زفرات حرى
الطيب مصطفى
[email protected]
لو كنتم تحبّونهم احترموا خيارهم
أرجو من قرائي الكرام أن يتأملوا ما خطه يراع الكاتب الباحث الشاب كمال أحمد يوسف الذي أتوقع له مستقبلاً باهراً كما أرجو من النائحين على وحدة الدماء والدموع أن يُعملوا عقولهم قبل عواطفهم خلال اطلاعهم على هذه النصائح الغالية:
كل من طالع الصحف في الأيام الماضية لا بد أنه قرأ جملة من التعليقات، والكتابات التي وردت في أكثر من صحيفة كلها دارت حول الدموع التي سكبها أهل الوحدة حزنًا على من فارقوهم من أهل الجنوب من بعد عُشرة طويلة كما قالوا.. كانوا فيها في حالة من الإلفة والتآخي، كأنما الحرب بين الشمال والجنوب كانت نزهة ومجرّد «هظار»، ولم تُسكب الدماء التي راح ضحيتها أكثر من مليوني مواطن سوداني.
لا نريد أن نتدخل أو نستنكر أي شعور إنساني تجاه شخص دام العيش معه سنين عددا، ثم شاءت الأقدار أن تفارقه، شعور إنساني عادي يمكن أن يصدر تجاه أي إنسان بغض النظر عن دينه أو عِرقه، ولكن هل ما سكبه أولئك من دموع تقف دليلاً كافياً على أن السلام الاجتماعي بين الشمال والجنوب كان على ما يرام ولم يكن هنالك ما يكدِّره، وأن الأوضاع كانت تسير «سمن على عسل»، و هنالك مجموعة لها مزاج انفصالي صحت من نومها ذات يوم «وخلفت رِجلاً فوق رِجل» مطالبة بانفصال الوطن، هم صوّروا الأمر كذلك بناءً على عاطفة عابرة تجاه «الساعي» الذي كان يعمل في جريدة كذا، أو العامل الذي كان يعمل في البيت الفلاني كما جاء ذلك في «السوداني» و«الرأي العام»، وكما ذكر صاحب «الأهرام»، كل هؤلاء يريدون أن يؤسسوا لعلاقة سياسية بناءً على لحظة عاطفية وهي «حنّية» سودانيين اعتادوا عليها منذ قديم الزمان، وقد أضرّت بهم كثيراً مسألة تأسيس المواقف على اللحظات العابرة.. وهل رأيتم أمة في العالم بنتها لحظة نزول دمعة، نقول هذا ليس دعوة لتحجّر القلوب لكنه دعوة للواقعية وتوسيع مساحة النظر للأشياء وقراءة المشهد بصورة أكبر.
«طيّب» لو كانت هذه الدموع تكفي لنؤسس عليها موقفاً يدعو للوحدة «الجاذبة» فكم دمعة سالت في خدود الشمعة، والشمعة هنا ليست شمعة الكابلي وحده ولكن أية شمعة سودانية ثكلت ابنها أو زوجها أو أخاها، كم دمعة سالت منذ العام 1955م وحتى نيفاشا 2005م، قارنوا بين الدموع التي سالت طيلة الخمسين عاماً وبين دموعكم التي سالت في لحظة وداع تجدوا أنه لا مجال للمقارنة.. فالخمسون عاماً الماضية كانت كلها «دموع في دموع ودماء في دماء».. أو لم تذكر العجوز الجنوبية ربيكا ذات المائة وخمسة عشر عاماً أنها كانت تتوق لمثل هذه اللحظة منذ سبعين عاماً وهي تقذف بورقة الانفصال داخل صندوق الاقتراع، كان الأحرى يا هؤلاء أن تجودوا بقطرات من دموعكم لهذه السيدة أيضاً تعاطفاً مع حالتها ومع حلمها الذي تحقّق ومن الحرمان الذي عانته سبعين عاماً، كلام هذه المرأة كان طلقة على شعار «منقو قل لا عاش من يفصلنا»؛ لأن منقو هذا كان يريد الانفصال ولكنه لم يُمنح صندوقاً للاقتراع ليختاره؛ لأن العلاقة أصلاً بين الشمال والجنوب تأسست على تلك المقولة العاطفية، فلو كان هؤلاء المدمعون يحبون من غادروهم فليحترموا خيارهم، وعليهم أيضاً أن ينظروا إلى المشهد في النصف الآخر من الميدان فهنالك أيضاً دموع غزيرة خرجت من عيون رئيس الجنوب سلفا كير، ومن عيون ربيكا قرنق، ودينق ألور، وقبلها دموع باقان عند سماعه النشيد الوطني للدولة الجديدة، انظروا إلى فرحهم الجارف في طرقات جوبا، ومدن الجنوب منذ أيام التصويت فكيف يكون حالهم لحظة إعلان الدولة؟ قطعاً ستكون الدموع أغزر والبكاء أشد حرارة.. ولا أستطيع أن أصف ذلك اليوم مثل ما وصفه قادة الحركة بأن بعض أهل الجنوب ربما يموتون فرحاً في ذلك اليوم «لاحظ».
ربما يلوم البعض نفسه من أن هنالك بعض الأشياء إذا فُعلت من قِبل الشمال لظل الوطن موحداً، ويشطح بهم الخيال في اختراع النظريات السياسية وتشعيب وجهات النظر في جدل الجنوب والشمال، ولكن كل هذا لا يصمد أمام الحقيقة البائنة أن الجنوبيين يريدون دولة بشحمها ولحمها فقط لا غير مهما تجمّل الناس بنظريات التعايش والوحدة.
قبل أيام كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي مقالاً بصحيفة «الأحداث» أعجبني فيه عنوانه بالخط العريض: إن على كل وحدوي أن يفرح بالانفصال طالما أنه يحقّق كل هذا الفرح الطاغي للجنوبيين على حد تعبيره، وفي ظني أن الإيمان الزائد بمسألة الوحدة فيه إلغاء لعقل المواطن الجنوبي، فمسألة دخول الجنوبيين في تجربة حكم دولة قائمة بذاتها أمرٌ مهم للغاية؛ لأن فيه فرصة لإسقاط كل أدبيات الخطاب السياسي الجنوبي.
كمال أحمد يوسف
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة