زفرات حرى
الطيب مصطفى
بين البشير والمهدي والميرغني وحكومة القاعدة العريضة
سعدتُ كثيراً لحديث الرئيس البشير في ذكرى الاستقلال والذي فتح الباب واسعاً لحكومة ذات قاعدة عريضة، وبهذا يكون البشير قد رمى بالكرة في مرمى أحزاب المعارضة خاصة حزبي الاتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني وحزب الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي من أجل الاشتراك في الحكومة القادمة التي ستتيح فرصة كبيرة للمشاركة تتمثل في خلو مقاعد الحركة الشعبية بعد الانفصال.
لعل ذلك كان أهم ما ورد في كلمة البشير بمناسبة ذكرى الاستقلال لذلك لا غرو أن اهتمت به الصحف والإعلام المحلي والعالمي وكان من الطبيعي أن يسعى البشير لهذا الطرح التصالحي لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة خاصة وأن الحركة الشعبية قد سبقت بتقديم طرح مماثل للأحزاب الجنوبية بالرغم من عدم توافر مقاعد شاغرة كتلك المتاحة للبشير جراء مغادرة الحركة لمسرح السياسة في السودان بعد الانفصال، فقد قال باقان أموم الأمين العام للحركة إن «الحركة مستعدة للتنازل عن جزء من السلطة في الجنوب لتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة مع كل القوى السياسية في جنوب السودان» وأكد أن هذه الخطوة تعني خروج بعض قيادات الحركة من الحكومة بعد الاستفتاء ليدخل آخرون خاصة حاملي السلاح ضد الحركة الشعبية.
بالطبع كان من الممكن للبشير أن يطرح ـ كما ظل يفعل ـ ذات الطرح للحركات الدارفورية المسلحة خاصة الكبرى منها لكن من أسفٍ فإنه في حين يجتهد «الخواجات» بمن فيهم منظمة الأمم المتحدة التي دخلت وسيطاً بين الحركة وكل من الفريق أطور والفريق قلواك قاي اللذين يسهُل الاتفاق معهما كونهما لم يتمردا إلا احتجاجاً على حرمانهما من السلطة عن طريق تزوير الانتخابات وها هي السلطة تأتيهما ركضاً فإن القوى المعادية للشمال من أمريكان وصهاينة وأوربيين يفعلون عكس ما أقدموا عليه في جنوب السودان الذي يعشقون خدمة لأجندتهم الشريرة ولذلك تجدهم وأذنابهم في المنطقة يعوقون الاتفاق مع الحركات الدارفورية التي يحتضنونها.
الآن وقد وجه البشير الدعوة لأحزاب المعارضة فإنه لا مجال للسيد الصادق المهدي إلا أن يستجيب فقد كان ما أقدم عليه البشير أحد مطلبَيه ومن شأن عدم الاستجابة أن يجعله متناقضاً ويقدِّم دليلاً جديداً يُضاف إلى عشرات الأدلة القديمة على تردده وعجزه عن اغتنام الفرص واتخاذ القرارات الكبرى خاصة عندما يقتضي الظرف السياسي الوطني ذلك.
أعجب والله أن يظل السيد الصادق المهدي أسيراً لتيارين متعارضَين داخل حزبه كلٌّ منهما يجره إلى موقفه ويظل هو حائراً متردداً لا يستطيع الحسم تأكيداً لسمة بارزة في شخصيته، فقد أُتيحت له فرص كثيرة اغتنمها غيره ممن لا يبلغون معشاره من حيث الخبرة والثقافة فمبارك الفاضل مثلاً بشخصيته الجريئة يتخذ قرار حل حزبه اليوم بنفس الجرأة التي عبر بها صحارى التباعد بينه وبين الإنقاذ ليلتحق بركبها ولولا طموحه الأعمى وعجلته لكانت حظوظه أوفر في مسيرة الإنقاذ.
أكاد أجزم أن شخصية الصادق المهدي المتردِّدة التي يستغلها من يسعون لتوظيفها لخدمة أجندتهم ستجعله يفوِّت الفرصة مجدداً ولا أظنه يقوى على الخروج عن أسر الترابي ونقد ولا أقول عرمان الذي تضاءل دوره بعد أن ألقى به رفيق دربه باقان في سلة المهملات ومزبلة التاريخ!
أعجب والله أن تنجح الحركة في ترتيب الحوار الجنوبي الجنوبي وتجمع حتى ألد أعدائها بينما يعجز المؤتمر الوطني عن كسب القوى السياسية الأخرى إليه من خلال تقديم ما قدم أضعافه قديماً لقرنق وما يقدمه اليوم لمتمردي دارفور.
إنني لأرجو أن يهتبل المهدي هذه الفرصة وينتصر هذه المرة على جميع من يحاولون التأثير عليه ويعاند ويستبدّ مرة واحدة «إنما العاجز من لا يستبد» في هذا الظرف الوطني الذي يحتاج إلى التكاتف وليت البشير والمهدي يتجاوزان حسابات الربح والخسارة التي يغرق في مستنقعها الصغار ويدركان أن الوطن يستحق أن يقدَّم على هذه الصغائر وليت الرئيس البشير يضع في اعتباره التصريحات الإيجابية التي ظل المهدي يطلقها حول شخصية البشير الذي ظل يصفه بـ «ود البلد» بل إن المهدي سمَح لابنيه أن يعملا في أجهزة دولة الإنقاذ فهل من جزرة أكبر وأعظم من فلذتي كبده؟!
أما الميرغني بشخصيته التصالحية فإن فرص التلاقي بينه وبين البشير أكبر بكثير فالرجل يتمتع بقدرة عالية على كبح جماح التيارات المتضاربة داخل حزبه وسطوته على الحزب أكبر بكثير من سطوة المهدي على حزبه وتصريحاته الإيجابية حول حديث البشير في القضارف بشأن الشريعة وإزالة حالة الدغمسة تشي بتقارب كبير يُسهِّل من عبور الضفة الضيقة من النهر التي تفصل بينهما.
لن أتحدث عن القوى الأخرى خاصة المؤتمر الشعبي الذي يتضاءل وزنه يوماً بعد يوم بين الإسلاميين إلا أن تأثيره يكمن في أزمة دارفور وعلاقته بحركة العدل والمساواة ولعل الناس يذكرون رفض الدكتور الترابي إدانة محاولة غزو أم درمان التي أقدم عليها المتمرد خليل إبراهيم الذي تشير كل الدلائل على علاقة التلميذ بالأستاذ التي تربطه بالترابي في حين قام السيد الصادق المهدي بإدانة الهجوم في الساعة الأولى بعد الهجوم.
إنها فرصة سانحة لمواجهة مطلوبات المرحلة المقبلة ولن يذكر التاريخ للمهدي مشاركته في الحكومة في هذه اللحظات المفصلية إلا من قبيل الترفع عن الصغائر في سبيل الوطن، أما البشير فإنه مطلوب منه أن يعمل بمنطق كريم القوم وكبيرهم ويعطي لا يستبقي شيئاً في سبيل توسيع قاعدة حكومته بعيداً عن الاهتمامات والمماحكات الصغيرة فكسب الميرغني والمهدي سيمنح حكومته قوة تحتاج إليها كثيراً خلال الفترة المقبلة.
جنوب السودان
بين الترابي والطلقة الرجعية..!!
د. الترابي قال لصحيفة الأهرام اليوم معلقاً على انفصال الجنوب: «أولاً مع الجنوب رجعة إن شاء الله بعد طلقة أصبحت يقيناً ولو بعد حين».
بالله عليكم هل من منطق يسند هذا الكلام الذي يعني أن الرجل يتحدث عن أن الجنوب سيعود إلى الشمال ويتوحد معه من جديد؟!
الترابي الذي كان قديماً لا يُلقي الكلام على عواهنه وإنما بفكرٍ ثاقب ونظر حديد وبعيد ما عاد ذلك الرجل يرى به ويبصر وإلا فخبروني عن الحيثيات التي يمكن أن تقود إلى هذه النتيجة؟!
أيهما بربكم أقرب إلى الجنوب والجنوبيين الشمال والشماليون بكل إرث الحقد والحرب والتوتر والاختلاف في الثقافة والهُوية والعادات والتقاليد والمشاعر أم يوغندا التي يوجد بينها وبين بعض قبائل الجنوب تداخل قبلي «الأشولي مثلاً» كما لا توجد تجربة حرب وعداء وإنما تشابه في كل شيء تقريباً خاصة من حيث الهُوية الأفريقانية المبغضة للعرب؟!
هل الأقرب إلى التوحد مع الجنوب يوغندا وكينيا أم الشمال الذي خاض مع الجنوب أطول حرب في التاريخ الحديث.. حرب أهلكت الحرث والنسل وولدت من الذكريات ما لن تمحوه الأيام والسنون.. حرب دخلت إلى بيوت مواطني الخرطوم في عقر دارهم من خلال أحداث الإثنين الأسود والأحد الدامي وغيرهما من أحداث ستظل عالقة لأزمان ودهور؟!
بالله عليكم لو كان الإنجليز قد وحّدوا الجنوب مع يوغندا بدلاً من الشمال هل كنا سنشهد الحروب التي اشتعلت قبل أن يخرج أولئك المستعمِرون من ديارنا وهل كانت ستقوم حروب بين الجنوب ويوغندا أم أن أقاليم الجنوب ستتوحد تماماً مع الأقاليم اليوغندية الأخرى وتنصهر القبائل الجنوبية مع القبائل اليوغندية دون توجس أو تباغض أو تنافر أو عقدة اضطهاد؟!
من جانب آخر هل كانت ستشتعل الحروب بين الشمال ومصر لو كان الإنجليز قد كفّوا عن سعيهم الذي تكلل بالنجاح والذي أدى إلى فصل السودان عن مصر أم أن الدولتين والشعبين كان من الممكن أن يصبحا القوة الأعظم في إفريقيا حيث تمتزج القوة البشرية «في مصر» مع القوة المادية ـ الزراعية خاصة ـ في السودان؟!
أيهما أقرب اليوم إلى شعب السودان الشمالي الشعب الإريتري والمصري والتشادي أم الشعب الجنوبي بمشاعر الصراع الدموي الطويل التي تولدت ثم تصاعدت وأصبحت حمماً بركانية من الحقد الأعمى؟!
عندما يصبح الجنوب دولة مستقلة يا شيخ حسن وتنتهي الأناشيد العاطفية السابحة ضد تيار التاريخ «منقو قل لا عاش من يفصلنا» ويطويها النسيان فإن الجنوب سيكون شيئاً بعيداً وسنفكر في الاقتران بغيره هذا بالطبع إذا كفَّ شرَّه عنا وتوقفت الأجندة الخارجية التي تريد أن تستخدمه للنيل منا.
الترابي الذي ما عاد يزن كلماته بميزان الذهب كما كان يفعل قديماً بل ولا بميزان «الحصحاص» تساءل في نقده غير الموضوعي للحكومة التي كان ربانها ذات يوم: «هل الإسلام هو ضرب البنات المسكينات»؟!
لو قال هذه العبارة غيره لكان أولى فهي تشبه كمال عمر ولا تشبهه.
الترابي قد لا يعلم في إشارته لفتاة الفيديو بسؤاله الاستنكاري هذا أن تلك الفتاة كانت تدير بيتاً للدعارة لإشاعة الفاحشة في حرائر السودان وحُكم عليها خمس مرات وفُصلت من الجامعة بسوء السلوك.. فهل يصح أن توصف بالمسكينة أم يصح أن يطبَّق عليها حكم الله تعالى: «ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» وأية عقوبة غير الضرب والجلد القرآني يريد الترابي أن يقام على تلك الفتاة؟!
إنه من أسفٍ فقدان البوصلة الذي جعل الرجل يهرف بما يعرف وما لا يعرف.. بوصلة طاشت بفعل الحقد والرغبة في التشفي والانتقام الذي لا يطفئ لهيبه إلا قول الله تعالى: «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة