صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
 
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


" اتفاق السلام لدارفور "(1) : دارسة تحليلية بتفكيك سلطة خطاب النص./إعداد / د. أبو البشر أبكر حسب النبي -باحث سوداني
Oct 24, 2007, 10:55

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

 " اتفاق السلام لدارفور "(1) : دارسة تحليلية  بتفكيك  سلطة خطاب النص.

1- مقدمة:

لقد أصدر الاتحاد الأفريقي نص(اتفاق  السلام لدارفور )- وهذا هو المسمى الرسمي  للاتفاق  الذي تم التوقيع عليه  في 5 مايو2006م بين الحكومة السودانية وبعض الفصائل المسلحة في دارفور واشتهر بـ(اتفاق أبوجا) - في كتاب من  (192) صفحة (2) ، من القطع المتوسط  ، وقد جاء ترتيب  النص  في  ستة  فصول رئيسية ،اشتملت  على  (33) مادة أساسية ،وتفرعت بدورها إلى  (515) بنداً .  ويتضمن الاتفاق عشرة جداول زمنية، تحدد بدقة متناهية مواعيد تنفيذ الالتزامات الواردة فيه. وبالإضافة إلى النص الأصلي ثمة ستة ملاحق ذيلت به الاتفاق،  تمثل نماذج من الاتفاقات والبرتوكولات التي تم التوقيع عليها بين الحكومة و الحركات في مراحل سابقة،  خاصة تلك التي تمت بوساطة من الاتحاد الأفريقي. ولعِلَّة نجهلها ، فقد خلت قائمة الملاحق من  الاتفاقات السابقة لولوج الاتحاد الإفريقي الحلبة ، وتصدره مهمة التوسط في قضية دارفور  ، رغم أهميتها-  من وجهة نظر التاريخية على الأقل - مثل اتفاقيتي ( ابشي ) الأولى والثانية   ،اللتان  اعتبرتا بمثابة أول اعتراف رسمي وصريح من قبل الحكومة السودانية بالحركات ، ومن ثم إقرارها بوجود مشكلة ذات أبعاد سياسية في دارفور .

وفي كل الأحوال ، فإن طباعة هذا الاتفاق ونشره على هذا النطاق الواسع ، وبسطه على جميع الأوساط ، يعد عملاً ذا فائدة علمية عظيمة وقيمة توثيقية جليلة ، ويُوضع   في ميزان حسنات الاتحاد الأفريقي ، ويُدوَّن  في سجل انجازاته.  

نحاول في هذه الدراسة قراءة الاتفاق من منظور نقدي مغاير ومتمايز عن القراءات السابقة والسائدة ، بحيث تنهض على بنيان قوامه التحليل العلمي الهادئ والمحايد  ، ولو نسبياً ، والذي  ينأى بنا عن النهج ( اللامنهجي ) الذي درجه عليه كثير ممن تناولوه بالتعليق والتحليل ، والذين يمكن تصنيفهم إلى فئتين :  الفئة الأولى: تمثل أولئك الذين رفضوا الاتفاق ومن تبعهم وّلاهم والتزم جانبهم . وقد  رأينا كيف طفحت تعليقات وتعقيبات هؤلاء  بالقدح والتخوين واللعن والسباب والسخرية والتهكم " أبوجا مهزلة ..وطرابلس مضحكة ..وأرووشا ديكور " (3) كما جاء في أحد البيانات . وقد رفعت العقائر  بالشجب والإدانة وملئت الدنيا بالضجيج والعجيج  والهتاف  والصراخ  ولكن كلها - للأسف -  كان محض غليان عاطفي و(جعجعة بلا  طحن) تنطلق من جعبة خاوية ولا يمكن أن تضيف شيئاً جديداً . وإذا تأملنا مصادرها بإمعان نجدها إما إنها تنطلق من مواقف سياسية آنية تتسم بالانفعال والتشنج والتسرع في إصدار الأحكام ، أو يعود إلى مناكفات ومشاكسات شخصية  بين قادة الحركات في الإطار التنافس على المواقع والنفوذ. وكلها بمثابة مقامع وسدود  تحول دون إعمال المنطق العلمي الرصين في تحليل الوقائع والأحداث  وتقييمها بالاعتدال والاتزان .

 وفي الشاطئ المقابل نجد  الفئة الثانية ممن قبلوا الاتفاق، ونمط خطابهم السائد  ، هو الرضا التام  بالقسمة الحالية (الضيزى) ، واكتفاء بما أمكن حصده من المحصول  ، والذي حكم عليه الأغلبية بالابتئاس والشحة   بحيث لا يسد رمقاً ولا يقيم أوداً  ، والصوم الأبدي والصمت المطبق عن إعمال أي نقد ، وتهيب  عن بذل أي جهد لتحليل وإعادة التقييم الاتفاق ، كأن الاتفاق نص مقدس  وكأن نقده انتهاك لتلك القدسية ، والتأشير على معايبه من المحرمات (التابوهات) الواجب تجنبها ، وكأنهم يرومون أن يظل (النقص) سراً مكنوناً و(مسكوتاً عنه) إلى يوم يبعثون ! . وتتجلى غرابة هذا النهج وتنكبه عن  المنطق الطبيعي للأشياء في تماهيه   وذوبانه في نهج السلطة ، خاصة في مسألة رفض ( إعادة التفاوض) وفتح الملفات من الجديد  ، حتى أن كان ذلك يضيف جديدا مفيداً  ، ويجلب خيراً عميماً لأهل دارفور .  هذا الموقف ينم عن عوز في  فقه السياسة ، وتنبئُ عن نزعة الميل للتكتيكات الجزئية  على حساب النظرة  الكلية للمآل النهائي ، وكلها دواعي  قد تعبر بهم إلى الضفة  غير المرغوب فيها  ، فالموجبات الأدبية والأخلاقية التلقائية تفرض على الفاعل أن يُقَّيم فعله ، ويعدل مساره في حالة انحرافه  والإرادة في يده قبل أن تسلب تلك الإدارة وتغصب  وتجبر على ورود حوض لا يريد الشرب  منه.

وفي سبيل أن نختط لأنفسنا طريقاً ً ثالثاً يبعدنا عن حومة الشد والجذب وتصنيفات (مع)و(ضد)، يلزمنا أن نضع الاتفاق في فضاء أكثر سعة ورحبة، وننظر إليه من زاوية كلية غير حادة. على أمل أن نهتدي إلى الجادة القويمة التي   تقودنا إلى مواضع الخلل والوهن، وتدلنا على مواقع الخطأ والاختلال،  و تعيننا على تحديد نقاط القوة ومكامن الصواب. والمرام الكلي والغاية النهائية من كل ذلك هو كشف الجوانب السلبية وهي كثيرة، وتحديد الجوانب الإيجابية وهي ليست معدومة. وأداتنا  الأساسية  لبلوغ هذا الهدف هو منهج الحفر والتفكيك أي تفكيك المفاهيم الرئيسية للنص وإعادتها إلى مكوناتها الأولية  ،والتنقيب في أعماقها  بقصد العثور على الخطاب المركزي أو الأطروحة  الداخلية (Theme ) التي تتحكم فيه. لأنه متى ما رزقنا ملكة  الكشف على روح النص أو ما يسمى بسلطة خطاب النص ، واسترقنا السمع لحفيف صوته الهامس  وفقهنا معاني المفردات المستغلقة، وألهمنا قدرة التتبع لسيرورتها البنيوية والتاريخية(الفيلولوجية )  وحالفنا الحظ  بالسيطرة عليها  و التعامل معها، يمكننا الظفر – في خاتمة المطاف-  بالمقاصد الكلية القابعة في حنايا اللغة والدلالات المختبئة خلف النص،والتي تمثل ، بالحق ، الإسقاطات الحقيقية لما اعتملت عليها نفوس الفرقاء واختمرت بها أذهانهم وأدمغتهم  وهم يتقاذفون المسودات الابتدائية والنهائية للاتفاق .  وهذا هو- في اعتقادنا-  النهج الأنجع ولأنجح لتكوين صورة حقيقية عن هذا الاتفاق وتحديد  مترتباته بدقة ، بعيدا عن هوى الرفض أو غرض القبول.

2- ملحوظات شكلانية  

من حيث الشكل والتنسيق  العام ، فقد  جاء تنظيم نص الاتفاق  في غاية من الدقة والتوفيق ، خاصة فيما يتعلق بالترقيم المتسلسل للبنود ، بصرف النظر عن الفصل أو المادة التي وردت  فيها ، وهو صنيع قد وفر  على القارئ  كثير من الجهد ، إذ يمكنه – والحالة هذه -الذهاب مباشرة إلي البند الذي يبتغيه دون عناء البحث في وسط البنود الإجرائية الكثيرة.  أما لغة النص فكل الدلائل تشير إلى أنها صيغت بالإنجليزية أولاً  ثم ترجمت إلى العربية. ويمكن التأكد من ذلك مما شاب الاتفاق من صياغات متسرعة وأخطاء لغوية أو مطبعية، قد أفضت - في كثير من الأحيان - إلى قلب المعنى رأسا على عقب. مثال لذلك ما ورد في صفحة (11) من الكتاب/ الاتفاق إذ يقول النص "... الدستور القومي الذي  سيدمج في هذا الاتفاق "(4) حيث يُفهم من  مؤدى  هذا النص  أن الاتفاق هو الأصل ، والدستور فرع يدمج فيه ، ولا شك أنها زلة مترجم أو هفوة مطبعية ، ورغم بساطة الخطأ وشكليته (سقوط الهاء في "فيه") إلا أنه قد غيَّر المعنى تماماً،  ومما يؤكد فرضية الخطأ المطبعي   وروود ذات النص في  صفحة (16) البند (41) بصيغته  الصحيحة ألا وهي:"...الدستور الذي ستدمج فيه هذا الاتفاق" (5)   وهنالك أمثلة كثيرة من هذا القبيل يمور بها النص. وقد يرى البعض بأنها  هفوات شكلية لا تقدم ولا تؤخر ، بيد أن الحقيقة التي لا مرية فيها أن النصوص ذات طابع القانوني  الشكل  فيها لا يقل أهمية عن الموضوع لذلك يكون التدقيق اللغوي أحد أهم أركانها.

ومن الواضح أن النمط البنائي لهيكل الاتفاق  لم يأت اتفاقاً  أو تمت صناعته في أبوجا  فطيراً، وإنما جاء هكذا نتيجة لحضور  القالب النمطي  أو التصور الذهني الجاهز لـ(اتفاق السلام الشامل/ نيفاشا)  في أذهان الفرقاء والوسطاء ، فقادة الحركات  مولعون ، منذ البدء حركتهم ، بتقليد الحركة الشعبية في كل شيء ، حتى في عثراتها ومثالبها . وأما مفاوضي  الحكومة والوسطاء فيبدو أنهم قنعوا على أن تركيب هذا القالب الجاهز على الاتفاق الجديد سيعفيهم  أكلاف متاهات التفاوض على صفحات بيضاء ، وعلى أرضيات بكرة. فلذلك نجد الاتفاق قد افتتح بتقاسم السلطة ، وانتقل إلى تقاسم الثروة، وانتهى أخيرا  إلى  الترتيبات الأمنية . ولعل الاختلاف الوحيد - في هذا الإطار – هو وجود فصل خاص بـ( الحوار الدار فوري – الدار فوري ) في اتفاق (أبوجا)  مقابل ما عرف بـقضية (المناطق الثلاث ) في اتفاق (نيفاشا) . وقد أكد الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل هذه الحقيقة بجلاء في قوله:" وللمدقق أن يطلع على الاتفاقيتين ، نيفاشا وأبوجا ، فسيجد الأولى  قد تسرب بعض مدادها إلى أوراق الثانية من تلقاء أن خيار الذي اختطه حكومة الإنقاذ الوطني منذ أول بيان لها في الحكم  بسط الأمن وتحقيق التنمية " (6). وإن كان الشطر الثاني من هذا القول محض تقرير سياسي/ دعائي ،خاضع للأخذ والرد ،فإن الأول قد أصاب كبد الحقيقة .

ويبدو أن عملية تقليد الاتفاق  اللاحق للسابق  أصبحت نمطاً مألوفاً  في إطار محاولات حل مشاكل السودان الكثيرة ، إذ جاء (اتفاق سلام شرق السودان )  بعد خمسة أشهر من التوقيع على ( أتفاق أبوجا)، وبدا كأنه نسخة ضوئية منه. وربما يقول قائل بأن مرد هذا التشابه هو تشابه القضايا المثارة في عموم السودان ، بيد أن الحقيقة الماثلة تفيدنا بأن هذا التماثل غالباً ما تكون في الشكل  فقط ،أما من حيث الروح والمضمون فثمة تباين جوهري بين هذه الاتفاقات وخاصة بين( نيفاشا) و( أبوجا ) . حتى دون أن  يتجشم المرء  عنت إعمال الفكر في النسق الداخلي  والمنظومة التحتية  لمقاربة أطروحتي الاتفاقين ، يجد أن (اتفاق نيفاشا )قد أحدث اختراقاً دستورياً حقيقياً  في بنية الدولة السودانية  . وذلك بتثبيت المبدأ الخطير (حق تقرير المصير ) ، وهي بضاعة تستحق الأثمان الباهظة التي دفعها الجنوبيون من مهج وأرواح ومآسي اللجوء والنزوح وضياع الأملاك والثروات خلال العشرين عاماً الماضية، والآن (مثلاً) لا أحد يجرؤ أن يطرح على القادة الجنوبيين سؤالاً من جنس: ماذا كسبتم من الحرب التي خضتموها خلال  هذه المدة الطويلة ؟ لأن الرد جاهز ، إذ  يتم إفحام السائل  وردعه بالغنيمة الكبرى والجائزة العظمى ( حق تقرير المصير )!.  بينما ( اتفاق أبوجا) لا يعدو كونه مستوى متقدماً من مستويات منظومة مقررات مؤتمرات الصلح القبلي  التي تعقد في دارفور ،كلما نشب عراك بين قبلتين أو اقتتلت  عشريتين  ،أو على الأقل إنه – أي اتفاق أبوجا- متساوق ،في الشكل والمضمون، مع الاتفاقات الجزئية التي عقدتها الحكومة السودانية مع بعض الفصائل الجنوبية في النصف الأول من عقد التسعينات القرن الماضي ، مثل( اتفاق الخرطوم للسلام ) مع مجموعة النُوير بقيادة الدكتور رياك مشار ، و(اتفاقية فاشودة للسلام ) مع فصيل الشُلُك برئاسة الدكتور  لام أكول و( أتفاق جبال النوبة ) مع محمد هارون كافي  الذي كان يتزعم – أو يزعم تمثيل- طائفة من النوبة .(7) وهي اتفاقات تبخرت  كلها تلقائياً دون أن يأسف عليها أحد، وآلت إلى  العدم كأن لم تغن بالأمس،و انضم   جل موقعيها إلى  (نيفاشا) واندغموا فيها طوعاً.

وإذا أردنا أن نلم بالأسباب الكامنة وراء بقاء التماثل بين الاتفاقين شكلا ً لا مضموناًً، لزام علينا أن نبتعد قليلاً عن القشر والسطح، وننقب ونغوص في الأعماق مواقف الأطراف، بغية الوصول إلى حيث مكمن الحقائق.  وذرونا نبدأ أولاً بمحاولة انتشال بما هو واقر في عمق الموقف الحكومي. ولا ريب أن الجميع على علم  تام بأن الحكومة السودانية لم يحدث أن اعترفت- عن صدق- بوجود  مشكلة حقيقية في دارفور ، تماثل تلك التي كانت قائمة في  الجنوب  ، وإنما كانت تقول –في السر والعلن –إنها  تجابهه  حالة من الاضطراب الأمني مرجعه الاحتراب القبلي التاريخي بين الرعاة والمزارعين حول الماء والكلأ.

 وقد تم تبسيط المشكلة دارفور من قبل الحكومة إلى حد يشبه السذاجة أحياناً ، ويمكن أن نستدل على  ذلك بأقوال بعض كبار المسئولين ، فمثلاً عندما يقول أحدهم: " يرجع العالمون ببواطن الأمور وتداعيات الأزمة في دارفور مبعثها إلى نزاع قبلي وقع بسبب جمل سرق يوماً في منطقة كرنوي بشمال دارفور ودارت بسببه بين مجموعتين من قبيلتين مختلفتين سقط فيها قتلى ، ولم يتم الوفاء بدفع الديات اللازمة لما أريق وأهدر لهؤلاء القتلى من الزغاوة "(8)إذن هذه الحادثة البسيطة هي شرارة أكبر مأساة في القرن الحالي في رأي الحكومة . ولإضفاء  مزيد من الموضوعية والمعقولية على أطروحتها تلجأ النخبة الحاكمة في الخرطوم  دائماً إلى نظرية (التخوين التاريخي )التي ظلت تمارسها (الكتلة النيلية) على طبقة (انتلجنسيا) الدار فورية ، ومؤداها أن الشرائح المتعلمة والمثقفة من أبناء دارفور عندما تستكمل أشراط التعليم الثقافة  تؤثر البقاء في الخرطوم عوض العودة إلى إقليمها ، بل وتتنكر لأهلها  ولا تلتفت إليهم  إلا  في مواسم جني المكاسب السياسية ، وأن هذا السلوك  التاريخي لهذه القيادات –في زعم النخبة النيلية  - هو الذي فاقم المشكلة وأضر بمصالح  أهل دارفور." إن مساهمة أبناء دارفور في تنمية إقليمهم فيها تقصير كبير  وكثيرون منهم يقيمون في الخارج  ومنقطعون عن إقليمهم ، بل العديدون منهم لعبوا أدواراً سلبية إذ نشطوا وأسهموا في مفاقمة سوء الأوضاع بدارفور عبر نشر الغسيل الوسخ في حبال الانترنت والشباك العالمية حيث أضحت دارفور حديث كل مهتبل ومستهبل "(9) هكذا قال مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية السابق ومستشار رئيس الجمهورية الحالي .وهي ليست فقط  قناعات واقرة في أعماق  الذين يديرون السلطة في الخرطوم ، بل ولها امتدادات مجتمعية وفكرية  في عموم المجتمع النيلي . وحتى  موافقة الحكومة على التفاوض مع الأطراف الفاعلة في الميدان ؛ نابعة من هذه الذهنية ، وليست من أجل منح الإقليم امتيازات ذات قيمة مضافة ، وإنما ليؤوب هؤلاء إلى رشدهم ويعودوا  إلى حظيرة الوطن  فهم في العرف الحكومة شرذمة قليلون يبحثون في المنح والعطايا والمراكز ,"ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " الآية!.

أما موقف الاتحاد الأفريقي- المُسهِّل الأساسي- الذي  بدا ليناً  وغير ضاغط بالقوة المطلوبة علي المفاوض الحكومي لإحداث الاختراق الدستوري المطلوب ، فمرده  أن  قوة ضغط هذا الاتحاد   متأتية من حاصل جمع إرادات  دول تعاني هي نفسها من  حالات التشقق القبلي  والتشظي الاثني ،وبالتالي  فهي غير مستعدة بأن تجازف إلى حد وصول الاتفاق إلى عمق يخترق الكيان الدستوري القائم ويحدث انقلاباً في بنية الحكم  في السودان  وتسجل بذلك سابقة تاريخية ترتد إليها عاجلا أو آجلاً . ولذلك ظل  الضغط  الأساسي على الحركات ،و ما حادثة  قيام الرئيس النيجيري (في وقتها) أوباسنجو بطرد  عبد الواحد محمد نور من قصره عندما رفض التوقيع على الاتفاق خير دليل   على وجود هذا الضغط  الهائل ذي الاتجاه الواحد. فضلاً عن ذلك يمكننا أن نستشف - وبكل يسر -أثر هذا الضغط من تصريحات زعيم حركة( العدل والمساواة ) إذ كلما جاء الحديث عن الاتفاق تجد عبارة (قد باعنا الاتحاد الأفريقي)! تتكرر بين ثنايا كل جملة وجملة.

 أما الأطراف الدولية الأخرى(الأمم المتحدة ، الاتحاد الأوربي ، الولايات المتحدة ، جامعة الدول العربية ) فقد جيرت مواقفها مع موقف الاتحاد الإفريقي  على قاعدة (أهل مكة أدرى بشعابها )،بالإضافة إلى  إن المواقف التفصيلية لهؤلاء المسهلين نفسها لم تكن متطابقة ومتوافقة تماماً مع بعضها البعض وقليل منها وضعت مصلحة أهل دارفور في الأولوية(10).

وكانت النتيجة الحتمية للعزوف عن الجدية في طرح القضايا  الأساسية ، أن جاءت البنود الخاصة بتقسيم السلطة (مثلاً) محض إجراءات شكلية ، خالية من أي بند يخترق البنيان التاريخي لمنظومة الحكم في السودان، إذ تم تحديد دلالة مفهوم السلطة بأنها مجرد (مواقع عددية) قائمة على منطق( الكتاب الأسود) السطحي والسفسطائي ، أي أنها سلطة كمية بلا قوة كيفية ، وهي مناصب انتقائية ومعيرة  بثقل وزنها الدستوري، وانتقالية تزول بانقضاء اجلها المحدود ، دون أن يتمكن الفاعلون من شاغلي هذه المناصب العددية أن يراكموا  إرثاً يبنون عليه نضالاتهم  فيما بعد ، ومن ثم نعود  القهقرى  إلى نقطة الانطلاق  لنشتكي من (اختلال ميزان السلطة والثروة  في السودان )!.

وينسحب الأمر نفسه على مفهوم " تقسيم الثروة "إذ جعلوه فقط تخصيصات مالية ومبالغ نقدية  تعتمد في الخرطوم وتصرف  في دارفور ،حيث تذهب نسبة كبيرة منها (هدراً ) على الهياكل الإدارية الهلامية الكثيرة  التي نشأت بموجب الاتفاق . ولا أمل أن  نشهد –بناء على مقررات هذا الاتفاق – أية حركة تنموية  حقيقية كلية تنقل المجتمع بجملته من حالة التخلف والفقر وتدرجه في رحاب حراك تصاعدي يمكنه من خلق قوة اجتماعية – وليست عسكرية – وبناء كتلة تاريخية حية تمتلك أدوات واليات السطوة - شريطة أن تكون ناعمة  عمادها المعرفة والثروة – تستطيع أن تحمي بها نفسها و ترغم الآخرين باحترامها وتلبية مطالبها ، بعكس من القوة الخشنة – القتال المحض- التي تهدم ولا تبني ،  وتدمر ولا تعمر، وتعيق المسار وتغلق الآفاق ، وأكثر من ذلك فإن القوة الخشنة قد تنتهي إلى هزيمة  ساحقة  وماحقة لا تبقي ولا تذر ، يتطلب الإفاقة منها دورة تاريخية كاملة.

3- ظلال قضايا لا تشغل بال أهل دارفور

يلحظ المتدبر لنصوص الاتفاق بأن المفاوضين  قد انشغلوا  كثيراً بقضايا  بعضها جذرية ولكنها غير ملحة ، وقد يكون مكان انشغالها منتديات النخب المدينية وجماعات البحث الأكاديمي  ،ولكن لم تكن –بكل تأكيد-  من المسائل الآنية التي  تشغل بال مواطني دارفور ، أصحاب الوجع والفزع  في الظرف الماثل الذي يكاد يميد بهم إلى الفناء .وبعضها  قضايا انصرافية وربما الحوار حولها مفيدة لجهة إضفاء بُعد فكري معمق على الاتفاق ولكن لا الزمان ولا المكان كانا مناسبين لمثل هذه التفاصيل .

على كل حال ، التحري الذي نجريه هنا لا يهدف إلى تسقط   الأخطاء  ولا يروم  التقليل من أهمية تلك الانشغالات ؛  بقدر ما يسعى إلى تقصى مظآنها وتتبع مصادر القوة الحافزة  والمغذية لها ،ومن أهم هذه القضايا :

3-1" التنوع العرقي والديني "

لقد شغلت موضوعة (التنوع العرقي والديني ) حيزاً كبيراً من أدبيات الحركات جمعاء –ربما استثنيت العدل والمساواة - وألقيت بها في طاولة المفاوضات،  واستهلكت نصيباً وافراً من جهد المتفاوضين. ولكن السؤال هل هي موضوعة مهمة إلى هذا الحد؟ وهل هي بريئة كما تتبدى على ظاهرها ؟ أم أنها  تنطوي على محمولات دلالية سلبية أن لم نقل  خطيرة  ؟ .وبإجراء فحص أولى على النصوص الواردة في الاتفاق بهذا الشأن يمكننا القطع بأنها  لا تتطابق –بأي حال-مع دلالة  مفهوم "التنوع العرقي/ القبلي "السائد في دارفور . كما أن معادلة التنوع  لم تكن (ثقافة دارفور)مقابل  (الثقافة النيلية) ً،إذاً  فمن الواضح أنهم يتحدثون عن التنوع في عموم السودان  .وفي المحصلة نجد أن قضية بهذا التعميم لم تكن من القضايا التي تضيف جديداً على أهل دارفور  ،كما أن الإصرار على إلحاق  مفردة "الديني"على (العرقي) و(الثقافي) قد أضفى على المفهوم بُعداً جديداً ، يبدو غريباً عن الواقع الثقافي والاجتماعي في دار فور .

 وقد ورد في أحد نصوص الاتفاق: "تعتبر الديانات والمعتقدات والتقاليد والعادات مصدراً لتقوية معنوية وإلهام للشعب السوداني " (10). ومن ناحية الشكل فهو نص بديهي ووارد في جل الدساتير والقوانين الأساسية التي سنتها الدولة السودانية منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا ، وكانت العبرة من ورودها  دائماً لكي تتساوق مع معادلة شمال/ جنوب  .أما أن يرد هكذا في حالة دارفور ، فإن الأمر في حاجة إلى المزيد من الفحص والبحث عن المسوغ المضمر في حوايا المعاني الخفية والدلالات المستترة ،والتي كثيراً ما تنسرب من النوايا المبيتة من بعض الأطراف . فمثلاً لماذا تم استخدام مفردة "الديانات"؟  عوض "الأديان"! ، والبون الدلالي بينهما شاسع ،إذ الأولى غالباً ما تعني المعتقدات الأرضية ، من أرواحية  وفتشية ومانوية ..الخ وهي الديانات الغالبة في أفريقيا جنوب الصحراء ومنها جنوب السودان؛  بينما الثانية تدل على الرسالات السماوية  ومنها الإسلام الذي يدين به أهل دارفور بنسبة مائة بالمائة . إذاً ،ما هي الديانات المتعددة في دارفور ؟ .

للوهلة الأولي تتبدى على ظاهر النص صور من  البراءة والايجابية توحي للقارئ   بأن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإضفاء طابع حداثي و تسامحي على النص لمقابلة مقتضيات العصر وإرضاء بعض الفئات الفكرية  والأطراف الخارجية التي تركز على التسامح الديني وحرية العبادة ،غير أنه إذا أمعنا النظر قليلاً في أعماق هذه البراءة  نجدها تخفي في  طياتها جرعات تخديرية  (بالخاء)،لإمرار قناعات ذات أبعاد إيديولوجية  .ويمكن استنباط حقائق هذه الفرضية بيسر من نصوص مماثلة ولكن هذه المرة تحمل  َنفَسَاً تحذيرياً (بالحاء) يدفع المرء إلى الاعتقاد بوجود جهة قوية تدفع إليها،  مثل " يعتبر  التنوع الثقافي  والاجتماعي لشعب السودان أساساً للتماسك  القومي ينبغي تعزيزه ، وتنميته"(11) . بداهة   أن أساس التماسك القومي لأي شعب من الشعوب هو الهوية الجامعة، والروحية المركزية / القطبية الجاذبة للأطراف والشظايا، وليس المحافظة على النزعة التفتيتية. وإن الواقع الذي  يجب أن يطرب له الجميع هو ذلك الذي يحوي في طياته  مقدرات النمو والدنو صوب مفردات  الهوية الجامعة  والثقافة المنسجمة ويسمو على حالة التشتت والتفتت ، ولا مسوغ أبداً أن ننتشي  عندما يتغنى البعض بوجود( 80 قبيلة) و(70لغة) في دارفور، إنه واقع مرير لا  يمثل غنى  ثقافياً ، ولا تنوعاً موجباً ،وإنما يدل على خواء ثقافي وتخلف اقتصادي وسكون اجتماعي ، والقول بتعزيزه يعني المحافظة على الوضع الراهن ((Status quo وبالتالي الإبقاء على  البؤرة المعضلة للحراك حية بدلاً عن  إدخال إرادة التغيير الخلاقة بآلية التذويب التنموي بلا قسر أو قهر ، وأما الزعم بتنمية التنوع فهو إنشاء فارغ لا قيمة له ، لأنه حيثما وجدت التنمية أخذ التنوع- خاصة بشكله البدائي – عصاه على كاهله ورحل !.

وفيما يلي نحاول تحديد موقف كل طرف و دوافع انشغاله بموضوعة( التنوع العرقي والديني).

أولاً :الطرف الحكومي : من الواضح أن الوفد  الحكومي قد  قرر عدم الوقوف أمام مثل هذه النصوص لأنه اعتاد سماعها مراراً ، من مجادلات المنتديات التي لا تنتهي وفي الصفحات الثقافية قي صحف الخرطوم ،دون أن يرى أي أثر على أرض الواقع  لذلك  فهو لديه لا يعدو كونه بنداً برتوكولياً  ظل حاضرا بالصيغة عينها  في كل المحادثات . وقناعته أنها  عبارة جوفاء لا تضيف ولا تنقص شيئاً ، ووظيفتها  لا تتعدى ملء الخانات والفراغات ، ولا أثر يترتب على وجوده في المستقبل ، فلذلك تجدهم  مروا عليها مر الكرام ، وقبلوها على مضض.

ثانياً: الحركات : الدافع الأساسي لتشبث الحركات بمثل هذه النصوص  هو داء محاكاة الحركة الشعبية ، التي ابتليت بها  ، ليس في السمت والرسم فقط ، بل وقد قرنت بعض الأجنحة نفسها   بالحركة الشعبية برباط أبدي لا فكاك منه وزواج كاثوليكي لا طلاق فيه. ويبدي كثير من الناس استغرابهم  لمثل هذه المواقف لأنهم يجهلون أن بعض  الأجنحة هي  في الأصل قد ولدت من رحم  الحركة الشعبية  ، ولا يريد الرضيع  العيش خارج كنف أمه الرءوم  التي احتضنته  وراعته عند الميلاد  و فطمته قبل أن يشب عن الطوق! . وعلى الرغم من رفع واجبات( الأمومة) فإن تلك الأجنحة مازالت متشبثة بثياب الحركة الشعبية  ولا تستطيع الحيد عن تقمص أدوارها السياسية  وتمثل مواقفها الفكرية،  مهاما تباينت  عن الواقع الحال في دار فور، إلى حد أن بعض قادتها كانوا – ومازالوا- يرددون عبارات مقتبسة من  أقوال القادة الجنوبيين مثل: أن" فصل الدين عن الدولة خط  أحمر" أي (خط أحمر) بمعنى أنه مطلب مهم لا يمكن التنازل عنه ، وليس مكسب نفيس كائن يمنع الاقتراب منه حرصاً  عليه،كما يتبادر إلى الذهن  من ظاهر القول. يقول أحد هؤلاء القادة:" نحن نريد الفصل بين الدين والدولة ... في الوقت الحالي تفضل الحكومة الإسلام على حساب الديانات الأخرى ، وهذا ما يجب ألا تكون عليه الحال ... على الرغم من كوني مسلماً فإننا نريد أن يكون الدين شأناً خاصاً وأن يكون كل مواطن حراً في ممارسة الدين الذي يؤمن به "(12)

ومهما كان إيمان هؤلاء بعقائد  العصرنة والعلمنة فليس من العقلانية  أن يجعلوا من مبدأ (فصل الدين عن الدولة ) أساساً للقتال والفداء بالأرواح والدماء ،وإلا ما الفرق بين هذا وعما   كان يفعل أعدائهم من أهل (الإنقاذ)في الجنوب عندما دثروا الحرب لبوس الدين  وجعلوها جهادا مقدساً ( في حماك ربنا في سبيل ديننا )! . نقول ذلك لأن مثل هذه القضايا الفكرية سيبل بسطها هو النضال السياسي والتبشير السلمي وليس القتال.

 وعلى كل، فإن مصدر الانشغال والتركيز على هذه الموضوعة –علاوة على تقليد الحركة الشعبية- يعود إلى عدم وضوح النهج السياسي وعدم بلوغ النضج الفكري لهؤلاء القادة. وقد رأينا  ولعها باستعارة واستلاف بعض المفاهيم الفكرية المركزية ، وخاصة تلك  الرائجة في إطار الثقافة الأفريقية مثل : (الزنوجة) و(الافريقانية) و(الأصالة ) و( السوداناوية )..الخ ولكنها  تستخدمها دون وعي لمعانيها الحقة  أو استيعاب لدلالاتها المعمقة ،والإلمام بظروف نشوءها و طبيعة تطورها التاريخي .

 

ثالثاً :المُسَهِّلُون  : بالإضافة إلى البيانات الميدانية التي توفرها الوكالات المتخصصة  ، فلا شك إن المسهلين في حاجة إلى  معطيات إضافية  مثل جوانب من الخلفية التاريخية للصراع في دارفور، و البينية الفكرية /الثقافية التي ينطلق منها قادة الحركات ،  حتى يتمكنوا من   فهم  واستيعاب مواقفهم وطرق تفكيرهم ، ومن ثم تقديم المقترحات التي تعينهم على تحريك الجمود وفتح المسارات  وإحداث الاختراقات. من هنا برز ت أهمية الاستعانة بجهات  يمكنها  تقديم  مثل هذه (الذخيرة المعرفية) . وقد وقع الاختيار على معاهد ما وراء الدائرة القطبية الشمالية ، ونسميها كذلك لأن أكثرها قائمة في أقاصي أوربا الشمالية و الدول الاسكندينافية بخاصة ، وبعض المؤسسات البحثية  المرتبطة بها في أفريقيا  . وهي معاهد ومؤسسات معنية جدا بالمجتمعات الأفريقية التقليدية  وهي أيضاً منضوية تحت لواء الحملة العالمية للمحافظة على ثقافة الشعوب الأصيلة  وعلاوة على ذلك فإن مادة البحث الأساسية (Subject Matter )في هذه المعاهد هي دارسة ما يسمونها بـ( الحالة  البدائية Savage ) لتلك الشعوب ، ولذلك  فهي ضد إدخال أية تغييرات هيكلية  (تنموية ) على أوضاعها القائمة  حتى لا تضيع  وتدمر ثقافات( الشعوب الأصيلة ). وحتى صارت هذه النزعة (أيديولوجية )تستحكم على المناهج البحثية   السائدة في هذه المعاهد  ، وهي لا  تختلف كثيراً عما كان يؤمن بها  الآباء الأوائل  من علماء الانثروبولوجيا   والتبشيريين والمستكشفين والمستطلعين وشذاذ الآفاق الذين مهدوا الدروب وهيئوا العقول لقادة الحملات العسكريين  من عتاة الاستعماريين  للنفاذ إلى أعماق أفريقيا والاستيلاء عليها .

 ومن سوء التوفيق فإن الوسطاء و( المسهلين) قد اتخذوا من  منتوج هذه الجهات – ولو بصورة غير مباشرة- كمصادر معرفية  لتكوين الخلفية التاريخية و الصورة الحالية  عن الصراع ودينامياته لتقديم التسهيل المطلوب. والمحزن  إن المعرفة المتأتية من مثل هذه الكيانات قد لا تكون مبرأة  من الأجندة الخفية  ، ولذلك  فلا نشك أبداً بإن لهذه الأطراف  دوراً قي  جلب موضوعة (التنوع)- بمعنى التقاليد المحلية - إلى صلب الاتفاق  ودعم الاتجاه التفتيتي عوض الدعوة إلى فتح  المسار التكاملي الذي يمكن فتحه بالتنمية الحقيقية الشاملة .

رابعاً : القيادات ذات النزعة العلمانية : غني عن القول أن كثيراً من قادة الحركات  يرتبطون بعرى إيديولوجية  ووشائج فكرية   باليسار السوداني ، ومعروف عن هذا الاتجاه السياسي بإن  له موقف معادي  أصولي من دينامية  واتجاه التدامج  القومي الحالي  في السودان ، أي تلك السيرورة الماضية المتجلية في هيمنة اللغة العربية  وسيطرة الثقافة العربية –الإسلامية مزيداً من المساحات والفضاءات والتهام الثقافات الفرعية .لان عدم وقف هذا الحراك –ولو اصطناعياً - من شأنه أن يفضي إلى  ذوبان  الثقافات الفرعية كلها في التيار (الاسلامو-عروبية )-على حد تعبيرهم -  الجارف ، والذي يعتبره اليسار تاريخياً  بأنه العائق الأكبر في التبشير بفكره الأممي و تمدده السياسي في العمق الشعبي (13)

هذه هي مصادر الأساسية الدافعة تجاه المحافظة على (التنوع العرقي و"الديني")  بمعنى تأطير الانشطار الأفقي   القبلي والعشائري القائم  في دار فور ، والرأسي على مقابلة (عرب /أفارقة) .

وإذا طرحنا مفهوم( التنوع العرقي والديني ) الأثير لدى  هؤلاء جمعياً على بساط التحديد  والتعريف  وطلبنا من كل هذه الجهات بأن يدلونا بما يعنون به ؛ يقيني أن كل التعريفات والتحديات لا تخرج عن : التباينات الشكلية الخارجية البادية على الجماعات الإثنية في دارفور ،والمتمثلة في الأوسام   القبلية والرموز الفولكلورية والرطانات اللسانية وأنماط وطرائق كسب العيش  التقليدية من زراعة ورعي  وحرف صناعية ..الخ  أو التشطير الرأسي  (عرب /زرقة ). وإذا كان هذا هو مفاد التنوع ألا يحق للمرء أن يتساءل ما جدوى القتال من اجله و واستماتة في سبيل المحافظة عليه؟ وهو لا يضيف إلا المزيد من التقوقع الاثني والانغلاق  القبلي المفضيان  إلى  المزيد من التشقق والتشظي ؟ أليس من الأجدر فتح المسار لتيار عام يتمتع بجوهر روحي يجتذب النوافر  ويستوعبها في دينامية تطورية لبلورة ثقافة  كلية منسجمة ومتناسقة ، عوض ثقافات متشظية و ذات أقطاب متعددة ومتنافرة ومتعادية ؟أليس من الأجدى البحث عن.(هوية دارفور)  الجامعة ؟ الهوية بمعنى :" كينونة وانتماء مبنيان على أساس فارق موضوعي يكون مبرراً للتحيز (مع أو ضد ) بلا مفكر فيه أحياناً أو الاثنين معاً في أحيان أخرى ، وقد يكون هذا الفارق الموضوعي نوعياً كحالة إنسان/حيوان أساساً كيان إنثي ثقافي "(14)

ومهما يكن من أمر ، فإن موضوعة( التنوع العرقي والديني) تتمتع بقيمة مضافة في معادلة شمال –جنوب بلا أدنى شك  أو ريبة‘ ولكن تفقد قيمتها بالجملة في أية محاولة لتسويقها في  دارفور .

3-2تركيز مبالغ على موضوع (الجندر)

لقد طغت ظلال الأدوار الخارجية وغطت على مواضيع كثيرة في الاتفاق ، ومن بينها موضوعة (الجندر) التي استحوذت على  قدر كبير من الاهتمام  ،حيث  تختتم كل مادة من مواد الاتفاق تقريباً فقرتها الأخيرة  بالدعوة إلى إفساح مجال  للمرأة أن تفعل كذا وكذا .  وحني لا يساء الفهم والقصد من وراء إبداءنا  لهذه الملاحظة  ، نؤكد ابتداءً بان كاتب هذه السطور من دعاة تحرير المرأة ونهضتها ،  وإن الاهتمام بشأن المرأة  أمر رائع ، ومما يغتبط له المرء ؛ غير إن ما نريد توضيحه هنا هو أن الاهتمام لم يكن ناشئاً من البيئة المحلية والبنية الثقافية القائمة ولا يستند على مطالب النساء  في دار فور ؛ وإنما هو بمثابة إسقاط  لآخر تجليات حركة حقوق المرأة  التاريخية  ، والتي  اخذ معدل وتيرتها  يزداد منذ مؤتمر السكان بالقاهرة عام (1994م )ومؤتمر المرأة في بكين عام(1995م)، لتصبح تياراً عالمياً جارفاً  وبنداً حاضراً في كل طاولة نقاش .وتكتسب أحياناً طابعا إيديولوجيا  . فلذلك فإن هذا الاهتمام قدً لا يعني بالضرورة إنقاذ المرأة من براثن الفقر وتحسين أوضاعها  المزرية  وتخفيف آثار الحرب عليها،  بقدر ما يعبر عن اتجاه فكري يدعو إلى تحريرها  من ربقة ( ثقافة ظالمة )!. وهو الأمر الذي دفع بالاتفاق أن يقفز عدة درجات من مستوى برامج رعاية (الأمومة والطفولة) إلى مستوى المطالبة بـ(حقوق المرأة).وبإمكاننا أن نستدل على ذلك من محاولة حجز خانة لها حتى في الوظائف العسكرية."أن تتضمن العضوية فيها النساء  من جميع الطبقات الاجتماعية "(15)

 

3-3عدم وضوح البيانات  الداعمة لمزاعم الأراضي المقتطعة

من القضايا التي احتلت مساحة كبيرة من الجدل والنقاش في مفاوضات أبوجا ،  قضية الأراضي التي اقتطعت من دارفور ،إلا أن  الغريب  في الأمر أن الاتفاق لم يشر لا بالتصريح أو التلميح إلى  أسماء ومواقع الأرضي المقتطعة . ومن الدواعي الباعثة للقلق دائما، خاصة لمن يعمل في حقل البحث، أن يسمع المرء مزاعم قوية تروى كأنها مسلمات، دون أن يجد لها معطيات كافية يسندها. فور علمنا بوجود أراضي مقتطعة  من دارفور  بمراسيم سيادية ، قمنا بالبحث  عن  الخرائط الدالة على  ذلك الاقتطاع، وفحص  خرائط  السودان منذ  العهد الاستعماري للأسف لم نهتد إلى أية بينة تدل على هذا الاقتطاع الجديد ، كل ما  تظهر  الإلحاقات القديمة التي تمت في العهد الاستعماري ، وأكثرها أخذت من الجنوب  ومنح إلى الشمال مثل إلحاق( آبيي) لكردفان عام (1905م) وضم (كفيا كنجي) لدارفور عام (1935م). أو منحها  إلى دول المجاورة بصفة نهائية مثل ضم الشريط الممتد من العوينات إلى واحة الكفرة إلى ليبيا ، واقتطاع( أدري ) من دار المساليت وضمها لتشاد . وأحباناً بصفة مؤقتة مثل منح كينيا امتياز إدارة مثلث( الالنبي)  موطن شعب توركانا عند ملتقى الحدود السودانية –الكينية الأثيوبية  ، أو تركت مفتوحة لخلافات دائمة مثل تلك  القائمة بين السودان وأثيوبيا حول أراضي زراعية خصبة في شرق القضارف ( مثل الفشقة  وجبل الدود ) ، وحكاية  الحدود السياسية والإدارية لمثلث (حلايب.) بين مصر والسودان .

يقول النص الوارد في الاتفاق " دون الإخلال بأحكام اتفاقية السلام الشاملة المتعلقة بالحدود بين الشمال والجنوب ، وأية اتفاقية دولية نافذة بين جمهورية السودان  والبلدان المجاورة تتم إعادة حدود دارفور إلى الموقع التي كانت عليها أول يناير 1956م  . ويجرى فريق تشكيل فريق تقني متخصص لترسيم الحدود على هذا الأساس"(16)

ولكن الأسئلة التي مازالت في حاجة إلى  إجابات هي:مَنْ الذي عدَّل الحدود؟ ومتى؟ ولماذا ؟ وأين المواقع التي لحق بها التعديل؟. ولافتقارنا الشديد للمصادر المدونة التي تسعفنا للإجابة على هذه التساؤلات - كما أسلفنا -   لجأنا إلى البيانات السماعية والمأخوذة من مصادر شفهية  . ونعتمد هنا على أثنين منها ، يقول الأول : أن المرحوم الدكتور جعفر محمد على بخيت  عندما  كان وزيراً للحكم المحلي في أوائل السبعينات القرن الماضي  أصدر قراراً عدل بموجبه الحدود بين المديرية الشمالية ومديرية دارفور  وذلك باقتطاع  المربع الشمالي على الحدود المصرية من مديرية دارفور وضمه  إلى المديرية الشمالية (دنقلا) . الرواية الثانية تقول:  أن مرسوماً جمهورياً قد صدر عام 1996م لقضم ذلك المربع من ولاية شمال  دارفور وضمه للولاية الشمالية ، وصدر مرسوم آخر عام 2006م بعد التوقيع على اتفاق ابوجا جبَّ  المرسوم الأول  وأعاد المربع إلى موضعه في دارفور.  وعلى الرغم من أننا لا نستبعد صحة إحدى الروايتين   أو كلتاهما، و أن عدم ظهور التعديلات على الخرائط لا يعني إطلاقا  أنها لم تحدث ، والمثال  الأوضح على ذلك أن كل الخرائط الفدرالية المعتمدة في السودان تجعل المنطقة المعرفة بـ( بدار الزغاوة )التي تضم (سابفاً)محليات (الطينة وكرنوى و أمبرو)   جزءًا من ولاية غرب دارفور والواقع  الإداري القائم والفعلي يؤكد بأنها جزء من شمال دارفور).

ولكن رغم كل ذلك فنحن  معنيون  بأن نجد  تفسيراً مقنعاً بإجلاء الغموض الذي يكتنف بعض جوانب  موضوع  الاقتطاع  والإجابة على بعض التساؤلات الملحة مثل:لماذا لم تذكر المنطقة المقتطعة صراحة في الاتفاق كما ذكرت منطقة (أبيي) في اتفاق نيفاشا؟ وما سر الاهتمام المبالغ بمربع صحراوي لا يقطنه أحد ولم يعرف له ثروة ظاهرة أو باطنة  بهذا القدر؟ . في ظني أن جزءاً كبيراً من هذا الفيضان العاطفي حول (الأراضي المقتطعة) ناتج عن  ثقافة التي تكونت نتيجة للصراع حول واحة( العطرون /النطرون) خلال التسعينات من القرن الماضي ، عندما تغير نمط  استغلال مادة (العطرون) جذرياً بعد دخول الشاحنة بدل الجمل في نقلها وظهرت استخدامات صناعية أخرى لها علاوة على الاستخدامات التقليدية  مثل(تمليح ) المواشي وتحضير (السَّعود/ التمباك)   وتطلب ذلك نقلها بكميات تجارية كبيرة ، وأصبحت تدر أموالا كثيرة .

 كان الصراع - في بادئ الأمر - بين محليتي (مالحة) والتي هي مركز شعب الميدوب (نوبي الأصل) ومحلية (امبرو) وهي أحد مراكز شعب الزغاوة (صحراوي الأصل ).  وظل هذا الصراع يتغذى ويستمد  وقود استمراريته  من خلال عملية (القبللة) الشاملة التي فتنت  المجتمع طوال عهد (الإنقاذ) . ففي خضم هذا الصراع المحلي  سرت شائعة قوية مفادها بان الحكومة المركزية   تخطط  ، بل هي  قررت ضم واحة العطرون  لدنقلا. . فلذلك نجد أثر هذا الصراع كان واضحاً في بدايات انفجار الأوضاع في دارفور ، حيث كان مطلب استعادة واحة العطرون من مطالب الأساسية للحركات ، فمثلا  في مارس عام 2003م سلمت حركة تحرير دارفور -(قبل أن تتحول إلى حركة تحرير السودان ) – لـ(آلية التفاوض)(17) مذكرة من تسعة بنود تتضمن مطالبها  والبند رقم (8) ينص على " إعادة منطقة  عطرون إلى شمال دارفور " (18) ولكن رويداً رويداً توارى هذا التحديد وليحل محله المفهوم الجمعي (الأراضي المقتطعة )بدون تعيين أو تحديد.

والخلاصة التي نريد أن نصل إليها ؛هي أن  جزءاً كبيراً من هذا الاهتمام يعود إلى  التوجسات والهواجس  ورواسب التي تراكمت ورسخت في الأذهان وتمكنت من النفوس  خلال هذه الأزمة المحلية ، وتدعمت بحالة تهيؤ السيكولوجي  التي توفرها دائماً ظلال(نظرية المؤامرة) المتولدة عن  حالة انعدام الثقة  بين المركز والأطراف ، لتصبح قضية الأراضي المقتطعة في الصميم القضايا التي تم علاجها في الاتفاق ، رغم عدم وضوح دعاوى الاقتطاع .

 

3-4 مغزى المطالبة بإقليم واحد

عندما فرَّ العقيد الراحل جون قرنق إلى الغابة عام (1983م) قيل وقتها أن  أحد الدوافع  الأساسية لهذا الفرار هو القرار الجمهوري رقم (1) الذي صدر في العام نفسه ، والذي تم بموجبه   تقسيم ( الإقليم الجنوبي) إلى ثلاثة أقاليم  (الاستوائية ، بحر الغزال وأعالي النيل )، وعندما عاد قرنق عام (2003م) أي بعد عشرين عاماً من القتال من أجل جنوب واحد ،وجده قد أصبح  عشرة أقاليم( ولايات) وعشرات المحافظات /المحليات - (القد تمت إعادة تسمية المحافظات  بـ"المقاطعات" على الطريقة الأمريكية بيد أنهم  لم يغيروا مفهوم" الولاية "ذات الجذر العربي/ الإسلامي ، ربما لان أمريكا  نفسها تستخدم نفس المصطلح)- ،إلا أن قرنق  لم يبد أي اعتراض على الوضع الإداري الجديد . بل وربما كان مغتبطاً وممتناً لأولئك الذين وفروا له كل هذه الهيكلية الإدارية لتشغيل الآلاف من الكوادر التي عانت في الغابة لمدة عشرين عاماً. وهو تصرف براجماتي ينم عن المرونة  الفكرية والذكاء السياسي لهذا القائد.

وعلى ضوء هذه المقاربة ،فإن الحيرة تحاصرنا حيال موقف  قادة الحركات وإصرارهم بأن تكون دارفور إقليماً وحداً  دون تقديم مبررات ومميزات التي يمكن الحصول عليها من إعادة توحيد الإقليم ، وفي غضون بحثنا للمبرر الكافي و الحقيقة الكامنة وراء هذا الموقف سألنا أحد العالمين  ببواطن الأمور في وسط الحركات  عن مغزى هذا الإصرار، فإذا به يضيف على حيرتنا دهشة ويرد بقوله  :" إصرار لا معنى له"!.

ويبدو واضحاً ومن أجل الخروج من هذا المأزق ،وتخطي عقبة  إصرار الحركات على (الإقليم الواحد)  وتخندق الحكومة  خلف (النظام الفدرالي) الذي ابتدعته بتقسيم دارفور إلى ثلاث ولايات ؛ اتفق الأطراف عرض  الأمر للشعب ليفتي فيه .و نص  الاتفاق على أنه " في حالة  تصويت الأغلبية ضد الاقتراح الرامي إلى إنشاء إقليم واحد يتم الإبقاء على الوضع وبنية الولايات الثلاث في دار فور ، ويجرى حل سلطة دارفور الانتقالية وتضطلع كل من الحكومات المنتخبة قي ولايات دارفور الثلاث المهام المتبقية لسلطة دارفور الإقليمية كل في ولايته "(19)

ومن حق أي مراقب أن يتساءل لماذا كل هذا العناء؟ وما هي محاسن الإقليم الواحد ؟ وما هي مثالب الولايات الثلاث؟ نسمع كثيراً من قادة الحركات – خاصة من جماعة  العدل و المساواة-أنهم يريدون (إقليماً واحدا) كما كان الحال قبل" الإنقاذ"، دون ذكر أية  ميزة  إضافية( للإقليم الواحد)،كما أن نتيجة الاستفتاء شبه معروفة  لأن الحكومة التي بيدها ولاية المال والإدارة لا يمكن أن تخسر الجولة بأي حال من الأحوال. أجل إنه إصرار عبثي !.

3-5  الالتباس الدلالي بين مفهومي " الحركات" و ( الدارفوريين )

لقد حرص الذين صاغوا الاتفاق على تحديد إجرائي لكثير من المصطلحات والمفاهيم الرئيسية الواردة فيه، وكان تعريفهم لمفهوم (الحركات) مثلاً هو " ... يقصد بها حركة / جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة "(20). ولكن من الواضح أن ثمة اختصار وابتسار مقصود في هذا التعريف ، لأن  الحركات  والجماعات التي كانت حاضرة في منبر أبوجا  لم تكن مختزلة في هاتين الحركتين وإنما كانت هنالك تنظيمات أخرى أكثر عراقة وتنظيماً منهما ، مثل: (التحالف الديمقراطي  الفدرالي)  الذي يقوده كل من  السياسي المخضرم  أحمد إبراهيم دريج  والأكاديمي الشهير الدكتور شريف حرير، وهو التنظيم –فضلاً عن عراقته النسبية – كان مستقلاً تماماً ،إذ لم يكن منشقاً عن أي من الحركتين .  وحتى الأجنحة المنشقة كانت لها منابرها المستقلة ، فمثلاً حركة تحرير السودان جناح  عيد الواحد محمد نور اشترطت لمشاركتها أن  يسمح لها الدخول في المحادثات بوفد مستقل ، ولبي طلبها ، و هناك جماعة( الإدارة الحرة) بقيادة عبد الرحمن موسى أبكر الذي وقع على الاتفاق باسم  جماعته وأخذ حصته من كعكة أبوجا، وهو يشغل  الآن (2007م) منصب (وزير مركزي) الوحيد الذي وفره الاتفاق . وهناك لجنة تسعة عشرة برئاسة خميس أبكر ،  إذن لماذا تم اختزال  مفهوم الحركات في أحد أجنحة حركة تحرير السودان وجماعة العدل والمساواة فقط ؟ . وينسحب الشيء نفسه على مدلول مفهوم "الأطراف " يقول الاتفاق أن الأطراف يعني: " حكومة السودان وحركة/ جيش تحرير السودان والعدل والمساواة "(21).

من المؤكد أن كل هذه الصياغات لم تنزل على الاتفاق هكذا عفواً ، وإنما نتجت عن  حالة  التقاء مصالح التي  جمعت بين  الحركتين والحكومة ، في حالة تعتبر نادرة  ، على الرغم من أن زاوية النظر للمكاسب المتوخاة  كانت مختلفة إلا أن كل (الأطراف)كانت على  يقين بعدم دقة تلك التوصيفات والصياغات .فقادة الحركتين دفعتها الطمع والأنانية ونزعة إقصاء الآخر لاتخاذ هذا الموقف الاحتكاري، بينما تصرف المفاوض الحكومي بمكر ودهاء ، ونصب فخاً لهؤلاء الإقصائيين ليقول لهم في النهاية المطاف ، أن مدلول  مفهوم "الأطراف" ومعنى  مصطلح " الحركات"ليسا حكراً لكما، وإنما حق مشاع لكل من يلحق ويوقع  ويصبح (طرفاً) له حق أخذ نصيبه من كعكة أبوجا الضئيلة . وقد وفر هذا الالتباس  وضعا مغريا لتشظي  الحركات وتشققها وتفتتها وتفريخ المزيد  من الجماعات المجهرية  التي  بلغ عددها تسعة عشر فصيلاً  في أحد التقارير .وقد بلغ الهزل حداً  أن تنهض كل شرذمة من الأفراد و(تفبرك) لنفسها  هيكلية صورية ، وتتقدم للتوقيع  وتحصل على حصة  مما ادخرته الحكومة من محصول أبوجا الهزيل .وأوضح مثال لذلك حالة ذلك الشاب الغرير المغمور الذي ظهر فجأة في حفل( تلفزيوني) أعد له مسبقاً  في طرابلس ، وهو يوقع على أوراق  لا أحد يعلم ما مضمونها ،  وأمام دهشة الجميع  منحوه أحد أهم الوظائف الواردة في (اتفاق أبوجا) ، ألا وهي (والي إحدى الولايات الثلاث).

غير أن اللبس الأكبر  ، بل والخداع الأعظم والخلط الذي بدا متعمداً ومدبراً بذكاء  من قبل الوفد الحكومي تمثل في التداخل الدلالي  بين مفهومي( الحركات ) و(الدارفوريين). وقد فلح الوفد  الحكومي  في تمرير هذه الخدعة أيما فلاح ، حيث تمكن من استغفال مندوبي  الحركات بصك  نظرية  "تمثيل الدارفوريين " المبهرة وذات البريق الظاهري   وسار  بهم حتى النهاية ، و في الاتجاه  الذي يريده فقط . وكانت عاقبة هذا الاستغفال إخلال عظيم في القواعد والمعايير والخطوط الإرشادية التي يجب استنارة  بها  للوفاء  بمطلوبات تقاسم السلطة والثروة بإحداث نقلة نوعية  تضيف قيمة جديدة في هذه  الأطر الساكنة تاريخياً ، كما فعل( اتفاق نيفاشا). ولكن يبدو أن الوفد الحكومي كان مدركاً للعواقب (غير المرضية)التي يمكن أن  يؤول إليها  الوضع  ما بعد الفترة الانتقالية لو سمح للحركات أن تحتل (مقعد)دارفور وتمثيلها فعلياً ؛ وقرر إعاقتها استباقياً بهذا اللبس، والذي من خلاله تمكن من السيطرة  والتحكم على آلية توجيه وتنفيذ الاتفاق.

 عندما يقول الاتفاق  " دمج الدارفوريين في إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في دار فور "(22) . يقف المرء حائراً أمام  هذه  العبارة ،لأنه ليس هنالك فئة منبتة قادمة من كوكب آخر  تدير شئون دارفور ، فلو نص الاتفاق على " منح الدرافوريين سلطة كافية في إدارة شئونهم السياسية والاقتصادية والثقافية  والاجتماعية "أو " دمج أعضاء  الحركات في حكومات دارفور  " أو " دمج الدارفوريين في السلطة المركزية " لكانت  تلك  الصياغات كلها كافية  لإزالة اللبس والغموض، ولاتسقت الدلالة  مع تحديداتهم لمفهوم (الدمج) أو( إعادة الدمج/Reintegration) التي جاء تعريفها على أنها  " تعني إجراءات المساعدة الموفرة للمقاتلين السابقين بهدف زيادة القدرة على استيعابهم في المجتمع المدني، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي"(23) وأكثر الفئات التي في حاجة ماسة للدمج هي :  النازحون (Displaced ) و اللاجئون(Refugees )والمتضررون من الحرب (War-affected )،فإذا كان المقصود بالدمج هذه الفئات كان من الواجب  أن ينص على ذلك  بوضوح بحيث يمكن التخلص  من الاستشكال الدلالي الذي خدم الطرف الحكومي .

وإذا كانت من مصلحة الحكومة أن يظل مفهوم (الدمج ) غامضاً ومبهماً ، فأن  الحركات قد جنت على نفسها بأن مرت على  مقترح   " دمج الدارفوريين في دارفور" مر الكرام ، وقد يكون ذلك استغفالاً  أو استهواناً   بأهمية تحديد المصطلحات والمفاهيم الرئيسية بدقة .في كل الأحوال  النتيجة النهائية للالتباس هي  توفير  الفرصة  الذهبية للحكومة   بأن تُسيِّب  مفهوم (الدارفوريين )وتميعه و تمنح المناصب والمراتب  التي أنشأت وفاء لمطلوبات تقاسم السلطة   لمن تشاء  وتمنع ممن تشاء ، وتردع المحتجين  وتحاجهم  على  إن هؤلاء أيضاً  من دارفور ، و في أمسَّ  الحاجة إلى (الدمج) !.

3-6 الجمل الاستدراكية  المفرغة  لشحنة النص

بيدو أن الحرص الشديد من قبل الوسطاء للوصول إلى التسوية وإرضاء كل الأطراف ، قد دفعهم إلى   حشو نص الاتفاق بكم هائل من الجمل الاستدراكية ، وحشد كثير من العبارات  المفرغة لطاقة وشحنة المواد والبنود ،حتى تكاد أن تميل بها عن  جادة مقصدها الأصولي وتحيلها إلى عبارات جوفاء وجمل مهلهلة لا تحمل إلا مضامين  شكلية . والمثال على ذلك محاولة تفريغ نظرية "التمييز الإيجابي " - و التي تعتبر من أكثر النقاط إشراقاً  في الاتفاق برمته  بما تضيفها من قيمة عملية يمكن قياسها –  وذلك عن طريق  قيدها  باستدراكات  كادت  أن تقعد بها  وتطفئ مفعولها ، حيث تكررت عبارات مثل : " مراعاة المتطلبات المتعلقة بالمؤهلات والكفاءة " و " الانسجام مع الدستور القومي الانتقالي " ودون الإخلال  بـ"التزامات اتفاق السلام الشامل ". و قد جعل الوفد الحكومي من "الدستور القومي الانتقالي" و"اتفاق السلام الشامل" مناطق محرمة يحظر الاقتراب منها، أو يكون الاقتراب منها بحذر شديد بحيث لا يمس الصميم، وأفضى هذا السلوك في نهاية المطاف إلى إبعاد القضايا الجوهرية عن طاولة المفاوضات.

صحيح أنه أحياناً تحاول هذه الجمل أن تضفي بعض القوة على النص، والمثال على ذلك ما جاء في النص التالي: "..يمثل فيها  -بصورة فعلية – كل من حركة / جيش تحرير السودان  وحركة العدل والمساواة  كأداة رئيسية لتنفيذ هذا الاتفاق وتعزيز التنسيق والتعاون بين دارفور الثلاث"(24) فعبارة (بصورة فعلية ) قد جاءت هنا استدراكاً من أجل تمتين النص  وتسمينه، إلا أن النص ظل رقيقاً ً ، إذ لا شيء يلزم الطرف الحكومي بإعمال هذا ( التمثيل الفعلي ) في ظل وجود نظرية (تمثيل الدارفوريين في دارفور "!.

4- في صميم الاتفاق

وبعد أن نقاشنا  في الفقرات السابقة  بعض القضايا غير الجذرية  والملاحظات العامة والشكلية  ، فابتداء من هذه الفقرة  سوف نلج في صلب الاتفاق، ونحاول تحليل موضوعاته الأساسية والفرعية بنفس النهج التفكيكي والناسف للمفاهيم والمصطلحات بغية الحصول على الدلالات الحقيقية واكتشاف الخطاب الداخلي .

4- 1 تقاسم السلطة

 يبدو واضحاً أن  منهجية  معالجة ملف  السلطة قد  تركزت تماماً على  أطروحة( الكتاب الأسود) – حتى بدون وعي من بعض الأطراف- أي  بمعنى أن مفهوم( السلطة) في هذا السياق يحمل  مدلولا  كميا يُقاس بعدد (المناصب) أفقياً ، وليس مدلولاً كيفياً يُعَّير بعمق تأثيره وجلاء مخرجاته  وشموليتها لتنعكس على الجوانب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكلية . والسلطة هنا فقط مناصب سياسية يتم ملئها فوقياً ، وليس انبثاقاً حقيقاً لإرادة جمعية،ذات مرجعية جديدة تستطيع أن تساءل مركز استحكام التاريخي وتؤثر  على طبيعة اتخاذ القرار . والمفارقة أنهم كانوا شحيحين حتى في هذه المناصب السياسية الكمية ! . وسنتناول فيما يلي أهم الوظائف المتولدة عن ملف السلطة .

4-1-1 منصب "كبير المساعدين"

المولود الأول لهذا المخاض العسير من المفاوضات  حول ملف السلطة هو  منصب " كبير مساعدي الرئيس "،و الذي جاء بديلاً  لمنصب (نائب الرئيس) الذي ظلت الحركات تطالب به  مراراً ،مع رفض مطلق من قبل الحكومة  عن تلبية هذا الطلب  ، وكحل وسط  -على طريقة (لا يجوع الذئب ولا تموت الشاة )-  تم( نفخ)  هذا المولود الجديد حتى يبدو (كبيراً) وأدثر  بثياب الفخامة والضخامة لمزيد من التمييز، ووضع في منزلة بين منزلتين ، نائب الرئيس من الأعلى ومساعدي /مستشاري الرئيس الآخرين من الأسفل . أما ما إذا كان يتلقى (أوامر) مباشرة من الأعلى  ويتسلم( الرجاءات) من الأسفل ؟   فالمعطيات التي لدينا ليست كافية لتقديم  إجابة شافية لهذا التساؤل المشروع  . بيد أن البند رقم (65) من المادة الثامنة في الاتفاق ينص على:"... ويصبح كبير مساعدي الرئيس في المرتبة الرابعة في هيئة الرئاسة "(25). أي بعد النائب (الثاني ) مباشرة  ، ولكن بالنظر إلى السلطات المفصَّلة في الاتفاق لا شيء ينبئنا بتحمل مسئوليات دستورية حقيقية ، في ظرف غياب الرئيس ونائبيه الأول والثاني (مثلا) لأي سبب من الأسباب  .

 على كل حال ، فنحن لا نذهب  مذهب الذين قالوا بأنها وظيفة شرفية أو صورية أو ديكورية ، و إن مفردة ( الرابعة )لا تعني  أكثر من طريقة الجلوس على  طاولة مجلس الوزراء !.  هذا إيغال في التهكم نبرأ منه ،و مصادره معلومة ، هي إما  شاتمة  لغرض  أو شامتة لمرض !.(26) . فلننأى عن كليهما  وننظر إلى الأمر بعين الجد ، ونفحص الاختصاصات التي وفرها الاتفاق لكبير المساعدين بصدق وأمانة.  فقد ورد في البند رقم ( 50) ما نصه :" تقع  عليه المسؤولية الأولى في مساعدة الرئيس في كافة القضايا المتصلة بدارفور "(27) , وهي مسئولية جسيمة ، نظرياً على الأقل . وعلاوة على ذلك فإن من اختصاصاته  أن  " يقترح على الرئاسة مرشحين ... لملء الوظائف المتولدة بموجب الاتفاق "(28) أيضاً أمر لا أحسبه يسيراً.

ولكن ، والحق يقال ،أن كل هذه النصوص الجلية قد تمت إعاقتها بوضع ( ألغام) الاستدراكية أمامها  مثل :"بعد التشاور مع الأطراف " ، وأحياناً بوضع اشتراطات  وقيود ثقيلة مثل  أن يقدم- في إطار ترشيحه لمن يشغلون الوظائف المتولدة عن الاتفاق - " شخصيات بارزة تحظى بالاحترام ، وتكون قادرة أن تحظى بثقة جميع الأطراف "(29) وهو شرط يكاد يكون تحقيقه مستحيلاً بالنظر إلى حالة التشرذم الاجتماعي والسياسي التي تعيشها دارفور  . أما أعتى هذه القيود فقد جاء ليحد من سلطة كبير المساعدين التنفيذية كرجل (الأول)  في دارفور  حيث نص الاتفاق على :  " دون المساس بالحاجة لإقامة علاقة مباشرة بين كل ولاية على حدة وحكومة السودان فيما يتعلق بالشئون الإدارية والمالية "(30) و " تمارس سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية (مهامها).. دون المساس بالسلطات والمهام  الدستورية لولايات دار فور  الثلاث"(31)وهي قيود غير معقولة إذا كان كبير المساعدين  يتولى منصب رئيس السلطة الانتقالية  لدارفور ويحرم عليه مس الهيكلية الدستورية القائمة للولايات ولا يستطيع أن يبدي رأياً في الشؤون المالية والإدارية للولايات الثلاث ، ناهيك عن عدم الاقتراب مما يتعلق بشئون  الأمن والدفاع والخارجية والتي استبعدت أصلا ، ومن الواضح  فإن  ذلك  قصد منه  (تجويف ) المنصب وتجريد رئيس السلطة من سلطته المفترضة إلى الحد الذي  لا يستطيع بسطها حتى على الولاة الذين يرأسهم ، وإن أطل خلاف  يحول –بنص الاتفاق – "  إلى رئاسة الجمهورية لتسوية بالتوافق "(32)  وهي ترتيبات إدارية أضافت  تعقيدات جديدة على المسرح السياسي في دارفور وزادت من  ثغرات التجاذب والمشاكسة بين السابقين والقادمين الجدد .

كلا من النصوص ومضامين الاتفاق في هذا الباب  تدل على أن المفاوض الحكومي  كان في حالة من يقظة  وهندسة ذهنية جلية ، مما مكنته من أن يستقرئ المآل  بمهارة ، وقد تجلت ذلك  لاحقاً  على  قدرتها  في (طبعنتة/ Normalization ) منصب( كبير المساعدين) بإطفاء الشعاع  الذي يحيط بالنعت  ("الكبير") ويضفي إليه ميزة إضافية ، ليصبح  مضافاً مجازياً  بلا قيمة فعلية ، وبدأت زهرة (التمييز الايجابي)تذبل وتزول  دون أن تثمر  غلة يمكن جنيها ، خاصة يعد أن صرف اللقب عينه (مساعد)على مندوب الشرق في القصر الجمهوري بعد توقيع ما سمي( باتفاق سلام الشرق)، ومع  كونه بلا صفة (كبير) إلا أنه يتمتع بذات السلطات ويضطلع بنفس المسئوليات ، ولن نفاجأ أبدا في حال تم تعميم لقب (كبير المساعدين)  على جميع أقاليم السودان في المستقبل القريب  ، من أجل تذويب ميزة  ورمزية " المرتبة الرابعة" الواردة في (اتفاق أبوجا).

وعلى الرغم من  هذا التوصيف القاتم لظروف المحيطة بهذا المنصب من الناحية العملية ، إلا أنه ثمة وظيفة معنوية كبيرة يوفرها المنصب ، وتتمثل  في تسكين نفوس الجماهير الشعبية في دارفور وإشباع لهفة قلوبهم  وأبصارهم  مصوبة أبدا تلقاء (  القصر الجمهوري ) رمز السلطة والحكم في السودان ، فإن مجرد دخول أحد أبنائهم القصر مصحوباً بترميزات  الأبهة الملوكية سيعوض  شيئاً من فاقد السلطة التاريخي  الذي يعانون منه ، ويضفي اعتدلا على الذهنية الشعبية العامة و الكيان النفسي الجمعي . وقد تكون نتيجة سالبة بأن يتمكن المركز من السيطرة على الاتجاه العام   بتوهيمات خادعة ،وبأدوات تخديرية يسكن حمية المطالبة التاريخية بالسلطة ،ولكن ما نريد تأكيده هو وجود قيمة معنوية  رمزية  موجبة لهذا المنصب على مدى القصير على الأقل .

وأما المصير النهائي لمنصب (كبير المساعدين) فقد تم حسمه في الاتفاق بحيث يمر بثلاث مراحل أساسية: أولاً: المرحلة الانتقالية الحالية، وتظل الوظيفة من نصيب من يشغلها.  ثانياً :مرحلة ما بعد الانتخابات الوطنية التي  عالجها الاتفاق  بأنه: " على أثر الانتخابات الوطنية  يقوم الحكام المنتخبون في ولايات دارفور الثلاث بتقديم قائمة مشتركة من ثلاثة مرشحين ليتولى منصب كبير مساعدي الرئيس ورئيس سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية  ويقوم الرئيس  بتعيين ( أحد)(33) هؤلاء من قائمة المرشحين المقدمة إليه"(34) .ثالثاً مرحلة ما بعد الاستفتاء ويتوقف مصير الفترة الانتقالية بكامل أجهزتها على نتيجة الاستفتاء إن صوتت  الأغلبية  مع الإقليم الواحد ، يتم تقنين وتجذير هذه الهياكل الناشئة بما فيها منصب كبير المساعدين، وفي حالة  رفض هذا الخيار بأغلبية تبقى  الولايات الثلاث  بأطرها القديمة وينصرف الجميع  إلى حال سبيلهم  ، غير مأسوف عليهم ،  ونعود كل الأمور حيث كانت قبل التمرد . 

ولكن من وجهة نظر الواقعية  فإن الحكومة  تستطيع -  مادامت تمسك بمفاصل المنظومة الإدارية والمواعين المالية – أن تجيير النتيجة لصالحها ، فمن المحال أن تجلب الهزيمة  لنفسها، وبذلك- أي بانصرام الفترة الانتقالية - تنطفئ  كل المصابيح المضيئة –إن ثمة شيء منها -  ونعود إلى المربع الأول ،إلا إذا استجدت متغيرات لم تكن في الحسبان  وغيرت اتجاه الأشياء وساهمت في ترجيح كفة الخيار الثاني أي إعادة توحيد الإقليم وبقاء السلطة التنفيذية  فإن ذلك يعد فتحاً عظيماً يجب كل نقائص الاتفاق.    

4-1-2مناصب السلطة التنفيذية القومية

لقد عالجت المادة الثامنة من الاتفاق كيفية حصول  (الدارفوريين )والحركات على المناصب في السلطة التنفيذية  القومية، عدداً وصفة ،ونص البند رقم( 64) من المادة المذكورة أنه  " لدى إجراء  التعيينات لتحديد تشكيل الرئاسة خلال فترة ما بعد الانتخابات يولى الاعتبار  المناسب لضمان تمثيل لمناطق شمال السودان بما ذلك دارفور ، التي لم تتمتع تاريخياً بمثل هذا التمثيل "(35). هذا النص شديد الغموض من جهة المقصود بـ(الانتخابات)،  ورغم إمكان الاستخلاص بأن المقصود هو(الانتخابات القومية) كما نص عليه الدستور الانتقالي ،ولكن كان من الأجدر أن يكون الأمر أكثر وضوحاً حتى لا تلتبس مع  انتخابات دارفور المقررة بموجب الاتفاق . كما أن محاولة ايلاء اعتبار مناسب لضمان تمثيل لمناطق شمال السودان بما في ذلك دارفور ،لا تتسق مع الروح العام لنصوص المادة، لأن عبارة(ضمان تمثيل مناطق شمال السودان ) تبدو كأنها حشرت قسراً لأن الجهد هنا لحل معضلة (عدم تمثيل دار فور تاريخياً) ولكن قرنها بمناطق تمتعت بهذا التمثيل  هو دوران في حلقة مفرغة . على كل حال يبدو أن الباعث الأساسي  لهذا النص هو  حكم غيابي بأن دارفور لا تستطيع أن تحصل على حصتها من السلطة عبر صناديق الاقتراع  ولابد من إجراء تدابير خاصة بإعمال نظرية " التمييز الايجابي " احترازاً للفراغ الذي يمكن أن ينجم  عن اختفاء السلطة الانتقالية ، وخلو القصر من( ابن دارفور البار) وعودة المظالم التاريخية واحتجاجات المسلحة .

أما في الفترة الانتقالية أي ما قبل الانتخابات  فـ " تضمن حكومة السودان تمثيلاً فعلياً  للدارفوريين "(36)  كيف تضمن؟ بأن" يتخذ الرئيس الخطوات المناسبة لضمان تمثيل  منصف للدارفوريين "(37) .وقد فصل الاتفاق الإجراءات التنفيذية لتحقيق هذا التمثيل المنصف للدارفوريين ،  والإجراءات هي :

أ –مناصب الوزراء الثلاثة ، ووزراء الدولة الثلاثة التي يشغلها  الدارفوريون (الآن) تظل مشغولة بالدارفوريين . ولم يحدد  سقف زمني لهذا الإشغال ، مما يذكرنا بالمحاصصة العراقية.

ب- تخصيص منصب وزير (واحد) ووزيري دولة لمرشحين من حركة/جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة . وقد أمعن منصب الوزير لزعيم جماعة (الإرادة الحرة ) وهي ثاني أهم وظيفة وفرها الاتفاق بعد( كبير المساعدين).

ج- تخصيص رئاسة إحدى لجان المجلس الوطني (البرلمان )لمرشح من حركة/جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة.  ويبدو إدراج هذا التخصيص في بند تقاسم السلطة التنفيذية غريباً إذ من المفترض أن يكون مكانه الطبيعي المادة التاسعة التي تعالج قضايا ( الهيئة التشريعية القومية ).

مهما يكن من أمر ،فإن التخصيصات قد بدت هزيلة للغاية  ويعزى ذلك –في افتراضنا-  إلى العرض المقنع الذي قدمه الوفد الحكومي  للوسطاء بأن أي تخصيصات أكثر من ذلك لا تجد سعة خالية في هيكلية الدولة لتستوعبها ، وإن أصروا – أي الوسطاء- عليهم القيام  بإدخال تعديل جوهري في (اتفاق السلام الشامل ) وذلك بالخصم من نصيب الحركة الشعبية لتحرير السودان ،وليس من نصيب الحكومة فقط  وهو ما لا يريده الوسطاء ولا تقبل به الحركة الشعبية .

4-1-3 الهيئة التشريعية القومية

تمت معالجة  الموضوع (الهيئة التشريعية القومية ) في المادة التاسعة  من الاتفاق ، حيث حدد البند رقم (71)  عدد المقاعد التي ستمنح لأعضاء الحركات ، وهي اثني عشرة مقعد تم احتسابها بمعادلة رياضية بسيطة جداً ، مؤداها أن حصة دارفور من النواب (غير المصدرين)! تبلغ (70) نائباً / مقعدًا  والمشغول فعلياً في البرلمان  القومي الآن (58)نائبا ،ليصبح العجز  (الشواغر) أثني عشرة  مقعداً يتم ملئها بأعضاء الحركات . أما في مجلس الولايات ( الغرفة الثانية من الهيئة التشريعية القومية ) ؛ فالعبارة الواردة في شأنه لا تفيد الحركات بأي حال من الأحوال، وهي : " يكون ممثلو ولايات دارفور في مجلس الولايات أشخاصاً بارزين ليست لهم علاقة حزبية ولا انتماء سياسي "(38) وفي الحقيقة ،أنهم موجودون أصلاً بذات الصفة والرسم .

4-1-4 الهيئة القضائية

ربما جاء ذكر الهيئة القضائية في الاتفاق استكمالا للضرورة الشكلية في أن يحتوي- أي الاتفاق- على السلطات الثلاث ، ولذلك نجد أن المادة رقم (10) تتحدث عن الهيئة القضائية باقتضاب شديد، حيث دعت إلى  أن " يمثل الدارفوريون على نحو مناسب في المحكمة الدستورية والمحكمة القومية العليا"(39). و لكن من المستحيل الوفاء بمثل هذا المطلب، وذلك نسبة لحساسية المناصب القضائية وخطورة إعمال المحاصصة الإقليمية عليها .

 

 

4-1-5الخدمة المدنية القومية

لقد خصصت المادة رقم (11)  من الاتفاق لمعالجة مسألة (اختلالات في الخدمة المدنية القومية )، خاصة في نطاق الوظائف المرموقة  مثل :السفراء ووكلاء الوزارات  ورؤساء مجالس الإدارات. وقد  تميزت هذه المعالجة بسمتين نادرتين: الأولى :الابتعاد عن مفهوم الدارفوريين ، حيث أُقِّر  في البند( 77) الفقرة (أ) منه بأن يتم " تخصيص هذه المناصب على المرشحين من حركة / جيش تحرير السودان  وحركة العدل والمساواة حصراً" (40). والسمة الثانية هي :  الابتعاد عن آلية " الترقيم " أي الحصر بالعد ، باستثناء الفقرة (ب) من البند (91) التي خصصت منصباً واحداً من المناصب للحركات ؛فإن أمر تحديد العدد ترك لحسن تقدير(Goodwill) السلطة المركزية  وذلك بتفعيل نظرية  "التمييز الإيجابي" عن طريق (مفوضية الخدمة المدنية) التي تنشأ بموجب الاتفاق. علاوة على ذلك تحدثت المادة (13) عن تمثيل الدارفوريين في المؤسسات والمفوضيات القومية الأخرى. ومن الواضح بأن العملية برمتها عبارة عن زرع الأفراد هنا وهناك،  وهي عملية شكلية ليس في مقدورها تعديل المعادلات القائمة أو إحداث تغبير جوهري في مساقات السيرورة التاريخية .

 

4-1-6القوات المسلحة وأجهزة تطبيق القانون والأمن القومي

لقد خصصت لهذه الفقرة المادة (12) والبنود من (79- 83)  والتي تحدثت نظرياً عن إحداث توازن في القوات المسلحة  وأجهزة الشرطة والأمن  بتفعيل وإعمال نظرية " تمثيل الدارفوريين " أما الإجراءات التنفيذية لمطلوبات هذه المادة فقد وردت في الفصل الخاص بـ(الترتيبات الأمنية ) التي سوف نتحدث عنه لاحقاً.

 

 

4-1-7 المؤسسات التعليمية

لقد تمت معالجة أمر المؤسسات التعليمية في المادة رقم (14) و تعتبر- بالحق –هذه المادة من أوفر المواد إنتاجا وأكثرها برجماتية ، حتى أن البند (86) منها يمكن اعتباره أهم بنود الاتفاق قاطبة  والذي نصه "تتفق الأطراف على الحاجة ، كمسألة ذات أولوية ، إلى معالجة المشاكل المرتبطة بتردي نوعية التعليم  والافتقار إلى فرص القبول بالنسبة لدارفوريين على مستويات التعليم الابتدائي والمتوسطي والثانوي  والجامعي ، يجب، من بين أمور أخرى ، اعتماد مبدأ التمييز الإيجابي ، لتشجيع المجموعات الدارفورية المحرومة على الإقبال على التعليم "(41) . وقد وضعت أسس وإجراءات محددة لتطبيق مبدأ (التمييز الإيجابي) وهو أمر – أي وضع الإجراءات خاصة لتطبيق هذا المبدأ - يحدث لأول مرة  منذ أن بدأنا متابعة نص الاتفاق  ، وتتمثل هذه الأسس في الآتي:

أ/ مراعاة المرونة في تطبيق  معيار ألأهلية في القبول في الجامعات والمؤسسات الأخرى للتعليم العالي في السودان .

ب/إلغاء الرسوم المدرسية عن كافة الطلاب الجدد من دارفور على جميع المستويات لفترة خمسة أعوام .

ورغم الايجابية والجاذبية  التي يتمتع بها نص  الفقرة الثانية ‘ إلا أننا يجب أن نكون على شيء  من الحذر في هذا الاحتفاء ، لأن  هنالك  ثمة ما يشبه (المسكوت عنه) في حاجة لمن يستنطقه ،  ألا وهو من يتحمل تكلفة الإنفاق على التعليم خلال هذه الفترة؟ وهي عالية جداً . ولا شك  أن الإجابة الجاهزة في الأذهان هي " الحكومة المركزية " وإذا كان  الأمر كذلك فهل بتخصيصات مستقلة عن تلك التي التزمت بها بموجب الاتفاق؟ أم تقوم بتدبيرها من مصادر أخرى ؟  وما هو الأساس القانوني  الذي يلزمها لفعل ذلك ؟ . إن الإجابة على هذه التساؤلات مهمة وضرورية  جداً حتى لا  يحدث فراغ ، وينطبق على الوضع التعليمي في دارفور مغزى المثل السائر أراد (يكحلها عماها) ،إذ ينام  الناس على أماني (مجانية  التعليم) وتغرق الحكومة المركزية في بيروقراطية تخصيص وتحويل الأموال ، ويشهد التعليم مزيداً من الانحدار والانهيار  عوض التقدم والازدهار.

ج/ ينص البند (88) من هذه المادة الخاصة بالمؤسسات التعليمية على تخصيص (15 بالمائة ) من الفرص في الجامعات الموجودة في العاصمة لصالح  أبناء دارفور، و(50بالمائة )من فرص الجامعية القائمة في دارفور لأبنائها ، وهو مكسب عظيم  لا يدانيه مكسب آخر من مكاسب الاتفاق الشحيحة ، فضلاً عن ذلك   أنه  يمكن - في هذه الحالة - تطبيق  مبدأ( التمييز الإيجابي) بشكل ملموس ، والتحقق منه عملياً.

 4-1-8 العاصمة القومية

تحدثت المادة (15) عن العاصمة القومية ، و قصارى ما توصل إليه  المتفاوضون أن خصصوا منصباً وزارياً واحداً  في حكومة ولاية الخرطوم لصالح الحركات ، وهو تخصيص يبدو صورياً وخادعاً ، لأنه بإمكان الحكومة إن تقوم( بزحلقة) احد أبناء دارفور الذين يشغلون هذا المنصب أصلا ، وتقوم بتنصيب القادم الجديد  في موقعه ، والحال  في النهاية  (لا رحنا ولا جئنا)! . وكل هذا نتيجة لعدم نظر الحركات لموضوع العاصمة القومية من زاويته الكلية. وأعني بذلك أن حالة الإحساس بالتهميش في العاصمة من قبل أبناء الأقاليم الطرفية  مرجعها نمط البناء الاجتماعي و الاقتصادي والديموغرافي التاريخي الذي افرز طائفة من (حراس البوابات / Door Keepers) ممن ينتمون  للكتلة النيلية والذين يتحيزون أثنياً ضد جملة من ساكنة العاصمة ،ولديهم أحساس معمق أيضا بأن الخرطوم ضيعة موقوفة لهم . هذه نزعة سيكو- ثقافية  مركبة ونتجت عن سيرورة تاريخية معقدة للغاية  ،و لا يمكن اختراقها بتعيين وزير هنا ومستشار هناك لأن مثل هذه الأفراد موجودون أصلاً وليس في استطاعتهم  أن يفعلوا شيئاً حيال هذا التيار المتأطر في البنية الاجتماعية لقطاع كبير من ساكنة العاصمة فالأمر-إذن-  في حاجة إلى حراك اجتماعي كلي وانقلاب ثقافي شامل.

وإذا حاولنا  أن ننظر بعمق قليلا  حول مسألة اهتمام الحركات بالعاصمة القومية  وتقصي منطلقاتها نجدها تتباين إلى حد كبير ، فمثلاً  قيادات العدل والمساواة التي خدمت في هيكلية( الإنقاذ ) أكثر من عشرات سنوات واغتنت –كغيرها- وامتلكت البيوت والمتاجر والعقارات  في العاصمة، واندمجت –إلى حد كبير- في المجتمع (الخرطومي ) تروم  العودة إلى أملاكها و منازلها وتلتحق بعوائلها وتدير ثرواتها . إنه الدافع السيكولوجي الأساسي للاهتمام بأمر العاصمة بهذا القدر من قبل قيادات  العدل والمساواة. صحيح قد تكون هذه النزعة خفية وغير جلية  ، بيد  أن المقطوع في السيكولوجيا أن  مفعول دوافع الخفية ( الأنا)أكثر فعالية في سلوك الأنام  من الأنماط الخارجية والظاهرية للأفعال والأقوال .

أما قيادات حركة تحرير السودان - و التي لم تر  بعضها العاصمة قط في حياته-  تسكنها  وسوسة شيطان الحركة الشعبية  و التي لم تنفك  تدفعها إلي  المحاكاة الأبدية   حتى في( أوضارها ) الثقافية – كما ذكرنا ذلك مراراً- وتجعلها تجلب إلى الاتفاق نصوص غريبة أو حتى مسيئة لثقافة أهل دارفور . وأهم  مثال على ذلك ما ورد في البند رقم (90) من المادة (15)  ونصه: "  يجب أن تكون أجهزة تطبيق القانون للعاصمة القومية تمثلية  للسودانيين جميعاً ، وتتلقى تدريبياً جيداً وحساسة للتنوع الثقافي والديني والاجتماعي في السودان "(42) هذا النص مستنسخ بالحرف من( اتفاق نيفاشا ). ونلتمس له  مبرراً أخلاقياً كافياً أن يرد بهذه الصيغة في (اتفاق نيفاشا )لأن المفاوض الجنوبي   كان لديه مخاوف من تطبيقات بعض مبادئ الشريعة الإسلامية في العاصمة  ، من ضمنها العقوبات الخاصة بتناول المشروبات الروحية ،  وبالأخص تناول الجعة المحلية المعروفة بـ(المريسة) . فالجنوبيون  يعتبرون شرب المريسة جزءاً من مفردات ثقافتهم ، وهم فخورون بذلك .  وأما عندما ننظر إلى  ثقافة أهل  دار فور فلا نجد  عنصرا  إيجابياً واحداً  تجاه المريسة ، بحكم أنها ثقافة إسلامية ، حيث نجد حتى قانون( دالي) الذي  سنه وطبقه سلاطين دارفور من  القرن السابع عشر  حتى بواكير القرن العشرين  ينص على  أن :"قصاص شارب الخمر الجلد ثمانين جلدة وكسر أواني الخمرة في بيته"(43) ومن غرائب الأقدار  أن هذا عين ما تقوم به شرطة الآداب (أو شرطة حماية المجتمع كما يسمونها في السودان ) في الحملات (كشات) التي تشنها على أوكار(أندايات) صناعة المريسة وأختها( العرقي  )، وهي حملات تحدث في نيالا  وبورتسودان  ودنقلا وكوستي  أي في جميع مدن السودان الشمالية وليست مقصورة على العاصمة فقط . وقد وضع النص السابق في نيفاشا  بهذه الصيغة لكي ( تتدرب) الشرطة وتكون( حساسة) تجاه من يعتبر المريسة –وغيرها بالطبع - جزء من ثقافته (التنوع الثقافي) وغير محرمة في دينه (الديني) ، ويعد سُكر بها شكر وفخر (الاجتماعي) !. أما الحقيقة القائلة  أن  كثيراً من الرجال  في عموم السودان مولعون بشرب المريسة ،أجل ،تلك  حقيقة ثابتة ، ولكنها ليس عذراً كافياً لقيادات دارفور من أن تجعل من نفسها الطليعة المدافعة عن حقوق (السُكرجية )! وليس صحيحاً على الإطلاق بأن "المريسة وجبة إضافية لكل العائلات "(44) في الفاشر كما كتب أحدهم يوماً . إن النصوص الخاصة بالعاصمة القومية في الاتفاق قد بدت وكأن غاية مرادها من الدعوة لترتيبات جديدة لإدارة  العاصمة القومية  هي تحقيق مصالح الجنوبيين لا الدار فوريين.

4-1-9السلطة الولائية

تتولى المادة (16) من الاتفاق مهمة تنظيم السلطة التنفيذية الولائية لدارفور ، وذلك  وفق الإجراءات  التالية :

أ- يتعين أن يكون والى إحدى الولايات  ونائبا والي الولايتين الأخريين من مرشحي حركة / جيش تحرير السودان  وحركة العدل والمساواة . والملاحظة الأولى على هذا النص ، والتي فاتت على مندوبي الحركات  ، أنه لا يوجد في  هيكلية الولايات وظيفة دائمة تحت مسمى (نائب الوالي ) وإنما الذي يحدث أن ينوب عن الوالي في حالة غيابه أحد الوزراء ( والي بالإنابة )

 وفي هذه  الحالة أما أن  تغيير الهيكلية ( وهو أمر مستبعد لأن ذلك- بالضرورة - يتطلب تغيير النظام الفدرالي في السودان كله ) أو أن يترك الوضع كما هو و يناوب أحد وزراء الحركات الوالي عند غيابه ، وفي هذه الحالة ستخسر الحركات إحدى الوظائف الأساسية في الاتفاق وهذا ما حدث للأسف .

ب- يحصل الحركات على منصب وزيرين وكبير مستشارين واحد في كل ولاية من الولايات الثلاث.  وظيفة ( كبير المستشارين ) تبدو غريبة ، وفائضةً هنا ، لأن وفي الأصل وظائف  المستشارين في الولايات بدعة  ابتدعتها السلطة  لتشغيل بعض القادة الجنوبيين الذي كانوا يلتحقون بركب ( الإنقاذ)ة أفرادا أو جماعات حيث يُسكَّنون في هذه الوظائف لأغراض  الإعاشة ولضمان عدم العودة إلى الغابة ، فهم  مستشارون في عناوينهم وألقابهم فقط ، ولكن  لا يستشيرهم أحد ، ويبدو أن ذات النمط قد تكرر الآن في دارفور .

4-1-10المجالس التشريعية الولائية

تقرر بموجب الاتفاق  أن تحصل الحركات على عدد (21) مقعداً  في كل ولاية  ، وذلك ليس بالخصم على المقاعد القائمة الـ(52) في كل  مجلس تشريعي  حيث تكون في هذه الحالة للحركات سلطة تشريعية حقيقية  ؛ وإنما بإضافة أعضاء  جدد من الحركات ليصبح جملة العضوية في كل مجلس 73  عضواً ، وتظل الأغلبية الميكانيكية في يد الحكومة  حتى نهاية دورة المجلس , وبذلك لا نجني أية قيمة إضافية من وجود هؤلاء في المجالس التشريعية الولائية, كما أن اختيار الأعضاء نفسه يتم من تنظيمات متعددة ومتعادية أحيانا ويصب كل ذلك في مصلحة الحكومة .

4-1-11الحكم المحلي

لقد ورد في الاتفاق"ريثما يتم الانتخابات، ترشح الحركات ستة مفوضين حكوميين وستة مديرين تنفيذيين "(45)  ويدخلنا هذا النص مرة في حقل فوضى المصطلحات ، إذ أن مفهوم (المفوض)- (الذي أبتدعه الاتحاد الأفريقي بعد تحوله من منظمة الوحدة الأفريقية ) – لا وجود  له في قاموس مفاهيم النظام (الفدرالي ) السوداني ،قبل نيفاشا وأبوجا على الأقل ، فباتوا يطلقون على كثير من الهيئات المتولدة عن الاتفاقيتين مسمى (المفوضية) ،ولكن المستوى الثاني  الذي يلي  الولاية في النظام الإداري المحلي الحالي يطلق عليه مسمى(المحلية) متطوراً عن (المحافظة)  سابقاً  والقائم عليها يسمى (المعتمد) متحوراً عن (المحافظ ). إذن ما المقصود بـ(مفوضين حكوميين ) في هذا النص؟ هل هم (معتمدون)أم هم رؤساء (مفوضيات )؟. وعلى الرغم من أن السياق أقرب للفرضية الأولى مادام تم ربطهم بـ(المديرين التنفيذيين ) لكن أليس كان من الأجدر أن يطلق عليهم (معتمدين ) وليس( مفوضين) اتقاء للالتباس الدلالي؟ .    وعلى كل، فإن هذه الفوضى ناتجة – في الغالب- عن سوء ترجمة كلمة (Commissioner ).

 وإذا تحولنا من هذا الميدان الشكلاني  لننظر في صميم هذه  التعيينات  نجدها أبعد ما تكون عن إحداث تغييرات حقيقية في بنية الحكم المحلي في دارفور  ، لان منهجية الوفاء بهذه الاستحقاقات لا تخرج عن كونها عملية إحلال وإبدال، أي   بمعنى إنهاء خدمة وتسريح أبناء دارفور الذين كانوا يشغلون هذه الوظائف قبل تنفيذ الاتفاق  ليبدأ تعيين أبناء دارفور من المنتمين الحركات ، وهي عملية تدوير عبثية شبيه بحكاية (ساقية جحا)! لا ترتب أية قيمة إضافية ، فضلاً عن أن جزءًا منها -على قلتها- ستظل شاغرة كحصة مدخرة للحركات التي لم توقع على الاتفاق.

 

5- تقاسم الثروة

يغطي هذا القسم من الاتفاق الفصل الثاني بكامله ، والذي يتدرج من المادة  (18)  إلى (21) أي البنود من (93) إلى (213). وكثير من هذه البنود المائة وعشرة عبارة عن تفاصيل مملة وغير منتجة، فلذلك سوف نركز على البنود ذات الأهمية الكبيرة أو تلك تثير مسائل إشكالية.

ومن حسن الطالع فقد افتتح الفصل بتحديد مفهوم " ثروة السودان "، تحديداً يتسم بالدقة والشمول، حيث جاء أن هذه الثروة تشمل " الموارد الطبيعية والبشرية والتراث التاريخي والثقافي والأصول المالية بما في ذلك الائتمان والافتراض العام والمساعدة والمعونة الدولية"(46). وأما بشأن طريقة تقسيمها فقد تم تنظيمها وفق ما جاء في الفقرات التالية:

5-1 العلاقات المالية بين المركز والولايات

لقد تصدرت المادة (18) بمهمة تنظيم العلاقات المالية بين الحكومة المركزية  وحكومات الولايات ،  ورغم الحديث الكثيف حول هذه العلاقات والسياسات إلا أنه ليس هنالك جديد  يذكر، وقد بدت العملية كلها كأنها محض إعادة وصف لذات  النظم و القوانين القائمة مع تكييفات قليلة لضرورات عملية. أما إذا حاولنا تصيد النقاط القليلة المضاءة في هذه العلاقات المالية  فنجد أن أكثرها إشراقاً تلك التي وردت  في البند (119)و الذي يقول " يجوز  لولايات دارفور – ضمن اختصاصاتها وسلطاتها – إبرام اتفاقات لرفع مستوى حشد الموارد وإدارتها "(47) . ولعل المقصود بـ(إبرام الاتفاقات)  هو عقد اتفاقات مع  أطراف تمويلية خارجية ، غير أن نص البند (130)  قد ألقى بظلال قاتمة على نصاعة  النص الأول  بأن سلط عليه شروطاً ثقيلة عندما نص على  : " يمكن  لولايات الاستفادة من الاقتراض من الأسواق الرأسمالية الإقليمية والدولية شريطة أن  يتم بكيفية منسجمة مع سياسة الاقتصاد الكلي  وان تحظي الحكومة الولائية بالجدارة الائتمانية  ودن الإخلال باستقلالية بنك السودان المركزي وفي حدود قدرة الحكومة القومية أو بنك السودان أو كليهما على تقديم ضمانات سيادية على القروض الممنوحة للولايات "(48)  وهي اشتراطات تقترب من المنع التام ، أو إطفاء النقطة المضيئة التي ذكرناها من قبل.

 

 

5-2إعادة الإعمار

المادة رقم ( 19 ) والتي عنوانها " السياسة الاقتصادية لإعادة الإعمار والاستثمار والتنمية" وتمتد  بنودها من (135)إلى (155 )و تركزت معظم معالجاتها حول المبادئ النظرية  للاقتصاد الكلي وهي مسائل تجريدية (لا تتناطح حولها العنزتان )!.

أما البنود من (145-153) فتتحدث عن سياسات تنمية دارفور ، وهي بنود كثيرة جداً، وقليل منها  مثمرة . ومن هذه  البنود  المثمرة البند رقم "153" الذي ينص على: " تتفق الأطراف على أنه ، إضافة إلى حصة دارفور من تحويلات مفوضية تخصيص ومراقبة من صندوق  الإيرادات القومية ، تقوم الحكومة القومية  بتخصيص أولي قدره 3000000000دولار (ثلاثمائة مليون دولار ) لصندوق دارفور لإعادة الإعمار  والتنمية لعام 2006م" والتزمت الحكومة بدفع 200مليون دولار للسنة الواحدة خلال السنتين 2007-و 2008م.

يتناول البند رقم (154) تنظيم إنشاء " صندوق دارفور لإعادة الإعمار والتنمية"  وهو أهم مؤسسات التي نتجت عن الاتفاق ، ويمثل الماعون الذي تصب فيه كل المساهمات  الداخلية والخارجية  أو كما جاء في نص الاتفاق  فتح المجال بأن تنشا " صندوقاً خاصاً لتلقي أموال المانحين الدوليين الخاصة ببرامج سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية "(49)

ومن المتوقع أن تكون العقبة الأساسية التي ستُجابه بها هذه المؤسسة  وتعطل وظيفتها بيئة الفساد المستشري في أوصال الدولة ، والتي أخذت  تسري حتى في الأوساط الشعبية ،حيث  أصبحت (ثقافة نهب الدولة)  ذات قيمة ايجابية (بطولية) في  نظر المجتمع لأن النوائب التي حلت بأفراده أفقدتهم  أي مبرر أخلاقي للانتماء إليها  - أي الدولة – وباتت السلطة تشتري الولاء بمنح الامتيازات  وتسهيل سبل الفساد والإفساد ، وهي دينامية  زادت وتيرتها بظهور مصدر ريعي مثل النفط . في خضم هذه البيئة المتعفنة سوف تتبدد كل الأموال التي يمكن أن يجمعها هذا الصندوق والذي قد يتحول إلى (تكية هبر) ومجالاً لاغتناء الأفراد والفئات والجماعات، ولا نشاهد شيئاً على أرض الواقع، تماما مثلما شاهدنا في الحالة العراقية.

فضلاً عن ذلك فيجب عدم الاستهوان  بالحالة السيكولوجية المفترضة للموارد البشرية التي تدير مثل هذه المؤسسات ، خاصة القيادات العليا التي قد تتقمصها إحساس عارم بضبابية المستقبل   باعتبار أن هذه وظائف مؤقتة،وضرورات (الشطارة) تقتضي في الحالة ( ملء الكيس ) وبناء( الفيلا) قبل الزحلقة ! .

     

5-3 الحواكير

 ظلت المطالبة بتثبيت (الحواكير) بنداً ثابتا  في القضايا الأساسية التي تطرحها  الحركات  منذ قيامها  حتى  آخر بيان لها في اجتماع(  أورشا ) الذي عقد في الفترة من ثالث إلى سادس من أغسطس (2007م )  حيث نص البند الثالث من البنود التسعة على " تقديم إطار مشترك في ما يتعلق بتقاسم السلطة وتقاسم الثروة والترتيبات الأمنية  والحواكير .."(50)

ومن واضح أن كثير من المطالبين بالحواكير  يسيئون فهم مدلولها  الحقيقي ويجهلون التطور  التاريخي للمفهوم ، فهم يماثلون ( الحاكورة )بـ(دار القبيلة) طراً  ، وأصبحت (الحواكير) في عرفهم إنما تعني (الدارات ) ، وعندما نقول ( دار مساليت ) ، و(دار زغاوة ) ، و(دار ميدوب )،و( دار الرزيقات )..الخ كأنما نعني تلك (دارات)  هي (حواكير)القبائل المذكورة.

 ولكن من وجهة نظر التاريخية ليس ثمة مثل هذا التطابق في الدلالة ، فأول من ابتدع نظام  الحاكورة هو السلطان موسى بن السلطان سليمان سولونق  الذي حكم  في الفترة مابين (1670-1682م ) وهو نظام - كما وصفه محمد بن عمر التونسي - يجعل البلاد كلها ملكاً للسلطان  "وقسم بلاد الحضر إلى "حواكير"  ووزعها على أهله وأخصائه وكبار قومه بحجج مختومة بختمه ، فعاشوا بريعها هم وأهلها المزارعون  "(51) هذا دليل قاطع بأن الحاكورة ليست داراً للقبيلة وإنما كانت(إقطاعية) تمنح للأخصاء  ويشمل هؤلاء الفقهاء والقضاة من الأغراب الذين كانوا يتدفقون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، من السودان النيلي ومصر ، ومن المغرب والسودان الغربي ومن بلاد العرب والحجاز لما عرفت عن هذه السلطنة من إكرام ورعاية بالغة لهذه الطائفة من الناس  .وقد شملت الذين حازوا على الحواكير كبار التجار (الجلابة) ، فضلاً عن الأمراء والأميرات(الميارم)  وكبار رجال الحاشية والبلاط .

  وفي هذا الإطار لم  تكن الحاكورة  أرضاً وبشراً على الدوام  ، وإنما قد تكون بشراً فقط  ، ومرجعنا في ذلك التونسي نفسهً الذي يقول :"وكذلك قسم قبائل البادية  فخص كل قبيلة بأمير من أبناء السلاطين أو بعين من الأعيان تجبى له زكاتها"(52)  ولتدليل على هذا  نورد هنا نص صك تحكير قبيلة الماهرية للميرم (الأميرة)زهرة بنت الميرم فاطمة أم أدريس بنت السلطان محمد حسين بن محمد الفضل  الذي حكم في الفترة من (1831-1839م) يوضح فيه  تنازل   والد الأميرة  الحاج أحمد بن عيسى من أعيان دارفور ، حاكورة الماهرية لابنته وحفيدة السلطان الميرم زهرة .

ويقول النص : " من حضرة سلطان المسلمين ، وخليفة سيد المرسلين سيدنا ومولانا السلطان محمد حسين المهدي المنصور بالله تعالى آمين  إلى كل من يقف على هذا الرسم من ولاة الأمور والأمراء والوزراء والملوك والشراتي والدمالج وأبناء السلاطين والميارم والجبايين وملوك العربان والمشايخ والكراسي والخدامين ومقاديمهم  وكافة أهل الدولة من الخدام أما بعد :فإني سابقاً تفضلت وأعطيت صهرنا  الحاج أحمد عيسى عرباً من الماهرية من جماعة الشيخ دلم ، وأسماؤهم عبد النعيم والنعمان والداني وأحمد وحسين وحامد وزرزار وطاهر  وعجز  هؤلاء الرجال المذكورين كسرت عظمهم واتبعتهم لصهرنا الحاج أحمد عيسى وعفوت له بجميع منافعهم  وصاروا تبعاً له ولذريته . والآن صهرنا المذكور أعطاهم لابنته الميرم زهرة في زيانة رأسها (؟) وأعلمني به ، فأنا أتممته  وقابلتها بجميع منافعهم الشرعية والعادية من الزكاة والفطرة والدم والفسق والهامل  وغير ذلك ليس عليهم شوبة ولا نوبة ولا خدمة جميع أمرهم مقابل اتنايتنا (حفيدتنا) الميرم زهرة ، لا يعترض لها فيهم معترض،  ولا ينازعها منازع،، بل صاروا عرباً لها ، ورعاتها  لها ولذريتها من بعدها  .. هذا جوابي ومشراطي ومهري (ختمي) لمن يعرفه تحريرا في عام 1268هـ(1852م)".(53)

 ثم ظهرت في تطور لاحق   ما سميت بالحواكير  الإدارية ، وهي صكوك ومراسيم  صرفها سلاطين دارفور لزعماء وشيوخ القبائل  ليس  مقابل انتفاع بمصالح إقطاعية كما كان يحدث في السابق   وإنما نظير ضمان ولائهم للسلطنة والقيام بمهمات إدارية مثل الفصل في الخصومات وجمع  الضرائب  والعوائد وتجنيد الأفراد في الفرق السلطانية . وهو النظام الذي تطور لاحقاً إلى ما سميت بالإدارة الأهلية ، والتي تعني بالبشر أكثر من المساحة الجغرافية الماطرة بعلامات حدودية ، لأنها كانت تصرف لزعماء العشائر البدوية التي لا تملك (داراً) كما أن سكان الدار الذي يهاجرون إلى دار أخرى يظلون عملياً تحت إمرة إداراتهم التي هاجروا منها خاصة فيما يتعلق بدفع الضرائب .   

كل هذا الفحص التاريخي  حول مفهوم (الحاكورة) لم يكن  ضرورياً إذا لم تستميت الحركات  من أجل الحواكير / الإقطاعيات بصورة  ملفتة للنظر .  وفي زعمي المتواضع  إن دافع الأساسي  وراء إصرار  الحركات على سحب مفهوم ( الحواكير) من قاع التاريخ  وإلقائه على حلبة المفاوضات الحالية ؛ ليس لجهة تمتين الهوية الدارفورية بإحياء مثل هذه المفاهيم الراكزة وإبراز تميزها ، وإنما هي دافعية (غريزية ) تريد أن تجعل من الحاكورة  ترياقاً مضاداً للنزعة الاستحواذية التي استبدت بالعشائر العربية البدوية في السنوات الأخيرة وجعلتها  تبحث عن (وطن) و بالطريقة الصهيونية  (أرض الميعاد) - أي أن تجد لها( داراً )ولو غصباً وتمتلك (حاكورة) ولو خصماً على الحقوق التاريخية للآخرين ، بعد أن  كانت  هذه العشائر( محكرة  )! لدى الغير كما شهدنا في النص السابق .

و قد وفرت عملية عسكرة النضال التاريخي لأهل دارفور الفرصة الذهبية للعشائر العربية بأن تستولي على مساحات شاسعة من الأراضي خاصة في كتلة جبل مرة والسهول والوديان المحيطة بها "حتى باتت الإبل ترعى في بساتين البرتقال "(51)كما ذكر الأستاذ عبد الله آدم خاطر مرة. ومن المفارقات المحزنة   أنه في الوقت الذي تتحدث فيه الحركات  المسلحة عن (الأراضي المحررة ) تعتبر  عناصر (حلف الجنجويد) المساحات الشاسعة التي استولت عليها  بأنها (أراضي مستعادة/ مستردة )من العدو وتعتبر أنها امتلكتها بـ(حق الفتح)!.

كما أن النتائج  التي سوف تترتب على ألباس نظرية( الحاكورة) على مفهوم ( الدار) تبدو بالغة خطورة على  بعض الجماعات الأثنية  ، وإذا أخذنا الشعب الصحراوي المعروف بـ(زغاوة)  مثالاً ، نجد أن ثمانين بالمائة من أفراد هذا الشعب يعيشون خارج دارهم التقليدية . ومنذ  منتصف تسعينات القرن الماضي سعت جماعات منه إلى تكوين إدارات أهلية في مناطق سكناها الجديدة ، وقد فلحت في بعض المناطق  في جنوب دارفور مثل (شعيرية ) و (مهاجرية ) بمساعدة بعض الإداريين الذين كانوا يرون  أن مثل هذا الإجراء يعبنهم على عملهم ، وأحياناً  تحقق ذلك بعد حروب طاحنة  كما حدث  في( الضعين). وهي نجاحات التي أنعشت  الآمال  في شمال دارفور ،خاصة في وسط  أولئك الذين ملئوا البرية الممتدة من (الفاشر) حتى مشارف حدود جنوب دارفور  في خلال الثلاثين عاماً الماضية ، وقد طالبوا بالإدارات   أسوة  ببني جلدتهم  في جنوب دارفور ، وكونت  حكومة  شمال دار فور لجنة  عرفت بـ(لجنة كبر) ـ لأنها كانت برئاسة محمد يوسف كبر  الذي صار والياً لشمال دارفور فيما بعد  ـ لدراسة هذه المطالب . وقد  أوصت اللجنة في تقريرها بعدم تلبية تلك المطالب لأنها تتعارض مع نظام الحواكير!.

كما أنه ليس خافياً على أحد أن معظم قادة الحركات وعدد كبير من مقاتليها من أبناء هذا الشعب، ولكن الحيرة تتملكنا عند نراهم يتصدرون المطالبين بإعادة هذا لنظام العتيق الذي قد يضر أكثر مما ينفع. كما أن  الدعوة إلى إعادة بناء الحواكير  تتعارض مع الدعوة  إلى دولة مدينة حديثة تقوم على النظام الإداري الحديث. إن تكوين مفوضية  كاملة همها جمع الوثائق وإعادة ترسيم حدود الحواكير  جهد لا طائل منه ويقترب من العبث . إذ يجب أن ينصرف الجهد والمال في برامج توطين وإعادة توطين النازحين واللاجئين في مناطقهم الأصيلة أو أي مكان يرغبونه. وبتحريك المجتمع وتحديثه بمشروع تنموي شامل  يُحجم تلقائياً  دور النظم التقليدية لملكية الأرض، وينتهي الملك القبلي للأرض لتكون أما ارض حكر أو ملك حر تملكها الأفراد  وإما أرضاً مشاعاً تملكها الدولة يستفيد منها الجميع ومن أراد لنفسه ( حاكورة) فيجب أن يكون ذلك وفق قانون الأراضي . كما أنه يجب أن لا تتوقف  معالجة  مسألة البدو في فتح المسارات (المراحيل ) فقط لابد من إعادة توطينهم في مناطق مختارة حتى لا يضطروا  إلى أخذ أراضي الغير عنوة  كما هو الحال الآن.

5-4 الموارد الطبيعية

تحدثت المادة (20) عن تنمية وإدارة الأراضي والموارد الطبيعية، و البند رقم( 161) منها مثلاً ينص على " حق الولايات التي تنتج النفط والموارد المعدنية في التفاوض بشأن هذه الموارد واستلام النصيب المفاوض عليه من الدخل الناتج عنها "(54). إلا أن الغموض يلف هذا النص إذ لم يحدد الاتفاق التفاوض مع مَنْ؟ مع الحكومة المركزية أم مع الشركات المستثمِرة؟ وما صفة هذه الشركات ،  وطنية أم أجنبية ؟ 

في كل الأحوال ، فإن الحديث المكثف حول موارد دارفور  والمبالغات التي نسمعها   حول الثروات المعدنية  الدفينة لا  ترجع  إلى حقائق علمية على أن أحداً قد اكتشفها يقينا ؛ وإنما هي تهويمات افتراضية  تؤدي وظائف سياسية، وقد استغلها كل طرف بطريقته.

فمثلاً الحكومة السودانية  تروج للتقارير المزيفة التي تقول بأن ارض دارفور  تسبح على بحيرة من النفط  وباطنها (فضيحة جيولوجية) –كما توصف أراضي الكنغو الديمقراطية لوجود جل معادن الدنيا فها- لتصل إلى نتيجة نخدم موقفها ومؤداها إن تكالب القوى الاستعمارية  واهتمامها المبالغ بدارفور ما هو إلا طمعاً في نهب هذه الثروة . وهو خطاب سهل التسويق في المجتمع العربي الذي تستحكم في وعيه نظرية المؤامرة  وهي ذهنية شبه خالية من أية بيانات حقيقية عن السودان  بعمومه ناهيك عن دارفور إلا من شذرات مشوهة   ومعطيات  خيالية  تخرج أحيانا عن حد المعقول ،إلى درجة إنني سمعت معلقا عربيا مرموقاً يقول" " سر اهتمام الغرب بدارفور يكمن في أن عملية نقل النفط من الجنوب إلى ميناء بورسودان لا تتم إلا عبر الأراضي الدارفورية "(55) ! لقد استفادت الحكومة من هذا البؤس المعلوماتي وقرعت طبول التخويف والتحذير ، وقد أثمرت هذه السياسة في النهاية  بأن وقف الرأي العام العربي مع وجهة نظر الحكومة السودانية تجاه مسألة دارفور .  

أما الحركات فقد أخذت تروج لهذه الثروة الافتراضية  الكامنة في باطن الأرض لأن ذلك يعطيها مبررا أخلاقياً قوياً  لعملية خروجها على الدولة المركزية ، ويسوغ لها شق طاعة السلطة القائمة ، ليقولوا أمام المتسائلين  أنظروا كيف أرضنا غنية ونحن فقراء وما ذلك إلا لحيف (حكومة الخرطوم) وجور( أولاد البلد)!  هذا الطرق ذا مفعول تعبوي على المستوى المحلي ويجد سوقاً رائجاً في الخارج .

وإن أردتم  الحقيقة المجردة ،فلم يكتشف النفط في دارفور إلا في نطاق ضيق للغاية  يتمثل في حقل ( أبي جابرة)في أقصى جنوب دارفور في الحدود مع غرب كردفان ، وهو حقل هزيل بالكاد تنتج مئات البراميل في اليوم ، ولا يوجد معدن آخر مستغل في دارفور. والغبار الذي يثار حول ثروات دارفور المعدنية سببها أحفر خيول السياسة وليس معدات الحفر والتنقيب  . ولعل الاكتشاف اليقيني الوحيد – لأنها مصحوبة بأدلة علمية – هو ما أعلنه البروفيسور فاروق الباز بأنه –وفريقه- قد اكتشفوا بحيرة مائية في شمال دارفور تزيد مساحاتها عن مساحة لبنان، وقد علقت مجلة(The Economist ) الرصينة  على هذا الاكتشاف قائلة بأن في الأمر مبالغة(Exaggeration) . ومن الجدير بالإشارة  أن البروفيسور الباز نفسه قد ذكر قبل ثلاثة أعوام بأنه اكتشف بحيرة مماثلة تحت رمال الربع الخالي ! ولم يأبه بها أحد ، رغم أن الدول المطلة على الريع الخالي اشد ما تكون لأية  قطرة ماء إضافية  ، فضلا عن مشروعه الخرافي القائم على بناء  فرع اصطناعي للنيل يمتد من أسوان إلى الإسكندرية  عبر الصحراء.

البنود من (163) إلى (175) تتحدث عن إنشاء مفوضية للأراضي  مهمتها تخطيط وتنمية الأراضي والموارد الطبيعية واستغلال الأرض ومراجعة الإجراءات الإدارية  ، وهي نصوص لا تختلف في مضمونها عن مقاصد قانون الأراضي القائم .

3-4النازحون والتعويضات

تتحدث المادة (21) عن النازحين واللاجئين الذين يمثلون الموجع الأساسي ونقطة المركزية للقضية برمتها ولدى كل الأطراف. البنود الممتدة من ( 176)إلى (213) تحدثت عن الحماية والحصول على الوثائق الشخصية ولم شمل الأسر واستعادة الممتلكات والتعويضات، أجل التعويضات !.

وبما أن ملف التعويضات  كان من أهم  الملفات  المعروضة على التفاوض كان الواجب على مفاوضي الحركات الاستماتة في هذا الموضوع  والتصلب كما تصلب المفاوض الحكومي   خاصة ما سمي بـ(التعويض الشخصي ) وقد سمعت وزير الخارجية يقول : " في جميع حروب العالم  لم يسمع أحد بالتعويض الشخصي"(56) وهي مقولة غير صحيحة ،حيث طفت التعويض الشخصي كثير من النيران وأزالت الأحقاد والضغائن بعد حروب مريرة . وقد تبرع الوفد الحكومي بمبلغ 30مليون دولار كبادرة حسن نية  ونأى بنفسه عن أية مسئولية أدبية أو جنائية لما لحق بالأهالي  من أضرار ومظالم ، من نهب لأموالهم  وفتك بأبنائهم وهتك أعراض نسائهم .

اتفق الفرقاء حل هذه المشكلة - التي كان من المفترض أن تكون أهم قضية -  على نسق مؤتمرات الصلح القبلي  ، ورضوا  أن يلعبوا  دور الوسيط (الأجواد) بين خصمين اختصما  أي بين هذا  النازح / اللاجئ  الذي يدعي أن أحداً أحرق قريته ونهب مواشيه واغتصب ممتلكاته أو حتى نسائه واضطره إلى الهروب ليأخذ صفة اللاجئ  أو النازح  ، وذلك الجاني  الذي بات شبحاً ، وتعرفه الحكومة باليقين ولكنها لا تريد تأشير إليه ،وإنما تقول دعونا تضع الأمر في السياق القانوني  نبحث ونلقي القبض عليه ونقتص منه ونتحمل معكم  اكلاف البحث والمقاضاة ولا بأس من دفع بعض المبالغ  لتطيب الخواطر ، والعوض على الله والصفح والسماح وفتح صفحة جديدة والتعايش المشترك. وهي التسوية التي لم ترضي عنها عدد من الحركات بالإضافة إلى النازحين واللاجئين أنفسهم.  

 

6- وقف إطلاق النار الشامل والترتيبات الأمنية

لو غضضنا الطرف عن المبادئ الإجرائية العامة والبنود الفنية التي غطتها المادتان (22) و(23) نجد أن  المادة (24) تتحدث عن الأنشطة المحظورة للطرفين ، ولعل  من أهمها  ما ورد في البند (226) الفقرة (ي) منه والتي تحظر " تحليق أية طائرة عسكرية هجومية في الداخل  أو  في المجال الجوي لإقليم دار فور"(57) وهو مكسب كبير للحركات التي عانت كبيرا من الهجمات الجوية . ومن واضح أن أغلب القيود كان على الجانب الحكومي حيث نص الجزء الأخير من الفقرة (ك) منع وعلى نحو صارم " أية محاولة ...(لـ) نشر قوات عسكرية إضافية من جانب حكومة السودان  في دارفور دون موافقة لجنة وقف إطلاق النار ."(58)

تحدثت المادة (25) عن تعزيز آليات مراقبة وقف إطلاق النار والتحقق وهم ما ورد في هذه المادة هو تحديد دور بعثة الاتحاد الإفريقي الذي وتمثل في الآتي:

1-    توفير الموارد البشرية ( الشرطة المدنية ).

2-    توفير اللوازم اللوجستية

3-    توفير المترجمين للغات المحكية  والمترجمات(ربما وفاء لمطلوبات الجندر)

وأما أقوى العبارات عن دور بعثة الاتحاد الأفريقي هي ما وردت في البند رقم (236) والذي ينص على أن البعثة " تتبني سياسة عدم التسامح المطلق فيما يتعلق بالعنف القائم على أساس نوع الجنس والإساءة إلى النساء والأطفال " (59)

المادة رقم (26) تحدثت عن حماية النازحين وطرق الإمدادات الإنسانية. وفيما يتعلق بالأمن الداخلي في المعسكرات  فقد أنيط الجزء الأكبر من  المسئولية  للشرطة المدنية التابعة لبعثة الإتحاد الأفريقي في السودان ، و التي تقوم بحماية الفئات الضعيفة من النساء والأطفال.  وتتولى الوحدة المشتركة لمراقبة وتسيير العمل الإنساني ،و مراجعة الاتفاق  وتنفيذ إجراءات نزع السلاح في طرق مختارة من طرق الإمدادات الإنسانية  وتحدد مسارات هجرة السكان الرحل .

المادة (27) معنية بفك الارتباط وإعادة الانفتاح والمراقبة المحدودة . وللأسف لم يحدد الاتفاق المعنى الحقيقي لمفهوم " إعادة الانفتاح "، لا في فقرة التعريفات الإجرائية ولا في موضعه مثلما جرى لمفاهيم مماثلة مثل "عملية الاتصال " التي تم تعريفها بأنها تعني " التوفيق بين الأطراف فيما يحدث من المنازعات حول عملية فك الارتباط "(60). وقد فرضت هذه المادة  المتعلقة بعملية فك الارتباط  التزامات مهمة لكلا الجانبين  ففي جانب الحركات عليها أن تقدم " قائمة بشأن المجموعات المسلحة والمليشيات الأخرى التي تنتسب إليها والخاضعة لنفوذها "(61). وقد تركزت غالب البنود  على الجانب الحكومي .ولكن الملاحظة التي يمكن المرور عليها أن العبارات قد صيغت بلغة ومفردات في غاية من التهذيب و الدبلوماسية في بدايتها، فمثلاً فيما يتعلق بدورها في كبح جماح الجنجويد والمجموعات المسلحة  ،عليها -أي حكومة السودان- " فرض قيود على حركة الجنجويد / المليشيات المسلحة وقوة الدفاع الشعبي من مقارهم وحامياتهم ومواقع تجمعهم أو مجتمعاتهم "(62) و" عدم تمثيل الجنجويد في عمليات تجميع ونزع سلاح الحركتين "(63) " القضاء على التهديد الذي يشكله الجنجويد على السكان المدنيين "(64)

وابتداءً  من البند رقم (338) أخذت النصوص تتسم  بشيء من القوة والصرامة ضد الجنجويد / المليشيات المسلحة  إذ ألقت على عاتق الحكومة مهمة " حصر والتحكم في حركتها "(65) و " اتخاذ إجراء قوي وضروري لكبح جماح الجنجويد " (66)و" حظر الإمدادات بالأسلحة والذخيرة "(67) وعلى الرغم من أن إجراءات نزع السلاح قد رُحَِلَتْ إلى المرحلة الثانية من فك الارتباط التي تبدأ اعتباراً من البند (366)إلا أن البند (355) قد نص على " تتعهد حكومة السودان بنزع سلاح الجنجويد / الميلشيات وفقاً لهذا الاتفاق "(68)

في البنود من (341-344) هناك حديث عن المقاتلين الأجانب  ومن الواضح أن المعني هو الحركات المسلحة التشادية  وقد أشيرت إلى اتفاق طرابلس الذي ينص صراحة " على حكومة السودان منع العناصر المتمردة من جمهورية تشاد من البقاء في أراضي السودانية ".(69)

في المرحلة الثانية من فك الارتباط التي أطلق عليها عملية  إعادة الانفتاح – مازال الغموض يكتنف مدلول هذا المفهوم -  البند (350) ينص على  " تقوم حكومة السودان بسحب قواتها إلى مواقع مستوى كتيبة واحدة باستثناء المنشآت  والبنى التحتية الرئيسية والحدود الأمنية الخاصة  بالمدن وتنسحب الحركات من أية مواقع خارج مناطق إعادة انفتاح الخاصة "(70)  هذا النص شديد الارتباك والالتباس  ربما ضاعت المعنى نتيجة لترجمة سيئة .

 ربما يساعدنا نص البند (354 على تعيين مقصود (إعادة الانفتاح) بمعنى  (إعادة الانتشار) والمادة المذكورة تنص على  " يتعين تحديد منطقة إعادة الانفتاح  باعتبارها منطقة جغرافية تكون قوات  وأسلحة طرف محصورة فيها لفترة مؤقتة ريثما يتم تنفيذ جميع مراحل الترتيبات الأمنية النهائية "(71)  وعلى هذا الأساس ألزم الاتفاق الحكومة  بأن " تقوم حكومة السودان بإعادة انفتاح مدفعيتها وإعادة انفتاح العربات المدرعة لنقل الجنود والأسلحة المضادة للدبابات  ومدافع الهاون على مستوى مركز قيادة اللواء " (72)

وعلى الرغم من أن الحديث هنا عن الترتيبات الأمنية بيد أننا  نفاجأ بنود لا تتسق مع عنوان هذه المادة مثلا البند رقم (369) يتحد ث عن إلزام الحكومة بأن تقوم بإصلاح ما أفسدته الحرب من تعليم وصحة ومياه والخدمات البيطرية والزراعة والغابات وصيانة الطرق والمواصلات  وهي أمور - بداهة – موضعها فصل إعادة الإعمار..

البندان (357 و358) يتحدثان عن  تعيين حدود بين الأطراف وإنشاء المناطق العازلة ، أما أمر تنظيم الأنشطة على الحدود الدولية فقد أوكل إلى الحكومة السودانية حصراً باعتبارها مسألة سيادية.  

البندان (364 و365) تحدثا عن إطلاق سراح المحتجزين لأسباب مرتبطة بالنزاع في دارفور باستثناء أولئك المشمولين بقرار 1556 الصادر عن الأمم المتحدة عام 2004م وهو القرار  الذي تحدث عن ( جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإحالة المسئولين عنها إلى محكمة الجنايات الدولية .

المادة رقم(28) تتحدث عن الدعم اللوجستي غير العسكري للحركات ولا شك أنه من أهم مكاسب،حيث حظيت الحركات تحت هذا البند الإمداد بالمؤن  والرواتب (في يوليو 2007م تظاهرت جماعة منهم في الفاشر لتأخر هذه الرواتب! )

وقد تركزت بقية  بنود هذه المادة على البرامج الإجرائية  الخاصة بدمج المقاتلين  السابقين في المؤسسات الأمنية لدارفور .

تعتبر المادة رقم (29) من أهم مواد هذا الفصل  بما اشتملت عليها من إجراءات عملية تتعلق بالترتيبات الأمنية النهائية لدارفور . ويدور معظم حديث هنا حول توفير الحكومة للمناصب العسكرية لصالح المقاتلين السابقين على أساس هيكل الرتب قي الجيش السوداني.

 وتشتمل هذه المناصب على رتب عسكرية  كبيرة . ويلزم الاتفاق اللجنة التي  سوف تشكل لهذا الغرض ( اللجنة الفنية للإندماج)  بأن يتقلد عدد معين من المقاتلين السابقين مناصب عالية على مستوى القيادة العليا  للقوات المسلحة السودانية  والقيادة العامة  والقيادة الغربية  ورئاسة الاستخبارات والشرطة . ولكن دون أن ينسوا الشرط الغليظ " على أساس المؤهلات والخبرة والاحتياجات المؤسسية"(73)

وقد حدد البند (401) عدد المقاتلين الذين يجب دمجهم بـ(أربعة آلاف )مقاتل سابق ، واشترط أن تعطى الأولوية للذين كانوا يعملون في القوات النظامية  وتركوا الخدمة أو فصلوا عنها نتيجة النزاع في دارفور " " بعد دمجهم  يتعين إرسال أو نشر المقتلين السابقين  إلى الوحدات العاملة في دارفور  ، لفترة خمسة أعوام على الأقل فور دمجهم "(74)

وتلزمنا الحقيقة التاريخية  أن نثبت هنا ظاهرة ندر وجودها  في الحروب الأهلية ، ألا وهي  عدم حدوث حالات  فرار واسعة من الجيش والشرطة للانضمام إلى صفوف القوات المتمردة ،  وأكاد اجزم انه على مستوى الضباط  العاملين لم تسجل ولا حالة واحدة ، أن فر ضابط من الجيش السوداني أو الشرطة السودانية  والتحق بأي من الحركات المتمردة ربما كان هنالك بعض الضباط المتقاعدين ولكن حتى هؤلاء في نطاق محدود جداً . صحيح هنالك حالات  انضمام كثيرة نسبياً من الجيش التشادي إلى الحركات، إلا أن هيكلية ذلك الجيش- الذي انهار عدة مرات خلال عقود الأربعة  الماضية – مختلفة تماماً عن نظم الجيش السوداني  ؛ بمعني آخر  أن عملية حمل  الألقاب العسكرية في الجيش التشادي تقوم على مبدأ الجدارة الميدانية ولا تعر للمؤهلات الأكاديمية والدراسة في المعاهد العسكرية إلا القليل من الأهمية  ، فلذلك من العسير الوفاء بمطلوبات التي  وردت  في البند رقم (411) الذي ينص " يتم إنشاء قيادات عليا مدمجة بالنسبة للفرق العسكرية واللواءات ( ولعل المقصود" الألوية"  ) والكتائب عن طريق تعيين  ضباط فرادى (أنفار) وضباط الصف والجنود ويضم المقاتلين السابقين نحو 20% من عاملي القيادات العليا . وأن يتم اختيار قائد لواء واحد من المقاتلين السابقين وأن يكون واحد من بين ثلاثة قادة الكتائب من المقاتلين السابقين "(75) لو تمعنا في الرتب التي يجب أن تتوفر من خلال هذا النص نجدها تمتد  بين المقدم والعميد ، إذاً ، من أين توفر الحركات هذه الرتب العسكرية  العالية ؟ وهل تعتمد العقيدة العسكرية السودانية مبدأ الجدارة الميدانية وتقبل القفز من (سيرجنت ) إلى (جنرال)؟

وقد قرر الاتفاق دمج عدد (1000 ) فرد من المقاتلين السابقين   في الشرطة القومية وحرس الحدود والدفاع الشعبي. ولنا عدة ملاحظات على هذا الإقرار أهمها:

أولاً: هذه هي المرة الأولى التي يتطرق فيها الحديث حول جسم غريب اسمه " حرس الحدود" لأن حرس الحدود المعروف هو (سلاح/ وحدة )في هيكلية الجيش السوداني مثل الوحدات الأخرى(الحرس الجمهوري، سلاح المهندسين، السلاح الطبي..الخ) أي انه ليس جسما مستقلاً حتى يشار إليه بهذا الشكل المفرد. ونجدها ترد في بعض فقرات الاتفاق على صيغة ( وحدات الاستخبارات على الحدود) . ويبدو واضحا أنها بدعة من البدع الكثيرة التي ابتدعتها الحكومة السودانية في السنوات الأخيرة من أجل طمس أثر الجنجويد ومحو صيتها السيئ بإعادة تعميدها و شرعنتها  وإظهارها في ثوب برئ كما في حالة" الشرطة الظاعنة ".

ثانياً : لاشيء  يدفع أو يغري المقاتل السابق للانضمام إلى صفوف " الدفاع الشعبي "، وهي قوة طوعية تتم تعبئتها وتحريضها على القتال بالعزف على الأوتار الدينية والإيديولوجية  التي يقوم عليها نظام الإنقاذ الذي ثار ضده، ولا وهي  تتمتع بأية امتيازات، لا مادية ولا معنوية ، وهذا المقتل السابق قد  تطوع في قتال مجاني في صفوف المتمردين بضع سنين ثم يعود ويكمل بقية حياته متطوعاً؟أهو متطوع أبدي مثل صعاليك العرب وفرسان القرون الوسطى ؟

ثالثاً : لعل الجانب الإيجابي الوحيد في هذا النص هو إمكانية عودة عدد كبير من أفراد الشرطة المحليين الذين انضموا للحركات طوعاً أو كرهاً إلى  وظائفهم ورتبهم السابقة ،وقد لحق بهم الحيف فيما يتعلق بالعودة إلى( رتبهم السابقة ) بعد أربع سنوات من الفرار  كان من الممكن أن ينص الاتفاق على (مساواتهم بدفعاتهم) .

ويقترح الاتفاق بدمج ثلاثة آلاف مقاتل سابق في المجتمع، لتصبح بذلك جملة المقاتلين السابقين الذين تم تحديد مصيرهم( ثمانية آلاف ). ولكن السؤال هل هذا هو حجم قوات  الحركات جمعاء؟ وإذا ثمة من لم يشمله هذا التحديد  فأين يذهب؟.  

وقد نص الاتفاق على أنه " لا يجوز زيادة مجموع العاملين في القوات المسلحة  السودانية  نتيجة عملية الدمج"(76)  وواضح أن هذا الشرط قد جاء وفاء التزامات( اتفاق نيفاشا )الذي قضى بتخفيض عدد القوات المسلحة السودانية . كما يشير الاتفاق إلى إجراءات سابقة بدأتها الحكومة السودانية في دارفور "يجب أن تتزامن هذه العملية مع التزام الحكومة باستكمال العملية التي بدأت  في أغسطس 2004م  والمتعلقة  بتخفيض عدد أفراد قوات الدفاع الشعبي  ووحدات حرس الحدود  وهي العملية  التي تم تسخيرها استجابة للنزاع في دارفور " (77)ولم يشاهد على أرض الواقع أي آثار تدل على القيام بمثل هذه الإجراءات وربما العكس هو الصحيح.

ومع عملية تجميع المقاتلين ونزع سلاحهم ، وهي مهمة مشتركة بين حكومة السودان والاتحاد الإفريقي ، على الحكومة  أن تقوم بتوفير التمويل  اللازم ، بينما يتولى الاتحاد الأفريقي  تقديم الدعم اللوجستي وبعد مرور عام ونصف لم نر أية إشارات لعمليات التجميع والنزع..

البندان (446) و(447) يلزمان الحكومة بإصلاح المؤسسات الأمنية المختارة التالية:

1-    قوات الدفاع الشعبي

2-    وحدات الاستخبارات على الحدود

3-    الشرطة السودانية  وبخاصة الشرطة الشعبية  والشرطة الظاعنة

4-    القوات المسلحة

وإجراءات الإصلاح تقوم على تحديد الحجم والتفويض  وإدارتها على أساس من الحيدة والاحتراف ، وان يكون الانتساب على أساس الجدارة والأهلية  بغض النظر عن العنصر والانتماءات السياسية مع التمثيل المناسب لجميع الفئات  وان تنال ثقة جميع الفئات التي يخدمها وأهل دارفور .

في الحقيقة أن القول بإحداث التوازن في وسط القوات المسلحة السودانية يفتقر إلى الدقة العلمية، لان العنصر الدارفوري هو الغالب  على مستوى الجنود وضباط الصف ، حتى على مستوى الضباط في السنوات الأخيرة عندما كثر الموت في الجنوب وانخفضت المكانة الاجتماعية للضابط  مع تدهور  الوظيفة العامة عموماً، عزفت كثير من الأسر النيلية عن دفع أبنائها إلى الكلية الحربية، وتنحى( حراس البوابات)أو تواروا قليلاً ، وتمكن  كثير من أبناء الاطراف/الهامش المرور إلى تلك المؤسسة دون التحيزات التي كانوا يكابدونها في الماضي ..

المادة (30) تتحدث عن تسلسل العمليات ومواقيتها وهي ست مراحل كل منها محددة بدقة زمني أقصاها (16) شهر.

7-  الحوار الدارفوري – الدارفوري والتشاور

لقد تم تعريف مفهوم الحوار الدارفوري -  الدار فوري  بأنه "  مؤتمر يمكن لممثلي كل أصحاب الشأن الدارفوريين من الاجتماع لمناقشة  تحديات إعادة السلام  للأرض ، وتجاوز الانقسامات بين المجموعات المحلية  وحل كل المشاكل الحالية لبناء مستقبل مشترك ".(78) وقد استندت فكرة المؤتمر إلى ما جاء في إعلان المبادئ  الموقع بين الأطراف  في 5يوليو 2005م  بعرض أي اتفاقات  يتم "التوصل إليها بين الأطراف على  أهل دارفور  لضمان دعمهم  لها من خلال  حوار وتشاور دار فوري – دار فوري "(79)

وأما الوظيفية السياسية  للحوار الدار فوري – الدارفوري  فهي " حشد الدعم  والمساندة من قبل ذوي الشأن في دار فور للاتفاق والتعريف به "(80)

بعض الملاحظات على الحوار الدارفوري- الدارفوري  

أولاً : من الواضح أن الدفع الأساسي في هذا الاتجاه جاء من الوفد الحكومي  لأن الحكومة ظلت متمسكة بموقفها القائل بأن الحركات لا تمثل أهل دار فور  بجملتهم   ولعل النص الذي يقول " يوسع الحوار الدار فوري – الدار فوري والتشاور نطاق تميل غير الكافي لدارفور في أبوجا مما يطيح الفرصة للأطراف الأخرى لأن  تصبح جزءاً من اتفاق السلام لدارفور " هو أوضح دليل على ذلك.

ثانياً : بما أن الحكومة هي المنظم الرئيسي للمؤتمر تمويلاً وإعداداً تستطيع تمرير كثير من برامجها أو التملص من بعض  القيود التي تقيدت  بها في نص الاتفاق

ثالثاً:  قد صيغت هذه المادة بلغة تبدو كأنها معدة سلفاً  حتى من قبل استكمال المحادثات  ويتضح ذلك من بعض الجمل مثل " ... كل ما يمكن تحقيقه  في المحادثات بين الأطراف السودانية بشأن النزاع في دارفور  المنعقدة في أجوبا  وما تفضي إليه من اتفاق "(81)

رابعاً : من الواضح أن المفاوضين والوسطاء كان أعينهم على ما جرى في جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام (الأبرثايد)  ويتجلى ذلك في شعار الحوار ( بناء السلام  والمصالحة في دارفور )  والتوصية التي وردت بإنشاء ( مجلس السلم والمصالحة ) .

خامساً : المندوبين  بحد أقصى 1000مندوب وبحد أدنى 800 مندوب  60% من المجتمع القبلي  و40 % من ذوي الشأن  ، أما الرئيس فيتم اختياره من قبل الاتحاد الأفريقي بالتشاور مع الأطراف  وان يأتي التمويل من حكومة السودان والمجتمع الدار فوري والاتحاد الأفريقي  وشركاء دوليين على رأسهم الأمم المتحدة في شكل دعم لوجستي .

المادة (32) لخصت الأحكام العامة  ومن أهم بنودها أن " يدمج هذا الاتفاق  في الدستور القومي الانتقالي "(81) أما كيف يدمج فان ذلك من شأن المفوضية القومية للمراجعة الدستورية عليها القيام  " بإعداد نص ملائم  دستورياً للاعتماد  وفقاً للإجراءات المحددة في الدستور القومي الانتقالي "(82)

المادة (33)  طرق ومواعيد التنفيذ

 من السهل وضع الجداول على الورق  ولكن المحك في التنفيذ لقد اشتملت هذه المادة على مواعيد تطبيق الاتفاق بدقة ميكانيكية باحتوائها على النشاطات والتوقيتات والجهات المنفذة والموارد ومصادر التمويل والمواقع والوسائل والإجراءات  والمعايير ولكن أين نحن من هذه الدقة بعد مرور أكثر من عام من توقيع الاتفاق ."خلال ستين يوماً"

الضمانات

عندما شكا بعض معارضي  الاتفاق من أن اكبر خلل في الاتفاق هو عدم وجود ضمانات لإنفاذه  رد السيد نورالدين المازني  وهو احد كبار مفوضي الاتحاد الإفريقي  أن الضمانات موجودة ضمن الاتفاق ،غير أن من يطلع على نص الاتفاق قلما يجد مثل هذه الضمانات باستثناء نصوص باهتة تتحدث عن سبل فض المنازعات  بين الأطراف كما جاء في البند (508) من الأحكام العامة " تتفق الأطراف على تسوية أي خلاف أو منازعة تنشأ عند التطبيق  هذا الاتفاق بالوسائل السلمية . كما تتفق الأطراف على أنه في حالة المنازعة بشأن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق يجب إحالة المسألة إلى مفوضية الاتحاد الأفريقي "(83)

فصل الختام في آراء الموقعين والممتنعين

 في البدء لابد من الإقرار أن هنالك متغيرات كثيرة - داخلية وخارجية – صبت كلها تقريباً  في صالح الحكومة  أو كانت  داعمة لموقف المفاوض الحكومي، حتى جاء الاتفاق على هذا الشكل   ومن أهم هذه المتغيرات :-

أولاً : التوقيع على (اتفاق السلام الشامل ) والذي أوقف الحرب نهائياً في الجنوب  وهي حالة مباغتة لبعض قادة الحركات الذين نشئوا في حضن الحركة الشعبية ، كانوا يتوهمون بأن الحركة الشعبية تقوم بمناورات تكتيكية طويلة لتمكين حلفائنا الجدد في دارفور حتى يشبوا عن الطوق ، ولم تكن تدر في خلد هؤلاء القادة أبدا بأن الحركة يمكن أن توقع اتفاق ثنائي مع (حكومة الخرطوم ) وتخذل أهل دارفور  وتكشف ظهرهم بتحالف أعداء الأمس في حكومة الوحدة الوطنية . ولاشك أن اللوم  هنا يقع على قادة الحركات الذين ذهبوا بعيداً في تحالفهم مع الحركة الشعبية ولم يعوا الأدوار البراجماتية التي تتطلبها اللعبة السياسية .

ثانياً : انفضاض نادي ( التجمع الوطني الديمقراطي)  الذي التحقت به الحركات للتو  والذي  يمثل الجسم الأساسي  للمعارضة  الشمالية بعد أن حسمت هذه  أمرها وتصالحت مع الحكومة ، والسبب الأساسي لتداعي هذا النادي أيضا(اتفاق نيفاشا ) لأن المعارضة الشمالية نفسها كانت مستقوية بالحركة الشعبية .

ثالثاً : معظم القيادات  في الحركات عناصر شابة وقليلة التجربة والخبرة في دهاليز السياسة والمفاوضات لذلك كانت تعاني من انسداد الأفق والعجز عن قراءة متغيرات المواقف الدولية والإقليمية واستيعابها بشكل صحيح  حتى أن كثيراً من المراقبين بمن فيهم بعض الفاعلين في فضاء الوساطة والتسهيل كانوا يقولون " لا ندري ماذا تريد الحركات ؟"! ومن جانب آخر سعت هذه القيادات الغريرة ممارسة عملية (طرد مركزي) للعناصر المخضرمة والشخصيات ذات الخبرة والتجربة والفكر ، ومما يدل على ذلك البيان الذي وقعه كل من الدكتور شريف حرير وآدم على شوقار ويوسف أحمد حامد  وآخرين  نعتوا فيه  هذه القيادات بأنها " لوردات حرب ودعاة للتشرذم والشمولية "(84)

رابعاً: الوضع الميداني : الذي لم يكن يوماً لصالح الحركات رغم المزاعم والأكاذيب التي ضللت بها الناس في الداخل والخارج ،إن أبرز النجاحات التي حققتها الحركات خلال السنوات الثلاث من الحرب هي تمكنها من  بيع وتسويق  انتصارات  ونجاحات عسكرية وهمية    وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان ، ومبالغات لا أدري كيف انطلت على الناس ، و في الوقت الذي كاد حلف الجنجويد أن يسيطر على كامل تراب دارفور، نجد هؤلاء القادة يزعمون  بأنهم يسيطرون على85% من مساحة دارفور ،  وأن عديد جيشهم قد بلغ عشرين ألفاً ، وإن خسائر الحكومة قد بلغت عشرات الآلاف وهي كلها معطيات دعائية لا وجود لها إلا في أخيلتهم  .

وقد تمادت هذه الحركات في عملية تضخيم الذات وأخذت تستخدم مفاهيم ومصطلحات هي أبعد ما تكون  عن الواقع مثل  (الأراضي المحررة ) و(حركة تحرر وطني) و(المجلس الثوري). ولكن المؤكد إنها قد نجحت في تسريب وتشريب  هذا الوهم في الاتجاه الشعبي ، والاتجاه هنا بالمعنى السيكولوجي الذي يعنى " حالة من الاستعداد  والتأهب العصبي والنفسي  منتظم  من خلال خبرة الشخص ، وتكون ذات تأثير توجيهي أو دينامي  في استجابة الفرد  لجميع الموضوعات  والمواقف  التي تستثير هذه الاستجابة "(85)        

واستطيع القول بالقطع  أن الحركات لم تكن منتصرة إطلاقا ، بل وخسرت جميع المعارك التي خاضتها ، وكانت مهزومة طوال الوقت ، ولكنها  تمكنت من المحافظة على كياناتها بدعم الجماهير الذين تقمصتهم روح القطيع  ووصلت معدلات قابليتها للاستجابة العاطفية شأوا توحدت مع  مزاعم النصر المدعى  . وقد شُبِّعت  المخيلة الشعبية بكم هائل من الخرافات والروايات الخارجة عن المألوف  والمعقول ، وفي ظروف الخيبة وتوقع الخلاص يمكن السيطرة على   اللاوعي الجمعي بتشويق الذائقة وتخليب الذهن بدس الخوارق واللامعقولات في  الرواية المركزية للحرب (86) .وهو عين ما قصده  أحد ضباط الأمريكيين عندما قال  " في المعركة فإن الظهور بمظهر القوة أو الضعف في غالب يكون أهم من القوة أو الضعف الفعليين "(87) أي أن الحركات كسبت نسبياً ( حرب التصورات ) ولكن خسرت الحرب الفعلية.

ولكن كل هذا الفجر الكاذب بدأ في الانقشاع بعد مرور ثلاث سنوات من الحرب المجنونة  ، وأخذت الحقائق تطل من ركام الأكاذيب  وتبعاً لذلك أخذت الذهنية العامة تشهد تغيرا وتبحث عن مخرج من حال لا يطاق  ، وأخذت تتساءل  إلى أين يقودنا هؤلاء المجانين ؟إلى  الفناء التام ؟

مبررات الموقعين

 ومن الواضح أن  بعض القيادات أخذت تستشعر العواقب والآثار الوخيمة التي يمكن أن تتركها  الحرب المفتوحة على الواقع الاجتماعي في دارفور ،وقرأت الظرف والمآل بشكل أفضل من قيادات الأخرى. وفي هذا السياق سمعنا في بداية مايو عام 2006م  أي قبيل استئناف المحادثات في أبوجا تصريح القائد مني أركو مناوي من انجمينا الذي يقول فيه  " لست من دعاة الحرب (...)سوف أحقق مآربي بالنضال السياسي " (88) ثم أردف ذلك بتصريحه الشهير " إن مليشيا الجنجويد اشتركت فيها كل القبائل  ولحق بها كل شخص طمع في مال الحكومة "(89)     لقد دهش الجميع من هذا التصريح المستلطف تجاه عصابة الجنجويد ، ولكنه لم يأت من الفراغ إنما إحدى تجليات الواقع الميداني، حيث قهرت الجنجويد الحركات وفتكت بالمجتمع المحلي .إن كل شخص الهم  قليلاً من حس مراقبة الظواهر  لا يمكن أن يفوت عليه رصد تلك الظاهرة الغربية ، ألا وهي الروع والفزع الذي أدخله حلف الجنجويد في قلوب أفراد الحركات ، حتى صارت  قوات الحركات لا تتصادم إطلاقا مع  الجنجويد. إن العملية التي كانت تجري ويحسبها كثير من الناس حرباً بين الحكومة والحركات هي أبعد ما تكون عن ذلك. والعملية كانت بكل وضوح أن تتحرش قوات الحركات بالحاميات الحكومية بالهجمات الخاطفة التي لا تستغرق إلا بضع ساعات  ، وتسلط الحكومة عليها مليشيا الجنجويد ، وتذوب تلك القوات –أي قوات الحركات- في المجتمع المحلي  وتأتي  الجنجويد و تفتك بذلك المتجمع ، إنها الدينامية التي أهلكت الحرث والنسل في دارفور.

 في رسالة بعث بها نصر الدين حسين دفع الله أحد قيادات العدل والمساواة إلى زعيم الحركة الدكتور خليل إبراهيم يقول فيها "  لقد دفعتم أهلنا إلى التهلكة  فالحركات المسلحة لا تستطيع أن تحتل أي موقع وتتقدم منه إلى الأمام ، وكذلك تتواجد بين المواطنين والقرى  مما تعطي الخرطوم مبرراً لضرب المواطنين  والحركات على السواء "(90)  أنه أصدق توصيف لما كان يجري على الأرض.

 بعض القادة بدأ يعي  الخطر الماحق لهذه السياسة ،أي سياسة جعل المواطنين دروعاً بشرية لاتقاء شر فتك الجنجويد ، خاصة إذا طال أمد الحرب لسنوات إضافية ، ومن هؤلاء القادة  مني اركو مناوي، ففي برنامج( الواجهة) الذي  يقدمه احمد بلال الطيب في التلفزيون السودان بتاريخ 12/6/ 2006م سُئِل المرحوم الدكتور مجذوب الخليفة  عن الأجواء النفسية التي كانت سائدة أثناء المحادثات رد قائلاً: " مني كان يستشعر ضخامة المسئولية المنوطة على عاتقه لإنقاذ أهل دار فور مما هم فيه ، لأنه يملك قوات على الأرض ، ويستطيع قادة تلك القوات  تقييم الوضع بدقة "(91)  وما  الإنسان إلا كتلة من المشاعر فإن التمادي في جنون الحرب وتغاضي ما يتعرض له الأهل الأقربين والأبعدين يعد جفاء لهم وجفافا ً في الإحساس الإنساني، ولذلك فإن الذين ينتقدون موقف هذا القائد أو ذاك من الموقعين  إنما يتجاهلون هذا الظرف النفسي البالغ القساوة. 

وإن ثمة نقد يجب أن يوجه إلى الحركات الموقعة على الاتفاق فمن الأفضل أن يتركز على سلوكها السياسي بعد التحاقها بقافلة الحكومة. والذي غدا  قريباً من قاعدة ابن خلدون الشهيرة في إن الطرف الأضعف عند يلتحق بقافلة الطرف القوي يتشرب من نفس العقلية ويروض نفسه ذاتياً حتى يصبح جزء لا يتجزءا منه  فلذلك تجد الموقعين يدافعون عن سياسات الحكومة التي صاروا جزءاً منها .والحكومة من جانبها تمارس عملية" التدجين " والقتل البطيء للتميز  باستخدام أداة ( الخوف الخفي) أي أن الحركات إذا أرادت أن تأخذ مسافة من الحكومة  سوف تجد نفسها عاجزة عن  تسيير الهياكل الجديدة ، فأمامها خياران أحلاهما مر فإما علاقات وطيدة تقترب من الاندماج وإلا أي (عكننة/ عنكبة ) فالمصير الموت البطيء بوقف التغذية (التمويل ) .كما أن الحكومة  معتادة على الاستغفال والاستهبال ونقض العهود ، فالدخول في المناكفات معها قد تقودنا إلى مناورات أكثر إيلاماً.

 

تفاصيل موقف العدل والمساواة من الاتفاق 

وإذا أردنا تحليل مواقف حركة العدل والمساواة بدقة، فنحن في حاجة إلى تحليل الشخصية المحورية فيها، وأعني بذلك زعيمها الدكتور خليل إبراهيم، فهو طبيب طيب السجية، وصادق النية ومخلص فيما يقوله. ولكن هذا الجانب الإنساني الناصع يقابله جانب سياسي قاتم العلة الأساسية فيه  أنه  إنسان سطحي إلى أبعد الحدود  ، ويعيش حالة من (البلبلة  الفكرية )إذ لم يحسم اتجاهه الفكري حتى الآن ، ولا توجد في أطروحاته أية أفكار حقيقية. ويمكن التأكد من ذلك من خلال الاطلاع على  اللقاءات الطويلة  التي أجرتها معه صحيفة( أخبار اليوم) السودانية ‘ حيث  تركه المحرر أن يسترسل على طريقة (التداعي الحر ) وتحدث كثيراً ولم يقل شيئاً! باستثناء تفريغ ما كان يثقل كاهله من الخبرة (المريرة) التي اكتسبها من خلال خدمته وزيراً في (الإنقاذ) ولمدة عشر سنوات. وقد حاول نفي وتخلص من  تلك الثقافة والإرث السلبي الذي يحاربه الآن ، ولكنه عملياً يسقطه - ربما بدون وعي  منه- بكامله على سلوكه السياسي والأطر الهيكلية لحركته.  ومن يقرأ المادة المنشورة في موقع الحركة على شبكة الانترنت(Sudanjem)  يستطيع بكل يسر التحقق من هذه الفرضية . وهو يصدر الأوامر والقرارات على ذات  صيغة قرارات رؤساء الدول والملوك " استنادا إلى مادة كذا من الدستور ... صدر تحت توقيعي وختمي ) ، وهو لا يشارك -حتى لو حضر – في المحادثات على الإطلاق لأن الخرطوم لم  ترسل  شخصاً مكافئاً له ، نائب الرئيس مثلاً . فقد عزل خلال السنوات الثلاث الماضية  ثلاثة  من قادة( جيشه) وتهمة دائماً تدبير مؤامرة انقلابية.

 أما هيكلية الحركة فهي تشبه الدولة تماماً، فهناك( الرئيس ) و( المجلس التشريعي) و(القائد العام ) للجيش ، وهذا الجيش نفسه تشبه الجيوش النظامية فهنالك الفرقة الأولى -( الفرقة في العرف العسكري تتكون من ثلاثة ألوية  واللواء من ثلاث كتائب  والكتيبة من ثلاث سرايا أي أن عدد أفراد الفرقة لا  يقلون عن خمسة آلاف مقاتل )- والثانية والثالثة والرابعة والخامسة ..الخ وهنالك السلاح الطبي والمدفعية والمدرعات  والطيران ،وثمة ضباط يحملون رتب (جنرال ) و(كولونيل) و(بيرقدر)..الخ وهو شيء أقرب إلى الهزل منه إلى الجد.ولكن الرجل يقارب الوضع بما هو قائم في الخرطوم (ألسنا رجالاً مثلهم )! . ويمكننا التماس المزيد من مؤشرات نزعة (تضخيم الذات ) هذه من الأوراق التي يقدمها  العدل والمساواة في كل المنابر .  وعلى سيبل المثال في قمة طرابلس المنعقدة في  مايو (2005م)  قدمت الحركة المطالب التالية :

1-  فترة انتقالية مدتها ثلاثة أعوام تجري خلالها انتخابات عامة لمنصب رئيس الجمهورية وحكام الأقاليم وأعضاء الجهاز التشريعي القومي والأجهزة التشريعية الإقليمية

2-  توزيع مقاعد حكومة الوحدة الوطنية بين جميع أقاليم السودان حسب النسب السكانية  على أن تقسم الوظائف والمناصب الوزارية الاتحادية بما في ذلك الوزارات السيادية بين جميع أقاليم السودان الستة حسب الكثافة  السكانية.

3-  تشكيل حكومة الوحدة الوطنية خلال الفترة الانتقالية على أن تكون لحركتي العدل والمساواة وتحرير السودان 50% من السلطة الاتحادية.

4-    تمثيل إقليم دارفور تمثيلاً عادلاً  في كل المؤسسات على معيار عدد السكان ويمثل سكان دارفور 40%

5-  على أن يتكون مجلس  رأس دولة  في الفترة الانتقالية من رئيس الجمهورية  وستة نواب له ممثلون لأقاليم السودان الستة  : الأوسط والجنوبي والشرقي والشمالي وكردفان ودار فور على أن يكون نواب الرئيس الستة حكاماً في أقاليمهم .

6-  تمثيل أقاليم السودان في إدارة العاصمة على أن تشارك الحركتان العدل والتحرير في حكم العاصمة القومية بنسبة 50%

7-    يجب ألا يقل نصيب كل إقليم عن 40% بالمائة عن الثروة القومية (؟)(92)

وباستثناء البند الأخير لم تخرج المطالب من دائرة السلطة والحكم وكلها قائمة على فرضيات (الكتاب الأسود) المضللة.

واعتقد أن فقه مجمل توجهات حركة العدل والمساواة يبدأ  بتحليل حالة" تضخيم الذات "  واللهفة غير الطبيعية صوب كرسي الحكم  التي تسيطر على  المزاج  زعيم الحركة . كان في البدء يدعو إلى  دخول الخرطوم فتحا ،في الحقيقة كنا نعتقد أن مثل هذه الدعوة من باب المناورة السياسية والتكتيك العسكري  ،إلا أن المهندس محمد صالح حربة أحد القادة الذين انشقوا عن الحركة أكد جدية الرجل عندما ذكر أن خليل طلب منه أن يتحرك بقواته لاحتلال الخرطوم .  وقد دعا أكثر من مرة بتشكيل حكومة في المنفى  .

يقول السيد مني اركو مناوي زعيم حركة تحرير السودان بأنه أجرى اتصالاً  هاتفياً بدكتور خليل إبراهيم  ليحثه على التوقيع رد عليه بقول "هذا اتفاق تافه لا أوقع عليه "(93)

لقد تعرضت جماعة العدل والمساواة لهزات عنيفة خلال الشهور الماضية، و تتمثل ذلك في :- أولاً  الضغوط الأمريكية بوضع اسم زعيمها  الدكتور خليل إبراهيم على( القائمة السوداء). وهو إجراء وقع كالصاعقة على الحركة  بدون أية مقدمات ثانياً: ما قيل أنها محاولة انقلابية   قادها القائد العام  (الجنرال)! عبد الله بندة أبكر والتي استهدفت إزاحة زعيم الحركة والآن كل منهما يطلق على الآخر لقب (المعزول). ثالثاً:الانشقاق  الذي قاده رئيس (المجلس التشريعي)! الأستاذ إبراهيم يحى عبد الرحمن ، وهو رجل  يتمتع بوزن سياسي من العيار الثقيل وله مكانة اجتماعية ( أثنية) لا يمكن تجاهلها أو خداع الذات بأنها غير مؤثرة مثلما فعل البيان( التهويني) الذي صدر من حركة العدل والمساواة بهذا الشأن  .

رابعاً : خروج القائد إدريس إبراهيم أزرق أيضاً بثقله الأثني وتأسيسه لحركة (حركة استقلال دارفور ). خامساً : انشقاق أو فصل نائب رئيس الحركة  بحر إدريس أبو قردة .

وكانت من الآثار المباشرة لهذه الأحداث المتوالية أن غيرت الحركة من لغة خطابها  المتشنج إلى آخر  يتسم بالاعتدال ،ولكنه لا يخلو من اللؤم وروح الانتهازية و(يكاد المريب يقول خذوني) ، حيث أخذ قادتها  يتحدثون ويدلون بتصريحات تقترب من التودد للسلطة مثل : (على حركة تحرير السودان ترتيب بيتها الداخلي  وإلا سوف نذهب إلى المفاوضات بدونها )! . وأخذوا يتحدثون عن إيجاد مخرج لـ(جماعة مني )، أي كأنهم يرمون إلى ( انقلاب أبيض) عن طريق إجراء تسوية مع السلطة تقوم على( الاستبدال) يمنحون بموجبها  المراكز والمواقع التي حازتها عليهاالحركات الموقعة.

موقف عبد الواحد محمد نور

كانت أغلب التقارير تشير إلى أن جناح السيد عبد الواحد نور هو الأقرب للتوقيع ، ولكن فجأة انقلب هذا الانطباع إلى النقيض وأصبح هذا الجناح هو الأكثر عناداً  وتصلباً , كيف ولماذا حدث ذلك؟ لا نملك إجابة، ولكن يبدو أن السيد نور يسلك الآن ذات الجادة التي سلكها أمراء الفور من قبل. أولئك  الأمراء الذين ثاروا على  الغزاة والطغاة في تاريخ  دارفور التليد ،  من لدن  الأمير حسب الله بن محمد الفضل الذي ثار على الدولة التركية  بعد غارة الزبير  رحمة منصور  الجميعابي( زعيم اليأجوج والمأجوج)! وإلحاق دار فور قسراً للسودان النيلي عام(1874م) ، وانتهى أمره باسره وحيداً إلا من بعض خدمه وأفراد أسرته ، وتم ترحيله إلي مصر وأسكن سوق السلاح بالقاهرة(94). ثم أخذ الأمير بوش بن إبراهيم الراية وثار ضد التركية وقتل، بعد أن أنفض السامر الذي دفعه للقتال. وجاء الدور للأمير هارون بن بكر بن محمد الفضل وثار ضد التركية و قتل في ظروف أقل ما يوصف بأنها مأسوية.وحمل الراية  الأمير دود بنقا بن بكر بن محمد الفضل وقتل . وجاءت المهدوية وقضت على التركية ولكن أهل دارفور لم ينصاعوا لهذه الدولة البربرية ورفضوا الخضوع لنظامها المتوحش   وثاروا بقيادة أميرهم يوسف بن إبراهيم.ولكن الخليفة عبد الله التعاشي (وهو تعايشي بالولاء فقط ) رماهم  بشاب دموي يدعى  عثمان آدم ويلقب بـ(" إتمان جنو" لاحظ تشابه المفردة مع "الجنجويد" !) قتل الأمير الثائر يوسف، و ذبح نصف سكان دارفور ، وشرد نصف الآخر , وأحال الأرض خراباً ويباباً (حالة شبيهة بالوضع الحالي ). ولكن يبدو أن الجمرة  الثورة ظلت  متقدة في القلوب  رغم المأساة ، إذ  نهض من السلالة الحاكمة أمير يدعى  أبي الخيرات  وتولى شأن الثورة ،إلا أن النوائب الدهر قد توالت عليه  وقتل  في حادث غامض في وادي (أريبو) وأشير أصابع الاتهام إلى ابن عمه المراهق الأمير علي بن زكريا بن محمد الفضل (أنكر ذلك في رسالة طويلة بعثها إلى أهل مكة المكرمة الذين كانوا يتابعون أخبار هذه السلطنة بكل لهفة وذلك لوصول جزء من أرزاقهم منها والمتمثلة في (الصرة) المعروفة)  وبعد أن هاموا على وجوهم ( وأكلوا أوراق الشجر ) كما وردت  في الرسالة المذكورة ،أصبح الأمير على وحيداً إلا من( عبيده الفرتيت) وأصيب بإحباط شديد بعد انشقاق  عمته (الميرم تاجا ) وعودتها  بكامل حاشيتها إلى الفاشر ، عند ذلك استسلم الأمير على  للمهدويين   وتم رحيله إلى امدرمان وظل بها حبيساً  حتى  نوفمبر 1898م حين  انهزم المهدويون في  معركة امدرمان (كرري) ، وعاد إلى دارفور سلطاناً باسم (علي دينار). وعندما اشتعلت الحرب العظمى الأولى  ناصر السلطان علي الدولة العلية ووقف إلى جانب خليفة المسلمين في الآستانة المحروسة ، وأغضب بذلك الإنجليز ، وأعلنوها حرباً عليه، وأخرجوه من عاصمته الفاشر (أبو زكريا) وأطلقوا على أثره  الكابتن هدلستون  حتى وافاه عند معسكر (كولمي )في الظل الشرقي لجبل مرة  وقتله وعرض جثه للعامة(الفراجة).(95)  وهو الموقع  نفسه الذي  سحل  فيه السلطان إبراهيم بن محمد حسين (قرض) قبل أربعين عاماً من ذلك ، بعد فراره من معركة (منواشي) الشهيرة ضد الزبير الجميعابي.  ومن سخريات القدر وغرائب صدفه أن( كولمي)  التي  ذبح على أديمها أثنين من أشهر سلاطين الفور ،أصبحت الآن أحد أكبر معسكرات النازحين  من أبناء شعب الفور!وتتناقل وسائل الإعلام صباح مساء عما يتعرضون له من أعمال تنكيل وترهيب.

وكما أن تجربة المرحوم المهندس داود يحى بولاد ليس منا ببعيدة ؛ إذ قاد جيشاً جراراً من جنوب السودان عام 1991م وما أن وصل إلى مشارف جبل مرة  حتى وجد نفسه وحيداً ، وألقي القبط عليه وأعدم بدون أية محاكمة.

وأخشى أن تكون اللعنة عينها قد أخذت تلاحق السيد عبد الواحد نور والذي بات على وشك أن يكون وحيداً، وقد بدأ عنفوان (الثورة)  يخبو وأخذ النجم  النضال في الأفول وتفرق الأهل والأصحاب ،وعلى ذات النمط  التاريخي  المألوف لثورات أمراء الفور الذي سردناه سابقاً . وإن لله في خلقه شؤون!.   

جبهة الخلاص

اجتمعت الجماعات المتمعنة عن التوقيع - وهي ست - على عجل في أسمرا وأصدرت بياناً ضمنت فيه مآخذها على الاتفاق وهي كالتالي:

1-  أن المجتمع الدولي  سعى لمخارج  سريعة للأزمة من خلال الابتزاز والتهديد وسياسة "فرق تسد" بمعزل عن شعب دارفور .

2-    رفض أهل دارفور للاتفاق خاصة في معسكرات  اللاجئين  والنازحين والطلاب والشباب والمرأة ومن هم في المنافي .

3-    إن القضية، قضية وطنية متكاملة لا يمكن تجزئتها وما حدث تكرار لنهج الحلول الجزئية.

4-    ما تمخضت  عن أبوجا مرفوض من كل القوى السياسية الحاملة للسلاح.

5-    القائد الموقع استجاب لذلك نتيجة لضغوط، وعليه مواجهة أهل دار فور.

6-     دعوة كافة المنظمات الدولية والإقليمية لموقفنا الرافض بعين الاعتبار.(96)

وقد وقع على هذا البيان كل من  أحمد إبراهيم دريج  عن الجناح الذي يمثله في التحالف الفدرالي والدكتور شريف حرير عن الجناح الثاني  من التحالف الفدرالي  والدكتور خليل إبراهيم عن العدل والمساواة  والسيد عبد الواحد محمد نور عن حركة تحرير السودان  والسيد خميس أبكر عن جماعة( تسعة عشر)(97) .

 وبعد أسبوعين فقط من صدور هذا البيان أي في 2/7/2006م ظهر إلي حيز الوجود الحلف الذي سمي بـ " جبهة الخلاص الوطني" من ذات الحركات باستثناء جماعة عبد الواحد التي رفضت الدخول فيها. ومن الواضح انه حلف فضفاض لعبت المخابرات الارترية دوراً أساسياً في صناعته ، ومما يؤكد فرضية دور الارتري ما تعرض له  عبد الواحد من اعتقال وتعذيب عقب رفضه الدخول في هذا الحلف لجديد .وكثيرون كانوا على يقين  بأنه حلف مصطنع ،  وقد وصفه السيد مني اركو مناوي بأنه " زواج اضطراري ... والطلاق قد يقع قي أي وقت".(98)  ويبدو أن النبوءة قد صدقت ووقع الطلاق  فعلا ، إذ بتنا لا نسمع عنه، لا في الميدان ولا في المحافل ، حتى الجماعات المسلحة الثمان التي اجتمعت في أورشا  في تنزانيا  بتاريخ 3/8/2007م لم تأت بذكر هذه الجبهة إطلاقا.

هنالك نبرة تراجع في روح خطاب هذه الجماعات وأكثر ما تتجلى  ذلك في  بيان( أروشا )بنقاطه التسع ، إذا جاء بارداً وباهتاً على نقيض  من البيانات النارية والشروط المسبقة  التي درجت عليها الحركات الرافضة لاتفاق أبوجا. ونقاط أورشا التسع هي:

1-    تأكيد الالتزام بخارطة الطريق  التي تطرحها  المبعوثان الخاصان  لتعزيز الجهود لحل الأزمة سلمياً .

2-    تأكيد الالتزام والاستعداد للمشاركة في المفاوضات القادمة

3-  تقديم إطار مشترك  فيما يتعلق  بتقاسم  السلطة والثروة والترتيبات الأمنية والحواكير والقضايا الإنسانية للمفاوضات النهائية .

4-    عقد المفاوضات النهائية خلال شهرين أو ثلاثة.

5-    إبقاء الباب مفتوحاً للذين لم يحضروا أورشا لتقديم رؤاهم للمفاوضات النهائية

6-    السماح لقوافل المساعدات الإنسانية للوصول إلى المتضررين .

7-    الترحيب بقرار مجلس الأمن رقم (1769)الخاص بعملية الهجين .

8-    التزام واحترام وقف العدائيات الشامل

9-  حث المبعوثين الخاصين للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة على إكمال مشاوراتهما مع النازحين الداخليين واللاجئين والقادة الأهليين وزعماء العشائر ومنظمات المجتمع المدني بمن فيهم النساء في جهد يهدف لتطوير رؤاهم ومواقفهم في المفاوضات النهائية.(99)

وقد رحبت الحكومة السودانية بهذا البيان (اللين) ! ،ولكنها لم تنس أن تُذكِّر الحركات بأنها لن تفتح اللفات التي تمت تسويتها من قبل ، والمعني  هنا - بالطبع – ما ورد في البند  الثالث " تقاسم السلطة والثروة والترتيبات الأمنية ..." قد رفعت الأقلام وجفت الصحف ،و قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ! وأعتقد أن الحكومة جادة في هذا الموقف ولديها كثير من مبررات . وقد دعمت الحكومة موقفها بقبولها لقرار الأممي رقم  (1769) والخاص بإرسال قوات هجينة إلى دارفور ،ورفعت  بذلك عن كاهلها جزءاً كبيراً من الضغط الدولي الهائل الذي كانت تنوء تحته . وفي هذه الحالة لا شيء يدعوها أن تتنازل لحركات تتكاثر بطريقة الكائنات الأولية، بدورة حياتها القصيرة. وعلى ضوء هذه المعطيات  فإن السيناريو المتوقع الآن هو أن تنزع الحكومة إلى استلال العصب الأساسي من جسم الحركات، وأعني بذلك حركة العدل والمساواة، عن طريق إغراء و أرضاء قادتها بزيادات مالية هنا وتبرع بوظيفة هناك.وترك بقية الحركات لحتفها المحتوم .

وبالجملة ، فإن كل الدلائل  تشير على أن قضية دارفور أخذت في الانحدار و باتت على مشارف التصفية النهائية ، إلا  إذا حدثت متغيرات  رئيسة عدلت المسار إلى الصعود  مثل انهيار اتفاقية السلام الشامل أو تغيير السلطة في الخرطوم .أما الوضع الآن ،فبجرد الحساب النهائي تكاد تكون الأرباح صفراً ، و الخاسر الأكبر  هو مواطن دارفور العادي (المسكين)  ، إذ ربح المغامرون  الذين هبطوا من المجهول ، وأخذوا أهل دارفور على حين غرة ، وأشعلوها حرباً شعواء ، دون مقدمات أو استعدادات ، ربحوا  المراتب والمناصب ، وذهبت عصابات الجن والإنس التي أتت من كل حدب والصوب  بالأسلاب والغائم التي استولوا عليها من الأهلين غصباً  وعدواناً‘ ونجت زبانية السلطة الغاشمة  من المحاكمة والمحاسبة على الجرائم  التي ارتكبوها  والآثام التي اقترفوها .

وفي الختام أسمحوا لنا أن نختتم هذه الدراسة بتلخيص  رائع  نقتبسه من مقال للأستاذ مجدي الجزولي  حيث  يقول فيه :" ما أفسد في الحساب النهائي  على أهل القضية قضيتهم صعود أنجم المحررين الكذبة من علياء طاولات التفاوض  عندها تقزمت القضية الاجتماعية وذابت ، لتحل محلها  معادلات للقسمة والضرب ، مزاد ينال فيه السائل مكتباً  في القصر  ومن ثم فرشاً ، وإذا تزمت صندوقاً خيرياً  ينتظر به كرم المانحين . أما إذا استأسد كقرينه بشوكة السلاح فقسط من ريع البترول لا يعلم له حساب "(100) أهـ .

 

 

 

 

 

                                  الهوامش

 

(1)  تتجلى عيوب الترجمة حتى على  هذا العنوان الذي يبدو مربوكاً رغم السلامة اللغوية .  

(2) هنالك أكثر من خمسة عشرة صفحة خالية من أي نص.

(3) هذا البيان منشور في موقع سوادنيز أون لاين (www.sudaneseonline.com)

(4) الاتحاد الأفريقي ، اتفاق  السلام لدارفور ،  مطبعة التمدن المحدودة ، الخرطوم :2006م ، ص11.

(5) المصدر نفسه ، ص16.

(6)  راجع سلسلة مقالات التي كتبها الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل في صحيفة " الشرق الأوسط " تحت عنوان "كيف ترى الخرطوم أزمة دارفور ؟" ابتداء من العدد (10469) بتاريخ 28/7/2007م إلى العدد(10479) بتاريخ 7/8/2007م .

(7) أذكر  أن السيد محمد هارون كافي  قال عقب توقيعه على الاتفاق " على كل نوباوي أن يتوسد هذا الاتفاق حتى عند نومه "!.

(8) راجع مقالات مصطفى عثمان  السابقة الذكر.

(9) كان المندوب الأمريكي روبرت زوليك  قد استدعى  قادة الحركات واحداً واحداً وأبلغهم بأن أمريكا لا تدعم  أي قائد يمتنع عن التوقيع .

(10)  اتفاق السلام لدارفور  ، المصدر السابق ، ص12.

(11) المصدر نفسه ، ص12.

(12) من تصريح أدلى به محجوب حسين أحد قادة حركة تحرير السودان لوكالة الصحافة الفرنسية عام 2006م.

(13) راجع بهذا الصدد ورقة أعددها  أستاذنا د. الواثق كمير ( وهو أستاذي بالحق والحقيقة وليس مجازاً ) تحت عنوان " لنسمو فوق ما يفرقنا : جون قرنق ينادي "  والمنشورة  في موقع  سودانيز أون لاين . 

(14) من مقال لأبكر آدم إسماعيل حول الهوية السودانية  منشور في موقع سودانيز أون لاين.

(15) اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق ،ص114.

(16) المصدر نفسه ، ص22.

(17) آلية التفاوض هي لجنة من الكيانات الأهلية كونتها الحكومة السودانية في بدايات أزمة دارفور  للتفاوض مع المتمردين.   

(18) مأخوذة من مدونة الكاتب.  

(19) اتفاق السلام لدارفور، ص 25.

(20)  المصدر نفسه ، ص 4.

(21) المصدر نفسه ، ص 7.

(22) المصدر نفسه ، ص25.

(23) المصدر نفسه ، ص4.

(24) المصدر نفسه ، ص20.

(25) المصدر نفسه ، ص24.

(26) هذا التهكم يمكن ملاحظته حتى من بعض الأطراف الخارجية كما تفعل السيدة (فريزر ) مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية إذا كلما جاء ذكر شاغل هذه الوظيفة أشارت إليه بـ(No,4)!.

(27) اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق ،ص20.

(28)المصدر نفسه ، ص20.

(29) المصدر نفسه ، ص21.

(30) المصدر نفسه ، ص21.

(31) المصدر نفسه ، ص24.

(32) المصدر نفسه ، ص24.

(33) هذه الكلمة مفقودة في  النص  الأصلي.

(34) اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق ،ص25.

(35) المصدر نفسه ،ص24.

(36) المصدر نفسه ،ص24.

(37) المصدر نفسه ،ص25.

(38) المصدر نفسه ،ص26.

(39) المصدر نفسه ،ص27.

(40) المصدر نفسه ،ص28.

(41) المصدر نفسه ،ص32.

(42) المصدر نفسه ،ص33.

(43) محمد بن عمر التونسي ، تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان ، تحقيق حسين عساكر ، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، (القاهرة :1965م) ، ص

(44) كتب شخص باسم صالح حجر في موقع سودانيز أون لاين مقالا عن ذكريات طفولته في الفاشر وذكر هذه العبارة التي تفتقر إلى الدقة .

(45) اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق ، ص23.

(46) المصدر نفسه ،ص37.

(47) المصدر نفسه ،ص44.

(48) المصدر نفسه ،ص46.

(49) المصدر نفسه ،ص51.

(50) أنظر صحيفة الشرق الأوسط عدد 7 أغسطس 2007م .

(51) محمد بن عمر التونسي، المرجع السابق، ص

(52) المرجع نفسه ، ص

(53) المرجع نفسه ، ص

(54) اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق، ص53.

(55) المعني هنا فيصل جلول وقد أدلى بهذا التصريح في قناة الجزيرة في أغسطس 2007م.

(56) من تصريح لدكتور لام أكول  عام 2006م مسجل في مدونتي بدون ذكر المصدر

(57)  اتفاق السلام لدارفور ، المصدر السابق ، ص74.

(58) المصدر نفسه ،ص74.

(59) المصدر نفسه ،ص77.

(60) المصدر نفسه ،ص88.

(61) المصدر نفسه ،ص89.

(62) المصدر نفسه ،ص91.

(63) المصدر نفسه ،ص 96.

(64) المصدر نفسه ،ص 101.

(65) المصدر نفسه ،ص101.

(66) المصدر نفسه ،ص101.

(67) المصدر نفسه ،ص101.

(68) المصدر نفسه ،ص101.

(69) المصدر نفسه ،ص97.

(70) المصدر نفسه ،ص97.

(71) المصدر نفسه ،ص99.

(72) المصدر نفسه ،ص98.

(73) المصدر نفسه ،ص108.

(74) المصدر نفسه ،ص108.

(75) المصدر نفسه ،ص108.

(76) المصدر نفسه ،ص109.

(77) المصدر نفسه ،ص112.

(78) المصدر نفسه ،ص119.

(79) المصدر نفسه ،ص119.

(80) المصدر نفسه ،ص120.

(81) المصدر نفسه ،ص129.

(82) المصدر نفسه ،ص129.

(83) المصدر نفسه ،ص129.

(84)  مسجلة في مدونتي دون ذكر المصدر .

(85) أنظر : أحمد بلقيس وتوفيق مرعي ، الميسر في علم النفس التربوي ، ط1 ، دار الفرقان (1983م) ، ص424.

(86)من هذه الروايات حكاية المقاتل المتمرد الذي لا يصيبه الرصاص نتيجة الحجبات ( التعاويذ) التي يرتديها وكان يقول للذين يطلقون عليه النار : " سخنوني فقط ولكن تستطيعون اختراق جسدي أو إحراقي" وحكاية دفن الخندق حول الفاشر عندما طلبت وزيرة الخارجية الأمريكية من والي شمال دارفور أن يدفنه أمام عينيها وقد كان!.

(87) راجع صحيفة الوطن  العمانية عدد 2سبتمبر 2007م.

(88) مسجلة في مدونتي بدون ذكر المصدر .

(89) من مدونتي بدون ذكر المصدر

(90) منشور في موقع سودانيز أون لاين.

(91) برنامج الواجهة بتاريخ 12/6/2006م

(92) من مدونة الكاتب

(93) من مدونة الكاتب

(94) من الطرائف التي تحتويها متون كتب التاريخ  إنه عندما وصلت حاشية الأمير حسب الله إلى مصر  أدهشت( الميارم ) نساء القاهرة ببراعتهن في فنون الطبخ!.

(95) تعتبر صورة الفوتوغرافية الوحيدة لسلطان على دينار هي تلك التي تصوره جثة هامدة مضرجاً بدمائه وملقاة على قارعة الطريق بإهمال.

(96) من مدونتي

(97)  في بيان توضيحي  أصدرته المجموعة حول السبب من وراء إطلاق  هذه التسمية  عليها قالت أن مفهوم مجموعة الـ19 جاء في صياغ (هكذا وردت !!) تاريخي ذو أبعاد  زمانية 26 فبراير2006م  ومكانية نيجيريا فندق شيدا حيث  صدر قرار تجميد سلطات السيد عبد الواحد محمد أحمد نور  وتكليف السيد /خميس عبد الله أبكر للرئاسة  وكان عدد القادة الذين حضروا الاجتماع 19 قائداً فسموا بذلك تمييزاً لهم عن الحركات الأخرى.

(98) من مدونة الكاتب

(99) بيان أروشا الصادر في 3 أغسطس 2007م

(100) من نسخة ضوئية للمقال أعارني إليها مشكوراً صديقنا الدكتور أحمد حسن عمارة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولفائدة القارئ ننبه أن هذه الدراسة فصل من كتاب تحت الطبع عنوانه " قضية  دارفور بدايات ومآلات "  ويمكن الاطلاع على خطة الكتاب فيما يلي :

الباب الأول : دارفور : جغرافيا ،تاريخ واجتماع

الفصل الأول : جغرافية دار فور

الفصل الثاني : مختصر تاريخ دارفور

الفصل الثالث :قضية دار فور : منظور سوسيولوجي

الباب الثاني : الفضاء الإثني واتجاهات الحراك

الفصل الأول : شعب الفور

الفصل الثاني : شعب الزغاوة

الفصل الثالث : العشائر العربية

الفصل الرابع :المجموعات القبلية الأخرى

الباب الثالث : الفضاء القتالي واتجاهات العراك

الفصل الأول : الجيش السوداني

الفصل الثاني : حركة / جيش تحرير السودان

الفصل الثالث : حركة العدل والمساواة

الفصل الرابع : حلف الجنجويد

الفصل الخامس : أطروحات (الكتاب الأسود) كأساس فكري للحركات المسلحة ( قد يعاد نظر في موقع هذا الفصل)

الباب الرابع : صدى القضية في الداخل والخارج

الفصل الأول : مواقف الأحزاب والتجمعات السياسية السودانية المركزية من قضية دارفور .

الفصل الثاني :مواقف القوى الإقليمية و الدولية حول القضية

الفصل  الثالث : اتفاق السلام لدارفور : دراسة تحليلية بتفكيك سلطة خطاب النص

الفصل الرابع : المآل والمسار

 

 

 

 

إعداد / د. أبو البشر أبكر حسب النبي

باحث سوداني

مسقط - سلطنة عُمان  هاتف 0096892143053

البريد الإلكتروني [email protected]


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات و تحليلات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • تنامي ظاهرة اغتصاب الاطفال ...! بقلم / ايـليـــا أرومــي كــوكــو
  • مؤتمر تمويل التنمية/د. حسن بشير محمد نور - الخرطوم
  • بين مكي بلايل والعنصرية والحركة الشعبية /الطيب مصطفى
  • قالوا "تحت تحت" الميرغنى ماااااا "داير الوحدة"/عبد العزيز سليمان
  • الصراع الخفي بين إدارة السدود والمؤتمر الوطني (4-12) بقلم: محمد العامري
  • قواعد القانون الدولى المتعلق بحصانات رؤساء وقادة الدول/حماد وادى سند الكرتى
  • هل يصبح السيد مو ابراهيم حريرى السودان بقلم: المهندس /مطفى مكى
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • الجدوي من تعديل حدود اقليم دارفور لصالح الشمالية/محمد ادم فاشر
  • صلاح قوش , اختراقات سياسية ودبلوماسية !!؟؟/حـــــــــاج علي
  • أبكيك حسن ساتي وأبكيك/جمال عنقرة
  • نظامنا التعليمي: الإستثمار في العقول أم في رأس المال؟!/مجتبى عرمان
  • صندوق إعادة بناء وتنمية شرق السودان .. إنعدام للشفافية وغياب للمحاسبة /محمد عبد الله سيد أحمد
  • )3 مفكرة القاهرة (/مصطفى عبد العزيز البطل
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان: الصادق حمدين
  • جامعة الخرطوم على موعد مع التاريخ/سليمان الأمين
  • ما المطلوب لإنجاح المبادرة القطرية !؟/ آدم خاطر
  • الجزء الخامس: لرواية للماضي ضحايا/ الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • مبارك حسين والصادق الصديق الحلقة الأولى (1-3) /ثروت قاسم
  • ماذا كسبت دارفور من هذه الحرب اللعينة !!/آدم الهلباوى
  • الأجيال في السودان تصالح و وئام أم صراع و صدام؟؟؟ 1/2/الفاضل إحيمر/ أوتاوا
  • النمـرة غـلط !!/عبدالله علقم
  • العودة وحقها ومنظمة التحرير الفلسطينية بقلم نقولا ناصر*
  • المختصر الى الزواج المرتقب بين حركتى العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان /ادم على/هولندا
  • سوداني او امريكي؟ (1): واشنطن: محمد علي صالح
  • بحث في ظاهـرة الوقوقـة!/فيصل على سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر
  • سقوط المارد إلى الهاوية : الأزمة مستمرة : عزيز العرباوي-كاتب مغربي
  • قمة العشرين وترعة أبو عشرين ومقابر أخرى وسُخرية معاذ..!!/حـــــــــــاج علي
  • لهفي على جنوب السودان..!! مكي المغربي
  • تعليق على مقالات الدكتور امين حامد زين العابدين عن مشكلة ابيي/جبريل حسن احمد
  • طلاب دارفور... /خالد تارس
  • سوق المقل أ شهر أسواق الشايقية بقلم : محمدعثمان محمد.
  • الجزء الخامس لرواية: للماضي ضحايا الأستاذ/ يعقوب آدم عبدالشافع
  • صاحب الإنتباهة ينفث حار أنفاسه علي باقان أموم/ الصادق حمدين
  • رحم الله أمناء الأمة/محجوب التجاني
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • وما أدراك ما الهرمجدون ؟! !/توفيق عبدا لرحيم منصور
  • الرائحة الكريهة للإستراتيجي بائتة وليست جديدة !!! /الأمين أوهاج – بورتسودان
  • المتسللون عبر الحدود والقادمون من الكهوف وتجار القوت ماشأنهم بطوكر /الامين أوهاج