من القلب
أكبر إهانة للرسول !!
أسماء الحسينى
[email protected]
قبل بضع سنوات رأيت فيما يرى النائم أننى أقف عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة وأن دموعى تهطل غزيرة دون توقف، ولما أصبح الصبح أخبرت أمى بالأمر، فبشرتنى قائلة :ستزورين مسجد الرسول قريبا لأن رؤيا الرسول حق ومن رآه زاره ،وقد تحقق هذا بالفعل ففى اليوم التالى وجدتهم يخبروننى فى عملى بجريدة الأهرام أن وزارة الإعلام السعودية وجهت دعوة لخمسة من صحفيى الأهرام لزيارة المملكة والإطلاع على أحوالها وانهم رشحونى للزيارة وأخبرونى أن برنامج الرحلة سيتضمن أيضا آداء العمرة ،فسررت كثيرا وزملائى الباقين أنه قد تم تخصيص جزء من الرحلة لآداء العمرة.
وشعرت وقتها ولازلت أن هذا شيئا كبيرا للغاية واصطفاء من الله لاأستحقه وشعرت أن آداء العمرة كان أمنية عزيزة كامنة فى أعماق نفسى لم أعبر عنها ،وتوجهت فى وجل ورهبة صوب الأراضى المقدسة فى مطلع رجب يهفو قلبى ويهزنى الحنين إلى مهبط الوحى وإلى البيت العتيق وإلى مسجد الرسول الكريم وآثارالصحابة والشهداء والمجاهدين والصالحين والتابعين .....ولاأنسى ماحييت لحظة الغروب التى دخلت فيها مكة المكرمة بجبالها المهيبة الجليلة فزلزل مشهد الكعبة المشرفة فؤادى وكيانى كله ....أحسست ساعتها أننى أحب كل حبة رمل وقطعة صخر فى مكة المكرمة وأننى أود لو أقبلها جميعا ....ولم لا وقد وطأتها قدما محمد صلى الله عليه وسلم أعظم البشر أجمعين .
كنت قبل الذهاب لمكة أقرا مثل كل مسلم الحديث الشريف "لايؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما "...لم أدرك معنى الحديث تماما ولم يترسخ فى وجدانى مثلما حدث عندما ذهبت للعمرة وأمعنت النظر فى سيرة حياة الرسول وتأملت كيف خرج من هذه الصحراء القاحلة الجرداء فى مكة ليقدم للبشرية جمعاء النور والهداية والحضارة والانسانية .
وقد طاف بنا منظمو الرحلة فى الأماكن التى عاش فيها الرسول الكريم وصحبه ،فذهبت إلى غار حراء ووقفت أمامه والأنوار تضيئه فى القرن العشرين خائفة وجلة أفكر كيف كان يصعده الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى غار ثور كيف وصله وإلى دعوته كيف جاهد فى سبيلها وإلى معاركه كيف خاضها ...أتأمل طريقه الوعر إلى الطائف الذى صعب علينا صعوده ونحن نركب العربات ذات الدفع الرباعى وكيف برسول الله يعود فى هذا الطريق طريدا شريدا وحيدا ....وكذا فى طريقه إلى المدينة ....قضيت أياما وليالى وأنا أتأمل فى حياة وسيرة الرسول محمد الداعية والمصلح والمفكر والثائر والمحرر النبى الكريم أعظم خلق الله أجمعين الذى قدم لنا سيرة وخلقا وهدى وكتابا منيرا ،وجلست أتلمس الأسرار واستلهم من روح المكان وأقتبس من ضيائه ماآمل أن ينير الله به جنبات روحى ونفسى وعقلى والعالم من حولى .
إن حياة الرسول وسيرته وخلقه ينبغى أن تكون دستورا ومنهجا ومرجعا للمسلمين جميعا فى حياتهم وأخلاقهم ومعاشهم اليوم ،لكن للأسف الشديد تراجع المسلمون عن ذلك كثيرا ولم يتمسكوا بما تركه لهم الرسول الكريم من مثل وخلق رفيع واكتفوا بالقشور والمظاهر التى لاتغنى ولاتسمن وأصبحوا فى حال ينسب فيه ضعفهم وتراجعهم وتخلفهم فى الأغلب الأعم إلى الإسلام ذاته وهو برىء من ذلك ،وأصبح المسلمون كما عبر عن ذلك بحق الداعية والمفكر الإسلامى المجدد الراحل الشيخ محمد الغزالى :"يعرفون من سيرة الرسول قشورا خفيفة لاتحرك القلوب ولاتستثير الهمم ،وهم يعظمون النبى وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان أو بما قلت مؤنته من عمل ،ومعرفة سيرة الرسول على هذا النحو التافه تساوى الجهل بها ،إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة ،ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض فى أكفان الموتى ،إن حياة محمد ليست بالنسبة للمسلم مسلاة شخص فارغ أو دراسة ناقد محايد ،كلا كلا ،إنها مصدر الأسوة الحسنة التى يقتفيها ومنبع الشريعة العظيمة التى يدين بها ،فأى حيف فى عرض هذه السيرة وأى خلط فى سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه ".
ويضيف :"إن معرفة سيرة الرسول تقدم ماينمى الإيمان ويزكى الخلق ويلهب الكفاح ويغرى باعتناق الحق والوفاء له بما تضم من ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله ،وهى فى ظل تأخر المسلمين العاطفى والفكرى تحمل فى طياتها شحنة من صدق العاطفة وسلامة الفكر وجلال العمل ....إن محمد ليست قصة تتلى ولا التنويه به يكون فى الصلوات المخترعة التى قد تضم إلى الآذان ولاإكنان حبه بتأليف المدائح أوصياغة نعوت مستغربة ،فرباط المسلم برسوله الكريم أقوى وأعمق من كل هذه الروابط ،التى ماجنح المسلمون إليها فى الإبانة عن تعلقهم بنبيهم إلا يوم أن تركوا اللباب الملىء وأعياهم حمله فاكتفوا بالمظاهر والأشكال ،ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة فى الإسلام فقد افتنوا فى اختلاق صور أخرى ،ولاعليهم فهى لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه ،إن الجهد الذى يتطلب العزمات هو فى الاستمساك باللباب المهجور والعودة إلى جوهر الدين ذاته ،وأن ينهض المرء إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه حتى يكون قريبا من الرسول محمد فى معاشه ومعاده وحربه وسلمه وعلمه وعمله وعاداته وعباداته ،ألا ماأرخص الحب إذا كان كلاما وأغلاه عندما يكون قدوة وذماما ".
وقواعد الإسلام الكبرى التى جاء بها الرسول الكريم للمسلمين هى المحبة والإخاء والرحمة والعدل والانسانية والمساوة والتسامح والحرية والكرامة والتقوى والصدق والاستقامة والتقدم والعلم والمعرفة والاستنارة والعمل والاتقان والاخلاص والتواضع وإقامة الحق ولوعلى النفس أو الأقربين ،وقد جاء الإسلام ليحارب الظلم والطغيان والترهيب والضلال والبهتان والكذب والنفاق والرشوة والسرقة والقعود والكسل والتخلف والتبعية والمحاباة والتمييز والاحتكار والجشع.....فأين نحن اليوم من هذه المبادىء التى جاء بها الرسول ،وحالنا وأخلاقنا وسلوكنا فى الأغلب الأعم تكاد تكون أكبر إهانةتلحق بالإسلام وبنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ...ولماذا لايستفزنا سقوط أو عدم إقامة قواعد ديننا الكبرى السابق ذكرها التى هى خلاصة ما جاءنا به الرسول كما تستفزنا فقط مواقف غير متعمدة يمكن معالجتها بروح المسلم الخيرة المحبة للإنسانية جمعاء.،التى لاتخلط السياسة بالدين لأن هذا الخلط يفسدهما معا .
وقد كنت أتمنى ألا يتم معالجة قضية المعلمة الانجليزية التى أتهمت بالإساءة إلى الرسول الكريم بهذه الطريقة فى السودان لأكثر من سبب فهى تسىءإلى نبى الإسلام بصورة لم يسىء بها إليه أعداء الإسلام وهو القائل من آذى ذميا فقد آذانى، كما تسىء للقواعد الإنسانية التى سنها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا وكانت سباقة فى إقرار كل ماسعت إليه لاحقا وبعد قرون مواثيق حقوق الانسان العالمية والقانون الدولى الإنسانى والتى حفظت حتى للمحاربين والغزاة والأسرى حقوقا عادلة كريمة، ولازالت وصايا الرسول وصحبه الكرام تدوى عبر الزمن لجنودهم الفاتحين وللمسلمين جميعا من خلفهم إلى يوم الدين ألا يقتلوا شيخا ولاطفلا ولا امرأة ولايخربن عامرا ولايحرقن نحلا ولايؤذين راهبا أو يهدمن صومعة أوديرا.......
وقد اندهشت لهذه المظاهرات الهادرة فى الخرطوم وأنا أشاهدها على شاشات التلفاز لأول وهلة دون أن أدرى السبب، وظننت أن مكروها أصاب السودان ، ولما وقفت على أصل الحكاية تمنيت من أعماق قلبى لو تمت معالجتها بطريقة مختلفة لاتسىء للإسلام الذى لاتنقصه الإهانات اليوم التى تلحق به على أيدى أبنائه أكثر مما تلحق به على أيدى أعدائه، كما أن ذلك يسىء إلى أخلاق السودانيين السمحة التى تقبل عذر المعتذر...الخطأ كان غير مقصود بتأكيد شهود العيان كما أن المعلمة أبدت استعدادها للإعتذار إن كانت قد أساءت ،وكانت كلماتها بعد عودتها لوطنها عقب قرار الرئيس عمر البشير بالعفو عنها مؤثرة للغاية حيث لم تؤثر الواقعة المؤسفة على نظرتها للشعب السودانى الذى قالت إنها لم تجد منه سوى العطف والكرم مؤكدة أنها تعتذر عن أى مضايقة تكون قد سببتها له وأنها تكن إحتراما كبيرا للدين الإسلامى ولم تتعمد أبدا أى إهانة وأنها لاتريد أن تثبط عزيمة أى شخص يرغب فى الذهاب إلى السودان .......وفى كل الأحوال فى هذه الواقعة وشبيهاتها يظل المطلوب من المسلمين هو الحوار الإيجابى الفعال وليس المظاهرات والصراخ والعويل أو خوض معارك فى غير معترك ، وفى العالم كله الأطفال يسمون اللعب بأسماء بعضهم بعضا ،وهذه المعلمة كانت مجرد أمرأة وليست جيشا غازيا أوقوة أحتلال،وقد جاءت إلى الخرطوم تاركة بلدها لتعيش ظروفا صعبة وتحصل على مرتب متواضع مقارنة ببلدها ولتعمل فى جد وإخلاص عبر الطرق التى تجذب انتباه الأطفال وتزيد مهاراتهم فى الكتابة والتعبير عبر كتابة يوميات هذا الدبدوب الذى أختار له التلاميذ وليس هى أسم محمد نسبة لزميلهم المحبوب فى الفصل وليس بالطبع سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام .
آخر الكلام :
يقول الشاعر اللبنانى المسيحى خليل مطران فى قصيدة يمدح فيها الرسول الكريم ويخاطب المسلمين الذين ينتمى إليهم ثقافة ووطنا:
عانى محمد ما عانى بهجرته
لمأرب فى سبيل الله محمود
حتى يعود بتمكين وتأييد
أدنى الكفاح كفاح المرء عن سفه
لقد علمتم ومامثلى ينبئكم
لكن صوتى فيكم صوت ترديد
بأى حلم مبيد الجهل عن ثقة
أعاد ذاك الفتى أمته
شملا جميعا من الغر الأماجيد
وأخذهم بعد إشراك بتوحيد
وزاد فى الأرض تمهيدا لدعوته
بعهده للمسيحيين والهود
وبدئه الحكم بالشورى يتم به
ماشاء الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيده
يامسلمين إن الجد دينكم
وبئس ماقيل عن شعب غير مجدود
طال التقاعس والأعوام عاجلة
هبوا إلى عمل يجدى البلاد فما
يفيدها قائل ياأمتى سودى
سعيا وحزما فود العدل ودكم
تعلموا كل علم وانبغوا وخذوا
بكل خلق نبيه أخذ تشديد
فكوا العقول من التصفيد تنطلقوا
وماتبالون أقداما بتصفيد
لبعث مجد قديم العهد مفقود
سلام على هذا الهلال من امرىء
صريح الهوى والحر لايتكتم
سلام وتكريم ...بحق كلاهما
وأشرف من أحببته من تكرم
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::