زفرات حرى
الطيب مصطفى
[email protected]
إني أكاد أختنق!!
عندما يصبح الحزن إجبارياً!!
ما أتعس المرء وأشقاه عندما يُحرم من التعبير عن نعمة الفرح والسعادة!! وهل من بؤس وتعاسة وبلاء أكبر من أن يختلس المرء الابتسامة ويسترق الضحكة ويخشى من العقاب بلا جريمة؟!
إنها الخرطوم التي يُفرض عليها الحزن وتخيِّم عليها الكآبة بينما تمتلئ جوبا بالفرح والحبور والسعادة!!
في الخرطوم «العريقة» لكي نخرج في مسيرة نعبِّر فيها عما يجيش في نفوسنا وما يضطرم من مشاعر الانعتاق من نير استعمار الجنوب الذي عذّبنا وأرهقنا وعطّل مسيرتنا يتعيَّن علينا أن نأخذ إذناً من الشرطة وبما أن الشرطة والسلطات الأمنية تمنع المسيرات والتجمعات رغم أنف الدستور يصبح طلب الإذن من قبيل إضاعة الوقت وبالتالي لا يملك الناس إلا أن يكتموا مشاعر السعادة داخل صدورهم ويستحيل ذلك إلى هم وغمّ وتعاسة وشقاء!!
أما في جوبا الطليقة «الوليدة» فإن المسؤولين هم الذين يتقدمون مواكب المحتفلين ويهيِّجون مشاعرهم ويجمعونهم حول وطنهم الجديد ويوقدون فيهم جذوة الروح الوطنية في أعظم ملحمة لصناعة الانتماء للوطن الوليد وفي أضخم درس في التربية الوطنية!!
يحدث هذا في وقت يتكأكأ فيه الإعلام العالمي علينا يسمع ويرى ويسجِّل فهل من حرب على الذات وانتحار أكبر من هذا؟!
جربنا طلب الإذن مراراً وتكراراً وحتى قبل أيام قليلة طلب شبابُنا وطلابُنا إذناً بالخروج في مسيرة لتأييد تصريحات الرئيس في القضارف حول انتهاء عهد «الدغمسة» وأعلنّا عن ذلك في «الإنتباهة» وحدَّدنا اليوم فإذا بالشرطة تحاصر دار منبر السلام العادل وبما أننا لسنا دعاة صدام فقد انفضضْنا سلمياً.
في يوم التاسع من يناير... يوم الاستفتاء الذي نعتبره عيداً للاستقلال الحقيقي حددنا ثلاث مناطق لنحتفل بعيدنا الوطني في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري... لم نطلب الإذن المستحيل لأننا نعلم النتيجة وقررنا مفاجأة الشرطة والأمن بإقامة الاحتفالات بدون إعلان مسبق بحيث ننفض قبل أن تكتشف القوات الأمنية أمرنا ورغم ذلك كانت الشرطة لنا بالمرصاد... فقد زحزحونا من المواقع التي حددناها رغم أننا لم نعلن عنها حتى خرجنا إلى ميدان الشقلة بالحاج يوسف وميدان آخر في الكلاكلة وآخر في أمدرمان ونجحنا في إقامة احتفالات سريعة خوفاً من أن يدهمنا أعداء الفرح وعشاق التعاسة فيقتلون الابتسامة في أفواهنا وينتزعون السعادة من نفوسنا!!
في ليلة رأس السنة الميلادية «الجريجورية» يُسمح للناس بالخروج إلى الشارع وبالاحتشاد والمرح واللهو وبالبوح بما انكتم من مشاعر بينما يُحرمون من التعبير في القضايا الوطنية ولو طلب الناس إذناً للخروج احتفالاً بالاستقلال في نفس اليوم لحُرموا وهكذا دواليك في كل شأن جاد بما في ذلك بالطبع إعلان دولة السودان الشمالي الحُرة المستقلة بعد أن حددت وجهتها وحسمت هُويتها وخرجت من سلطان «ترلة» الجنوب!!
ماذا دهانا أيها الناس ومن هو ذلك الذي يشنُّ الحرب على نفسه وعلينا وعلى إحساسنا بوطننا وهُويتنا؟! من تراه يسعى إلى تحويلنا إلى قطيع من الأغنام لا همّ لها إلا الانكفاء نحو ذواتها؟!
لماذا يا تُرى يُراد لنا بل يُفرض علينا أن نحزن؟! وطننا الشمالي هو الذي يُصنع الآن وتعاد صياغته من جديد وليس الجنوب الذي يقفز في ظلام المجهول ويحتاج إلى وقت ربما يطول ليدخل في سياق التاريخ ورغم ذلك تُفرض علينا الكآبة وتُكتم أنفاسنا ونُحرم من التعبير عن مشاعرنا وإحساسنا وانتمائنا الوطني وهُويتنا الحضارية!!
إلى متى يمارس تلفزيون السودان في غباء بليد التدليس وتزوير التاريخ واصطناع البؤس وقلب الحقائق، بل إلى متى تصر الحكومة على فرض الحزن على الناس في الخرطوم وفي الشمال حتى وإن كانوا في واقع الأمر فرحين بالرغم من أن المصلحة الوطنية تقتضي أن تشيع الأمل في النفوس وتملأ الناس بالبشر والتفاؤل بوطن جديد يتحرر من قيد التنازع حول الهُوية ويودِّع عهد التشاكس والتناحر والحروب؟!
من تراه يحدِّث الناس أن وطننا الجديد لن يكون بعد اليوم في مؤخرة الأمم والدول وأنه سيرتفع في سلم الترتيب الذي تصدره المنظمات الأممية سواء في مجال التعليم أو الصحة أو معدلات الفساد أو إحصائيات الإيدز والكلازار ووفيات الأطفال والأمهات الحوامل؟!
من ومن ومن؟!
متى نكفّ عن النحيب وعن المناحة المصطنَعة التي أعلم يقيناً أنها لا تعبِّر عن مشاعر شعب السودان الشمالي الذي ذاق ويلات أحداث يوم الإثنين الأسود ولا يزال يخشى من تكرارها جراء الضغوط التي يفرضها أعداء الشمال لمنح الحريات الأربع بكل ما يعنيه ذلك من تهديد للأمن القومي في الشمال ومن سلوك يجافي ديننا وقِيمنا؟!
متى نفيق من جنوننا ونستمع إلى باقان وهو يودعنا «باي باي للعبودية.. باي لعدم الاحترام.. باي باي للاضطهاد»؟!
أعلم أن الاحتقان السياسي والخوف من تهديدات ووعيد المعارضة هو السبب في كل هذه الإجراءات الاستثنائية، ووالله إن الأرحم بالشعب وبعافيته وانتمائه الوطني أن تُقدَّم مبادرات جريئة تمنع هذا الاحتقان وذلك بوضع حديث الرئيس عن حكومة القاعدة العريضة موضع التنفيذ من خلال تنازلات في السلطة كبيرة واتفاق على برنامج وطني يُبقي على ثوابت الهُوية وينزع فتيل التوتر ويُتفق فيه على حل المشكلات الكبرى مثل دارفور وغيرها.
إني والله من أكثر من يدعون إلى السلام ويحذرون من انفجار الغضب الشعبي خوفاً من حريق كبير أكاد أراه رأي العين لكني أحذر وأقول إنه من أكبر الأخطاء أن يظن القائمون بالأمر أن كتْم الهواء الساخن في الإناء ينجح على الدوام في منع الانفجار!!
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة