حبـوبـة أم طاجون والسائد العام
آدم صيـــام
هي خجيجة بت إساغ جدتي لأمي عمرها كارب القرن ويزيد ، لا أدري كيف تآكلت حتى أصبح وزنها لا يزيد عن ثلاثين كيلوجراماً وطولها لا يربو عن متر وربع المتر بينما ابنها البكر يبلغ مترين ونيف . يقول أقرانها إن سبب تسميتها بأم طاجون يرجع إلى ورودها للبئر بحثاً عن الماء بالطاجن بدلاً من القيروانة وليست القيروان المعروفة ، أرضعتنا أحفادها بالقصص والعجائب مثل قصة فاطمة السمحة والغول وسردت لنا تاريخ قبائل الجيران وصفاتهم ، من الذين يتحولون إلى عفاريت والبعاتي إلى مصاصي الدماء ، وهؤلاء من الخدم ... وأولاء من يتحولون إلى حشرات ، حتى قبائل أحفادها لم تنج من العبودية والتحول والصيران . في يوم نبّهت خالتي ابنتها الصغيرة بأن لا تتقافذ أمامي لأني سأصير زوجها في المستقبل ! فما كان رد جدتي بأنه لا يجوز أن تزوج هذه البنت الصفراء إلا إلى أمثالها !! في إشارة واضحة بأني من قبيلة وضيعة .
جدتي هذه تنسب نفسها إلى العرب الخلص الذين هاجروا إلى كد وغفار – كردفان – وتحكي كيف عاشت أسرتها من عز إلى عز حيث عدد الخيول لديهم يملأ وادي بأكمله أما الأبقار فإذا رأيت أولها فلا يمكنك تحديد آخرها ، حتى أن الحليب يحلب ويسقى به الخيول أو يدلق في الخيران من كثرته ، إما عدد الخدم والحشم فحدث ولا حرج .
منذ نشأتي ألفيتها لا ترى إلا بأذنيها وتعشق القهوة والبن حد الإدمان، لا يهبط شغالها من على الكانون طوال اليوم لدرجة أنها كثيراً ما كانت تغلي تفل البن – ثفل – بلا لون ولا رائحة وتشرب القهوة في اليوم أكثر من عدد الصلوات . عندما أدركت سر عشقها للقهوة غالباً ما أرجع في العطلات الجامعية متأبطاً رطلين من البن والغرنجال من محلات التيمان في أم درمان ، وعند وصولي إلى المنزل أدخل عليها مسارقة ، وفي ذات مرة سلمت عليها وأعطيتها الأمانة ، فأقسمت عليّ أن لا أتحرك من مكاني حتى أشرب فنجاناً من قهوتها الخاصة ، فملأت لي فنجاناً أصفر اللون تعوم على سطحه حشرة ميتة ، وهي تصر على شرب الفأل ، فما كان مني إلا أن تجرعت الفنجان مغمضاً ومثبتاً الحشرة المباركة بشفتي العليا ، ثم أمرت جميع من في المنزل بالحضور والسلام على الولد الوحيد الكلس بما فيهم أمي.
جدتي تتعرف على أحفادها ليس عن طريق الجينات وإنما بأصواتهم فقط ، فتقول هذا آدم ود فاطنة ، وذاك حيضوري ود زيمت – زينب - وعبد اللاهي ود أمونة ، وعبد الله ود مريم عيدة ، وتسميهم لأمهاتهم على مذهب النسب الأفريقي كما ولها قريب في أبو ظبط – أبو ظبي - .
هذه الحبوبة لها مفرداتها وعباراتها الخاصة فمثلاً : تصف لك شدة ظلام ليلة خريفية بأنك تستطيع أن تتكيء عصاك على ظلامها من الكثافة . ومن عباراتها : ( صنقــر تَــــس ، وقُم زَت ، وأمشي سَـــــــــت سَــــــــــت قضّي غرضك ، وأجري دقــاق تعال) .
ذهبت ذات يوم إلى منزل الأستاذ الكبير أبي بكر الجباري المرحوم الذي تقرب إليه بنسب لتعزيه في ابنه الذي قتله الثعبان . فقالت له : أخوي أبكر الفاتحـة . فرد عليها يا خديجة أبو بكر أبو بكر وبعدين الولد سلف ودخري ، خلاص أرجعي لأن بيتك بعيد والليل أليل . عندما تركب المواصلات لاتدفع الأجرة مطلقاً بحجة أنها أنصارية ، وقد سبقت حكومة هونغ كونغ بثلاثة عقود من اتخاذ قرارها بتخفيض قيمة التذكرة للكبار إلى النصف Senior Citizens .
ذات صباح مدرسي ونحن طلاب ثانوية نقف في المحطة فإذا هي هي تمر مسرعة تجر عنزتها تنقا – ولعنزاتها أسماء في حياتنا - عبرت مجموعتنا ولم تسلم ، فإذا بطالبة من بيننا أرادت إحراجها ، نادتها : حبوبة خجيجة ما بتسلمي مالك ؟ فردت بأنها لم ترنا لأنها مشغولة وفي طريقها إلى منزل عبدالله التلب الذي لديه تيس فحل وعنزتها منذ حولين لم تحبل وفي طرف ثوبها صرة خمسة قروش لزوم البياض فما كان من السائلة إلا أن ابتلعت سؤالها وريقها .
من الأشياء التي لا تفرط فيها صلاتها وقسمها بالمهدي وخليفته ولربما سجعتها باليماني ورغيفته ، ثم أنها تتحدث طوال اليوم مع نفسها لدرجة يحسبها المار أن بمعيتها أشخاص ، وكانت أول محاولة شعرية لي فيها إذ قلت :
جدتــــي شمطاء متقرفـص تثرثر أعواماً وتبصبص
الجدات في بلادي أصناف وألوان ، فهناك جارتنا زرقة أم حماد الكباشية التي تنتعل المركوب الرجالي وتلبس السروال أبو درة وتحضر مجالس الرجال لدرجة أن وصفها العامة والدهماء بزرقة أم بيض . تنفس الحوامل وتفك الزار وتتحدث مع الدستور الذي يمتطي النساء عدد لغاتهم ، وتعرفهم بأسمائهم من شريف الحبشي إلى جرجس القبطي ، كما تخفض البنات فرعونياً وكوشياً ، وتنهر الرجال وتهجرهم ، وترجع المطلقات إلى بيوتهن وتسافر ليلاً بلا مرافق ولا فتوى . وهنالك بنت المجذوب فالتة اللسان في رواية الطيب صالح ، وبت قضيم على لسان الفاضل سعيد وغيرهن .
والجدة في الميراث الإسلامي يحق لها السدس من الميراث بشروط بناء ً على حديث قبيصة بن ذؤيب ، وهناك جدات خارقات مثل الحبوبة جورجينا هارود من جنوب أفريقيا التي تبلغ من العمر اثنين وتسعين عاماً ، قامت بالقفز بالمظلة في مدينة الكاب من إرتفاع تسعة آلاف قدم لتفي بما وعدت به اثنين من أحفادها .
الجدة في الماضي لها شنة ورنة ودور مؤثر في تربية وتغذية الأحفاد بالقصص الخيالية والشهامة والسلوك التربوي ، وهذا ما جعل الكثير من الناس يقودهم السائد العام بلا روية الممتوح من الجدات حتى بعد أن فارقوا الطفولة . تقلص دور الجدة لدرجة أنها أصبحت لعبة للأطفال تسمى الجدة في الجنة Granny in Paradise لعبة أركيد طريفة بها جدة تحاول إنقاذ قطتها المسماه الدكتور ميـــــو .
وبمناسبة الجدة والسائد العام فقد طرح أحد دارسي معهد الموسيقى والمسرح إبان الديمقراطية السابقة في دار الكتاب سؤالاً موجهاً لشاعرنا الكبير الفيتوري في قصيدته عرس السودان ، فقال له : لماذا كان جنوبياً هواها وكان العرس عرس الشمال ، ولم يكن شمالياً هواها وكان العرس عرس الجنوب ؟ أم أنك واقع في السائد العام؟ فما كان رد الشاعر : حقيقة لا يخرج ذلك من نمط السائد العام . والسؤال السائد هو : هل السائد العام الذي رضعناه من محبوباتنا هو الموقف الصحيح الذي يؤطر الهوية ويشكل المزاج السوداني العام بضبانته ؟
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة