حكومة الخرطوم وبين زعامات أحزاب الطوائف (الثالوث) ذات مرحلتين. مرحلة مشاركة في الحكومة الراهنة، ثم مرحلة التوافق على انتخابات يجري الإعداد لها بصورة تضمن تسلطن حزب الحكومة الراهنة بمعية الحزبين الطائفيين. في الأثناء يكون حزب المؤتمر (الشعبي؟) قد التحم مجددا بتوأمه السيامي المؤتمر الوطني. وبذلك تضمن الأحزاب الثلاثة سيطرتها، وتضمن إبقاء غالبية القوى الاجتماعية السودانية خارج دائرة الفاعلية السياسية.. ولا ضير من مقعد هنا وآخر لذاك من باقي الأحزاب الصغيرة كفّا للعيون والألسن.. وعندها تقول زعامات الطوائف للناس " اسكتوا.. هذه هي الديموقراطية التي تريدون"!.

 

وهنا يبرز بعض الأفراد الذين سموا أنفسهم جماعة جمع الصف الوطني. والصف الوطني عند هذه الجماعة هو الحكومة الراهنة والترابي والصادق والميرغني وبعض رؤوس الأحزاب الشمولية الصغيرة التي انسلخت عن أحزاب الطوائف!. وبديهي أن جمع هؤلاء هو تكريس لقبضة الشموليات والطوائف على عنق البلاد لتعصرها إلى حد الموت. أولا من الذي خوّل هذه الجماعة للعمل باسم الشعب السوداني؟. وثانيا واضح أن هذه الجماعة تبحث عن الصف الوطني في المكان الخطأ. فإن أرادت هذه الجماعة جمع الصف الوطني فعليها أن تبحث في منعرجات الوطن عن الصف الوطني الحقيقي الشعب السوداني المرمي خارج دائرة الفاعلية السياسية والذي بعثره ما يجمعون.. عليها أن تبحث مثلا عن الملايين التي اتخذت من وصول جون قرنق للخرطوم مناسبة مفتوحة للخروج والتعبير والبحث عن وطنها المفقود. بغير ذلك يكون من المناسب أن تجمع جماعة جمع الصف الوطني نفسها وترحل. 

 

أي واحد من الاحتمالين السابقين يكرس المأزق ويبقي السودان في قبضة الشموليات والطوائف. ومعظم بوابات الانفتاح نحو المستقبل تبدو مغلقة. فقد تأكد لنا أن الأتباع لا يملكون الجرأة على فصل الطائفية أو العقائدية عن الحزب السياسي. كما تأكدنا أن الزعامات هي آخر من يرغب في ذلك. لكن لابد من للسودان أن ينفلت نحو المستقبل مهما كانت الصعوبات. لذلك سوف نبحث في البدائل التالية:

 

ـ المخرج الأول هو أن يتضمن قانون الانتخابات بندا رئيسيا صريحا يمنع الجمع بين الحزب السياسي وبين الطائفية والعقائدية بحيث لا يحق لزعيم طائفة أو زعيم جماعة عقائدية أن يتولى رئاسة أو زعامة أو رعاية أو تكوين حزب سياسي وهو على رأس محفله الطائفي أو العقائدي. لكن تضمين مثل هذا البند في يد الحكومة الراهنة. وتضمين البند يتطلب أن تكون الحكومة على درجة عالية من التجرد بحيث تضع مستقبل السودان في أولوية تسبق نزوة الاستمرار في الحكم الجبري أو الاستمرار في الحكم بعد منافسة انتخابية مع أحزاب مهترئة. فهل ذلك قيد الامكان؟.. هنا أيضا يؤشر السهم نحو الحركة الشعبية لعلها تفعل شيئا..

 

ـ المخرج الثاني، كان من المؤمل أن تلعب الحركة الشعبية دورا أساسيا في عملية التحول الديموقراطي. لكن يبدو أن الحركة وقعت في فخ التفاصيل الذي نصبته لها الحكومة، فانكفأت الحركة الشعبية على مواضيع فرعية مثل موضوع أبيي وأهملت التحول الديموقراطي فخذلت الناس. وجدير بالحركة الشعبية أن تعلم أن التحول الديموقراطي آت لا محالة لأن الحكم الشمولي الذي تشارك فيه يظل حالة مؤقتة مهما طال عمره. وفي تقييمنا لموقف الحركة الشعبية لابد أن نتساءل عما إذا كانت الحركة راغبة فعلا في عملية التحول الديموقراطي، ثم مدى تأثيرات التحول الديموقراطي على الحركة الشعبية نفسها في الشمال والجنوب، أو التساؤل عما إذا كانت الشراكة الراهنة هي منتهى طموحات قيادات الحركة ؟!. مهما تكن الإجابات، فإن الحركة الشعبية تحجم حتى الآن عن أداء الدور المنتظر منها تجاه مسألة التحول الديموقراطي، دور فعلى وليس مجرد تصريحات مبهمة غير المقترنة بالفعل. هذا الإحجام قد سبب إحباطا ملحوظا على مستوى الشارع في الشمال وعقد الكثير من علامات الاستفهام على جباه التيارات السياسية في الجنوب. وإذا استمرت الحركة الشعبية في موقفها المبهم الغامض، فإنها بالتأكيد سوف تخسر رصيدها الشعبي في الشمال لأن الشمال يساندها أساسا من أجل التحول الديموقراطي لا غيره. وإن ظنت الحركة الشعبية أنها لا تحتاج لسند في الشمال فسوف تدرك الحركة ربما بعد فوات الأوان أن سندها في الشمال لا يقل عما تراهن عليه جنوبا. بل أستطيع أن أمضي إلى القول أن رصيد الحركة الشعبية في الجنوب لا يستطيع أن يقف لوحده في معزل عن الركيزة الوطنية الشاملة. وحتى لو هربت الحركة الشعبية نحو الانفصال بالجنوب، فلن تقوم لها قائمة حكم شمولي في جنوب تتعدد فيه الاثنيات بما يعرض الجنوب لحروب أهلية طاحنة لا ينقذ الجنوب منها إلا رصيده الديموقراطي وامتداده الديموغرافي في الشمال. الأوطان ليست مجرد كيكة يمكن قطعها بسكين استفتاء تقرير مصير.. وعلى الحركة الشعبية أن تقف كثيرا أمام كلمة "مصير". فالمصير لا ينتهي عند قرار الانفصال لأن الانفصال قد يقود إلى سوء المصير!. المصير يعني المستقبل، ومستقبل الجنوب كما كل السودان يقوم على الديموقراطية لا غيرها.. فأين تذهبون؟!.

 

ـ المخرج الثالث هو أن تتبلور التيارات ومنظمات العمل المدني والنقابات المؤمنة بالديموقراطية لتشكيل تكوين متحد (غير موحد) يربطها برنامج واسع سياجه الديموقراطية لخوض المعركة الانتخابية القادمة بدلا من فتافيت الأحزاب المنتشرة والتي لا تعدو كونها مجرد مقبّلات فتح شهية تلتهمها الأحزاب الطائفية قبل التهام الوطن كوجبة دسمة. ومهما كانت المخارج الأخرى، فإن بلورة مثل هذا التكوين أمر لابد منه لأنه يمهد إلى نشوء حزب وطني يسد الفراغ السياسي الهائل المستمر منذ أربعة عقود. لكن تظل النزعات الفردية هي المعضلة التي تحول دون نشوء أو تبلور مثل هذا التكوين. والعقلية التي تريد أن تتزعم وتتسيد هي صنو للطائفية وليست من الديموقراطية في شيء وعدمها خير من وجودها وسط من يؤمنون بالديموقراطية.

في كل الأحوال لابد من بداية لبلورة القوى الديموقراطية. والبداية التي أتصورها ذات نصفين متكاملين. نصف تقوم به المجتمعات السودانية خارج السودان، حيث يقع العبء على النخب والرموز الاجتماعية والأقلام في تشكيل المجتمعات المهاجرة كقوة اجتماعية ضاغطة لا يستهان بفاعليتها إن هي اجتمعت. وفي قيد الامكان أن تتبلور القوى الخارجية حول مطالب حقوقية مثل الإلغاء التام لكل أشكال الرسوم وإلغاء الضرائب على كل الأمتعة وإلغاء فتح وتفتيش الحقائب والمسافرين وإلغاء تأشيرات الدخول والخروج وإلغاء حالة الرعب الأمني التي يستشعرها المسافرون في مطارات السودان، إلى غير ذلك. والشق الآخر منوط بالمجتمعات داخل السودان، حيث يقع على عاتق الرموز الاجتماعية مسؤولية بلورة التيارات الوطنية الديموقراطية في الداخل. من الخطأ بمكان أن ينحشر الناس في برنامج سياسي وحيد، إذ يكفي أن تكون الديموقراطية هي الوعاء الشامل تحت عنوان عريض مثل (التجمع من أجل الجمهورية الديموقراطية) أو غيره. فالأحزاب الديموقراطية الأوروبية عبارة عن تجمعات لمجموعة من التيارات يجمعها هدف عريض مشترك، فتعدد التيارات هو ثروتها ومصدر قوتها لأن كل وجهة نظر تعتبر إضافة مكملة لوجهات النظر الأخرى وليست ضدها. وبغير التعدد الداخلي تصبح الأحزاب مجرد أحزاب شمولية تقوم على فكرة وحيدة ويتحكم فيها فرد واحد على غرار أحزاب السودان الطائفية.

 

أعلم أن تجميع القوى الديموقراطية ليست بالأمر الهيّن ولسوف تواجهه العقبات والعراقيل خاصة أن أحزاب الطوائف قد أتقنت حرفة تشتيت القوى الديموقراطية سواء بالمغريات أو الوحيد. لكن تجميع القوى الديموقراطية الوطنية أضحى الوسيلة الوحيدة لانتزاع السودان من قبضة الثالوث وأحزاب الطوائف والشموليات العسكرية والمدنية المعسكرة. وبغير ذلك لا يلومّن أحد إلا نفسه. فيا أيتها النخب والأقلام السودانية قد ولّى زمن الكتابة وحان زمان الفعل.. من زمان!. وفي تصوري أن مواقع الانترنت، مثل هذا الموقع، وعناوين البريد الالكتروني تشكل قنوات اتصال وتنسيق بين السودانيين في الخارج والداخل وتلعب دورا هاما في بلورة وتجميع القوى الوطنية الديموقراطية.

 

تلك هي قضية السودان المحورية التي ينبغي معالجتها قبل البحث في معالجة أزمات السودان الأخرى مثل قضية دارفور. فقد تأكدنا أن كل أزمات السودان تتوالد وتنتشر من هذه البؤرة. على أن ذلك لا يمنعني من الاستمرار في تشريح المحاور المجلية والإقليمية والدولية المنعقدة فوق سماء دارفور والمتشابكة على أرضها.

 

ونواصل

 

سالم أحمد سالم

باريس

21 يناير 2008

(في حال الاقتباس يرجى الإشارة إلى المصدر)


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج