في الخرطوم ... القبر ليس كافيا لحماية حرمة للموتي
حسن سعيد المجمر طه/ المحامي
نساء ورجال في العقد الرابع والخامس من أعمارهم تجمعوا عند الجهة الجنوبية من مقابر العزوزاب ينظرون بحسرةٍ الي قبور من رحلوا عنهم من الآباء والأبناء والأخوان التي خلت فجأة ودون مقدمات من رفاتهم. فبعد ثبات عميق دام لسنوات طويلة إمتدت اليهم أيدي أثمة لتقول لهم ليس من هنا البعث ليوم الدين إنما سترون الشمس وتجمهر النساء وستتعذبون بالبكاء والعويل الذي سينطلق من جديد كما كان أول لحظة الفراق.
لكن أجسادهم التي تحللت وإختلطت بهذا القبر لن ترافقكم جميعا فمن المحتمل أن ينسي أحد (الحفارين) رأساً أو رجلاً أو عظيمات متفرقة، فليس بإمكانكم إستنكار ما يفعله أهل الدنيا بكم لأن ألسنتكم بيد مليك مقتدر.
إن من حق الأموات أن تحترم حرماتهم، فالقبور هي المكان الوحيد الآمن للإنسان بعد عناء الحياة ومتاعبها الجسام.
والدار الآخرة هي المخرج الوحيد لجميع أفراد الشعب السوداني الذين عاشوا خلال الخمس عقود الماضية ... فمنذ الإستقلال وحتي الآن لم يحظي أي فرد سوداني من العامة من نصيبه المكتوب بموجب الأرقام المعلنة من الدخل القومي. ومعظم الأموات الذين أقلقت مضاجعهم أيدي بناة طريق كبري الدباسين لم يتلقوا العلاج مجانا أو التعليم مجانا.. بل غالبيتهم لم يرتووا من محطة مياه نقية بنتها أية حكومة كانت.
إن من حق ذوي هؤلاء الموتي أن يجأروا الي الله بالشكوي لما ألم بحرمة موتاهم وبحراسة الشرطة التي ينبقي لها أولا أن تحرس كرامة الإنسان وقدره.
ما جري في مقابر العزوزاب يدعوا للدهشة، إذ أُعلن للناس بإقتضاب في صلاة الجمعة الموافق 13 أبريل 2007م حسبما أبلغي أحد ساكني المنطقة أن هناك نية لتوسيع الطريق والذي سيتعدي بالتاكيد علي بعض القبور لكن الإعلان لم يصطبر أهله حتي يأتي أولياء الموتي الذين وقعت قبورهم عند خط الإزالة. فعاجلتهم في الصباح الباكر لليوم التالي السبت الموافق 14 ابريل 2007م قوة من الشرطة إنتشرت تحرس جميع أركان المقبرة وتمنع ذوي الموتي والعامة الذين دفعتهم الدهشة لمعرفة ما يحدث لأن بعض القبور التي تنبش في كثير من الأحيان ترتبط بالتحقيق في جريمة وتتم إجراءاتها بإعلان مسبوق وإذن كتابي معروف من النيابة وتحضر الفرق الطبية بمختلف تخصصاتها المطلوبة.
لكن ما حدث في مقابر العزوزاب يجعلك تتراجع ألف مرة ومرة عن أن توافق لذويك أو لنفسك ان يكون قبرك في اي مقبرة في الخرطوم قريبة من طريق مسفلت أو مشروع إستثماري مزمع إقامته لأنك ستكون الضحية الأولي، فليس هنالك من أهلك من يستطيع الإعتراض علي أمر رسمي لإزالة قبرك وليس لأهلك أيضا الحق في المطالبة بالتعويض فانت مجرد جيفة لا تنفع ولاتضر ولا تجد الإحترام والتقدير.
لقد حضر بعض الموظفين المدنيين الذين شاهدتهم بأم عيني وأحسبهم يمثلون جهات رسمية يقومون بتوزيع الكمامات علي (الحفارين) الذي هم في الغالب مساجين أو عمال طلقاء يبحثون عن رزق يومهم ولو خالفت نتيجته الأخلاق أو العادات أو التقاليد.
لقد رغبت في نفسي وأنا أتفحص من علي البعد في عيون أفراد الشرطة أن يلقي أحدهم بندقيته ويذهب نحو قائده ليقول له أوقفوا العمل حتي يأتي جميع أهل هذه القبور التي ننوي نبشها، لأنهم أحسنوا دفنها وتقبلوا العزاء في موتاهم علي أحسن حال، بل نحن لا ندري إن كان بعض أصحاب هؤلاء القبور ماتوا في ظروف صحية خطيرة تستدعي أن تكون معنا فرق طبية مجهزة من لوازم عملها المعروفة في مثل هذا الحال، وفوق ذلك فإن كل تكليف لنا لا يعتبر تنفيذه مُنزلا من السماء خاصة إذ إرتبط بإهانة كرامة الإنسان حيا أو علي وجه الخصوص ميتا.
وفي ذلك يحضرني رفض أحد أفراد الشرطة المصريين التكليف الذي نقل إليه من قائده بأن ينضم الي حراسة سفارة إسرائيل بالقاهرة .. فقال أنه لا يقبل أن يقوم بحراسة من قتل اخوانه من عامة الشعب المصري والقي ببندقيته فساندته كثير من أسر الشهداء واضحي بطلا ينظر اليه زملاءه انه قال -لا- في وضعها الصحيح.
أعود الي بكم الي مقابر العزوزاب واقول: لقد أخرجت بعض الجثث وحُملت بواسطة أولئك العمال بشكل لا يليق ابدا بكرامة إنسان.. هل تتصورا أن رجلا يحمل ميتا .. رأسه عار ..أو حتي مقطوع.. وأرجله متدلية. يقطع به مسافة خمس أمتار أو عشرة ليُلقي به في صندوق معد لذلك، ثم يعود ليحمل الآخر دون أن يحدد نوعه ذكرا كان أم أنثي أو أن يكتب إسمه علي الصندوق أو رقمه أو يترك أية معلومة يمكن أن تحدد لذويه أن يعرفوه بها.
لقد حملت عربة الشرطة بعد إنتهاء عمليات النبش عشرات جثث الموتي الي مكان غير معلوم. وتركت تلك القبور مفتوحة دون أن تقوم بدفنها لتستر ما تبقي من رفاة اولئك الموتي.... أشهد الله أنني ومعي أكثر من خمس رجال رأينا رأس أحد الموتي متبقية في القبر، حيث ذهبت الشرطة بالبعض الآخر....
ختاما: من عندي أقترح لأعضاء برلماننا المؤقرين أن يعقدوا جلسة خاصة يناقشوا فيها مسألة مستعجلة حول ...كرامة الموتي وحرمة المقابر... وأن يصلوا الي قانون واضح يحرم تماما علي الحكومة أية حكومة وبجميع مستوياتها أن تتعدي علي القبور....
أليس من العيب أن لا تري السلطات المختصة عندنا العناية التامة والإجراءات القانونية السليمة التي تبذلها حكومات دول قريبة منا في مثل هذه الحالات... ألم يسافر مسئول الي أوربا ليشاهد بعينه شواهد قبور ترجع لمئات السنين... في وقت حولت فيه حكوماتنا المتعاقبة مقابر كبيرة كانت تُزار الي ملاعب لكرة القدم وأندية لإقامة حفلات المناسبات... إتقوا الله يا هؤلاء.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة