سـودري مدينتي …( 1 )
قصة قصيرة
بقلم / ايليــا أرومــي كوكــو
أنها مدينة قديمة تقع في الطرف الجنوب الغربي للصحراء الكبري .. و محلية سودي مترامية الاطراف ، و للذين يقولون بأن مساحة دارفور تساوي مساحة فرنسا .. أقول بأن دولة سويسرا ستذهب شمار في مرقه ان وضعت علي خارطة محلية سودري .. فمحلية سودري واحدة من محليات ولاية شمال كردفان ، و أديم أرضها مغطاة بكثبان الرمال الذهبية في أشهر الشتاء و الصيف .. و في فصل الخريف تتشح سودري بالاخضر الزرعي لتداري بعض سحر بريق تبرها تواضعاً لله … في تضاريسها بعض الجبال التي طالتها الزحف الصحراوي لتجعل منها الجبال الرميلة .. بها امارات عدة بعدد قبائلها الكثيرة من كبابيش و كاجا و كتول و كواهله و يوجد بها ايضاً امارة الجبال البحرية .. أما الجبال فقد شاهدتها و لكنني أعثر أي بحيرة او رهد عدا تردة أم بادر الفاتنة الجميلة .. و من يدري فرمال سودري التي تغطي سطوح الجبال قادرة علي دفن البحار و الانهار .. فقط نتمني ان لا يمد الزحف يده الي وادي الملك و وادي هور و ان لا يمس بطرف اصبعه بحيرة أم بادر الموسمية... يتباهي أهل مدينة سودري بأن مدينتهم تأسست منذ العام 1917م .. و ها انا اتطوعي بتذكيرهم للاستعداد للاحتفالات باليوبيل الذهبي لمدينتا العريق .. فيوبيل سودري يقع علي مرمي أقل من عشر سنوات من الان ....
السفر الي سودري من الابيض او من أم درمان و دنقلا او من الفاشر .. السفر الي سودري او منها شاق و متعب و لا استطيع وصفه بأنه قطعة من جهنم .. فالطرق اليها من المدن الرئيسية سالفة الذكر وعرة يبسط عليها طغيان القيزان يد سيطرتها الكاملة .. أما عن الطرق الداخلية لمدينة سودري فحدث و لا حرج فبالرغم من الوحل الذي ينهك طاقات البشر و العربات .. لم يتم ردم شبر واحد من الطريق الرئيسي الذي يربط سوق المدينة برئاسة المحلية و الدور الحكومية ..
أن الجفاف الذي ضرب أرض السودان و شرق افريقيا بقساوة في العام 1984م .. كان اكثر قساوة و رعونة مع سودري التي كانت في الاصل شبه صحراوية يغنيها الفيها من طبيعة قاسية جدباء .. أبت نفس جفاف سنة 84 م الا ان يأتي علي اليابس و الاخضر ان وجد خراباً و تدميراً للطبيعة التي كانت تقاوم لتبقي .. اقتلعت العواصف الصحراوية الهوجاء الشجيرات من جذوره لتجعل سافلها عاليها و عاليها سافلها … نفقت الانعام من الماشية و الابل و الماعز و الضأن و مات البشر ايضاً .. جفت ينابيع المياه في الابار الجوفية و السطحية أن وجدت علي قلتها و أتي القحط و الجوعي و الفقر و العوز علي كل شي .. و من وقتها عرف البشر من أهالي تلك البقاع الامنة معاني الاغتراب و الهجرة و النزوح .. اتجه بعض القوم شمالاً و استوطنوا علي مشارف تخوم أم درمان و قد سميت تلك الاماكن فيما بعد بمعسكرات النزوح بكل من المويلح والشيخ ابوزيد .. و اختار أخرين منهم البقاء في كردفان فسكنوا عند مداخل مدينة الابيض الشمالية الغربية .. و أخرين فضلوا الرحيل الي أقصي الشمال فأحتضنتهم مدينة دنقلا و بعض مدن الولايات الشمالية ... اما المقتدرين من الرجال و الشباب فقد اغتربوا الي ليبيا و السعوديه .. و هناك هاجر الي في أرض الله الواسعة الي ما وراء البحار . لم يسلم من الجفاف تلك الاعوم حتي الأيائل التي تستوطن الصحاري النائة فالغزلان البرية ايضاً رحلت و الصقور الصحراوية هاجرت و اختارت هي الاخري البعاد .. و بذلك هجر الصيادين المحليين و هواة الصيد الذين كانوا يأتون الي السودان من دول الخليج هواياتهم و كفوا عن مواسم السياحة الي سودري ..
جاء الجفاف و ضرب ولايات السودان الشمالية متزامناً مع الحرب الذي اشتعل قبله بعام واحد في ولايات السودان الجنوبية .. و قد فتحت الحرب و الجفاف معاً ابواب السودان واسعاً علي مصرعية لكل دول العالم كي لتلج و تخوض في الشأن السوداني الداخلي .. و ارتهن القرار السوداني بالمعونات و الاغاثات و بعض المأرب .. و عرف السودانيين التوكل و التسول و مد اليد الي الاخرين طلباً للعون و انتظاراً لأخذ الهبات و الاغاثات التي أهانت كرامة الانسان السوداني ..
و من وقتها و سودري لم تعد الي عافيتها الاولي .. فالازمات الطبيعية من الكوارث ظلت تتوالي عليها عاماً بعد عام ... ارتبطت اسم سودري بالجفاف و شح الامطار و العطش و ندرة المياه لاكثر من ربع قرن .. ففي الخمسة و عشرون عاماً الماضية كانت سودري صامدة بقوة و صلابة ارادة في وجه الجفاف .. و كانت عزيمة سودري تتجدد كأجنحة النسر العنيد الجبار الذي يسبح ضد الجاذبية الارضية في عنان السماء .. و استحقت سودري بعد سنين القحط ان تغتسل بمياه الامطار الغزيرة التي هطلت عليها بالبركات في خريف العام 2007م .. هطلت الامطار علي محلية سودري كما لم تهطل من قبل فأرتوت الصحاري و شبعت القيزان ماءاً .. فأن جاء الخير الي سودري متأخراً فسودري ترحب به و تفتح له زراعيها و تفرش له أرضها .. و الشجيرات التي انتحرت يوماً انتحاراً جماعياً ستعود لتنبت من جديد في كل الوديان .. و ستعلن الارض اليباب أزمنة للتصالح مع زرقة السماء التي تبشرها بالسحب و الغيوم المشبعة بالمياه و الامطار ..
عاشت سودري المدينة و كل ريفها من قري و فرقان بوادي في طيلة السنين الماضية تحت نير العطش و الظمي .. فالمدينة يأتيها المياه من مسافة تبعد عن مركزها ما يقارب العشرين كيلو متراً .. و الماء المجلوب الي سودري من دونكي المراحيك يصلها عن طريق تناكر المياه التجارية او تلك التي تستثمر فيها بعض المؤسسات الحكومية .. و بفضل تلك الابار التي حفرت حديثاً في ام مراحيك تجاوزت سودري مرحلة ندرة المياه .. و لكنها لا تزال تعاني غلائها فبرميل الماء في سودري بنحو خمسه جنيهات .. و هذا المبلع رقم كبير جداً لمدينه تعد من افقر مدن السودان بحسب تقديراتي الشخصية ..أن برميل الماء ابو الخمسه جنيهات غير مقدور عليه من قبل المواطن الفقير في سودري .. و اذكر ان الخط الناقل لمياه سودري تم مسحه في العام 1994م بتكلفة قدرها عشرون مليون جنيه سوداني ان لم تخونني ذاكرتي الضعيفة .. و استمرت وعود الحكام و الولاء و كل زوار سودري من الرسميين تتوالي .. و حتي المنظمات الوطنية و الاجنبية ظلوا يعدون الواطنيين بالحل الجذري الشامل لمشكلة المياه .. و لكنها كلها وعود سياسية لا تساوي قيمتها تلك الخطب الرنانة التي يتفوه بها المسئولين بمناسبة و بدونها .. ففي خريف العام 2006م سمعت من فم احد المسئولين عن محلية سودري يبشر المواطنين الغلابة بأن الشيك الخاص بمياه سودري جاهز للصرف .. و ان المبلغ قد تم ايداعه في البنك و أنقضي الخريف الاول و و لا حس و لا خبر عن المبلغ او الشيك .. و جاء الخريف الثاني و كانت أرداة السماء اصدق من كل وعود السياسيين و غيرهم .. هطلت أمطار غير مسبوقة في سودري لتمتليئ جميع منها الاودية و الخيران و الرهود و الفول .. و لأول مرة منذ العام 1946م بحسب الكبار في سودري تفيض المياه و تخرج سودري من دائر العطش و سنين الجفاف العجاف.. و اليوم تنعم سودري بالماء المدفوع القيمة مقدماً من السماء ...
و كل عام و سودري و كل السودان بالف خير
ايليـــــا أرومــــي كوكـــو
الابيض
20 / 12 / 2007م
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة