الشيخ علي بيتاي
محمد سعيد ناود ـ أسمرا
علم من أعلام السودان عامة وشرق السودان على وجه الخصوص ومآثره وسيرته الشخصية وتاريخه فيعرفها أهل السودان ورجالات الشرق من مؤرخين ودارسين ورجال دين أما السطور القلائل التي أكتبها عنه فهي عبارة عن معرفتي المباشرة به من خلال اللقاءات القليلة التي جمعتني به في المناطق الحدودية مثل (مامان) و(حشنيت) أو في دخل الأراضي الإرترية. وكانت آخر تلك الزيارات التي قام بها الشيخ علي بيتاي كانت لمعسكرنا في (أف سلسل) بنهر بركة في عمق الأراضي الإرترية.
ولإعطاء فكرة عامة فان اسم الشيخ علي بيتاي ارتبط بقضايا بارزة محددة وكمصلح اجتماعي. وأوجز كل ذلك في الخطوط التالية:
1- المحافظة على السلام والوئام والاستقرار بين سكان المنطقة التي ينتمي إليها وهي المنطقة المتاخمة للحدود الإرترية الشمالية الغربية مع شرق السودان. وكانت تلك المنطقة تعاني من نشاط (الشفتة) وهم قطاع الطرق الذين يمارسون النهب والسطو المسلح . وعدم اطمئنان أي عابر سبيل للمنطقة على روحه وما لديه من ممتلكات وبالذات من الماشية.
أيضا شهدت تلك المنطقة الصراع المسلح والدموي بين قبيلة البني عامر في داخل إرتريا والتي قاد صراعها المسلح آنذاك كل من (علي بنطاز) و(محمد حامد شليشي) وبين إحدى قبائل البجة بشرق السودان في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. ولإطفاء نار الفتنة تحرك الشيخ علي بيتاي وسيطا بين القبيلتين المتصارعتين- لإحلال السلام بينهما حتى داخل إرتريا ووصل مدينة أغوردات لهذه الغاية. كما أن جهوده في منطقة ووسط قبائله قد ظهرت آثارها بحيث اختفت ظاهرة الشفتة والتي لم يعد لها وجود.
2- قيامه بمحاربة العادات الضارة مثل تعاطي الكحول واستعمال التنمباك والسجائر والابتعاد عن الدعارة التي تلحق أضراراً صحية قاتلة بين البشر. وفي هذا فقد كان الشيخ علي بيتاي سابقاً لزمانه حيث ثبت الآن وبشكل علمي لا يقبل الشك خطورة كل هذه الممارسات، وأصبح العالم بكامله يقوم بمحاربة كل هذه الرذائل التي أصبحت تفتك ببني البشر بعد أن ثبت للكل خطورتها المستقبلية.
3- أيضاً كان الشيخ علي بيتاي يدعو للنظافة عندما قام بدعوته للتخلص من عادة معروفة لمعظم قبائل البجة. فقد كان الرجال- ولا يزال بعضهم- لا يحلقون شعر الرأس بل يطلقونه، ويضفرون جزءه التحتي، أما الجزء الأعلى فيترك سائباً يعلوه الخلال. والخلال هو عود خشبي يصنعونه بأنفسهم من الخشب وهو بمثابة المشط، ثم يدهنون شعرهم بالشحم دون أن يغسلوه أبداً. فبدأ الشيخ علي بيتاي يدعو بإزالة هذا الشعر وحلقه تماماً، واستعمال غطاء للرأس أي العمامة المصنوعة من القماش. وظل يطالب أيضاً بالاستحمام ونظافة الجسد وذلك من أجل الطهارة ومحاربة الأمراض. ويحدد ذلك بمناشدة المواطنين بضرورة الاستحمام وطهارة الجسم حسبما يحث عليه الدين. والأمر في النهاية لمصلحة الإنسان وصحته وكمال دينه.
4- أهدافه ودعوته تركزت في التعليم بدأ في إقامة الصرح التعليمي المعروف بخلاوي (همشكوريب) وإشعال نار القرآن بها. وبدأ الشيخ علي بيتاي بتشجيع أبناء المنطقة ولأبناء البجة عامة للالتحاق بهذه الخلاوي. وكان يتكفل بالسكان الدارسين وإطعامهم وتوفير الملابس لهم. فإذا بهذه الخلاوي تتسع يوماً بعد آخر وبدأ يرتادها طلاب العلم من غرب إفريقيا، كما أن طلاب العلم من أبناء إرتريا بدأت هذه الخلاوي باستقبالهم والصرف عليهم وإعدادهم ليواصلوا تعليمهم بعد ذلك بشكل نظامي سواء كان في المدارس أو في المعهد العلمي بأم درمان أو بالأزهر الشريف بمصر.
بدأت معرفتي المباشرة بالشيخ علي بيتاي قبل تحرير إرتريا وتحديداً في عام 1977م، عندما فاجأنا بالزيارة في معسكرنا الخلفي بمنطقة (حشنيت). وقال لنا أنه أحضر هذه المواشي كهدية لإطعام مقاتلينا. ونزل بالموقع الذي كنت به. وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث حيث شرح لي علاقته الوطيدة بإرتريا وشعبها وحبه لأهلها وما قام به من جهد لإطفاء نار الفتنة بين البني عامر وإحدى قبائل البجة بشرق السودان. وعند وصوله لمدينة أغوردات في هذه المهمة فإذا بالسلطات الاستعمارية البريطانية تقوم باعتقاله وترحيله للسودان بحجة أنه دخل إلى إرتريا دون تأشيرة دخول.. وفي السودان كانت علاقته- وحسب روايته بالسلطات البريطانية- غير ودية وتنتابها الشكوك، حيث قامت بنفيه عن منطقة شرق السودان ومنعته من العودة إليها إلا بعد تدخل ووساطة من قبل السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي المرغني. أيضاً أكد لي الشيخ علي بيتاي في تلك المقابلة إيمانه الكامل بعدالة القضية الإرترية مع تأييده التام للثورة الإرترية وقناعته بأنها ستنتصر في النهاية مهما طال الطريق.
وفي كل زياراته اللاحقة لمواقعنا فإن الشيخ علي بيتاي ظل يحمل هديته من المواشي على ظهر اللوري الذي يأتي به وذلك لإطعام المقاتلين حسب قوله دوماً.
وكعادته فقد فاجأنا بالزيارة بعد انفضاض مؤتمرنا التنظيمي وطلب الاجتماع بالقيادة الجديدة للتنظيم. وفي ذلك الاجتماع نصحنا بالابتعاد عن صراع السلطة ، وقال: "عليكم بالتماسك لأن الصراع حول الكرسي والسلطة هو بمثابة العظام التي تتصارع الكلاب من حولها".
وفي مرة أخرى زارنا في أحد المواقع حيث قدم لنا النصح بالاهتمام بالوحدة الوطنية وحذرنا قائلاً: "إياكم أن تقولوا هذا مسلم وذاك مسيحي فكلكم في النهاية إخوان في الوطن، وفي مواجهة عدو واحد وتعملون من أجل هدف واحد".
زياراته لمواقعنا في بركة صادف وجود اثنين من القساوسة التابعين للتنظيم، أحدهما القس "تولدي برهي" والثاني لا أتذكر اسمه، حيث كان أحدهما يحمل الصليب بيده. فما أن رآهما الشيخ علي بيتاي حتى نهض واقفاً وسلم عليهما بحرارة، وأخرج كل الأموال التي كانت بجيبه وسأل سائقه أن يسلمه أي مبلغ من المال يوجد في جيبه، وأعطى المبلغ الذي أخرجه من جيبه والذي أخذه من سائقه وسلمه بكامله لهما أي للقسيسين الاثنين وهو يردد "والله أحبكما". وطلب منهما أن يزوراه في قرية "مامان" لإكرامهما بما يستحقان من تكريم يليق بمكانتهما.
أذكر في إحدى المرات أنني كنت في طريقي من الميدان إلى مدينة كسلا، ومعي بعض المقاتلين وكان الوقت ليلاً والجو ممطراً، فقررنا أن نقضي باقي الليلة بقرية مامان وهي قرية كبيرة وعامرة. فاستضافنا أحد الإرتريين الذي يسكن بتلك القرية، وكانت فرصة للبحث عن السجائر والتمباك، فتحرك المقاتلون باحثين عنهما في كل الدكاكين الموجودة بالقرية دون أن يجدوا مكانا يبيع ذلك. وعندما سألنا الإرتري الذي نزلنا معه أخبرنا أنه وحسب تعاليم وتوجيهات الشيخ علي بيتاي فإن المنطقة بكاملها ومن ضمنها هذه القرية وباقي القرى ليس بها من يتعاطى أو يبيع التمباك والسجائر والكحول.
تلك الليلة التي قضيناها بقرية مامان لا يمكن أن تنسى، لأنني ومنذ الليل وحتى الفجر كنت أسمع التلاوة الجماعية للقرآن الكريم والتي يتردد صداها من مختلف الأماكن، والتي تترك في النفوس جوا روحانيا أثناء الليل والبعض نيام.
إن أمثال الشيخ علي بيتاي لا يمكن أن تنسى وكنت أتمنى لو طالت به الأيام ليحضر استقلال إرتريا بعد انتصار الثورة، ليرى ويشاهد بعينيه بأن أمنياته قد تحققت، ولكن جعل الله لكل أجل كتاب فقد فارق دنيانا قبل ذلك بوقت طويل رحمه الله رحمة واسعة.
وبرحيله شكلنا وفداً من التنظيم للقيام بواجب التعزية وشاركنا في المأتم. وبعدئذ شعرنا بالفقد حيث افتقدناه. وافتقدنا زياراته وتوجيهاته. رحمه الله رحمة واسعة وأجزاه عنا كل خير، وجعل البركة في أبنائه وخلفائه وتلاميذه.
نقلا عن صحيفة ارتريا الحديثة
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة