بيتر هولت.. مؤرِّخ الشََّرق الأوسط والسُّودان
ترجمة الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
إرتأينا بهذا المقال تسليط الأضواء على سيرة مختصرة لأحد أعلام مؤرخي الشَّرق الأوسط بترجمة ما ورد في رثائه بعد الرحيل، وبعد أن خلَّف عملاً تأريخياً دسماً لطلاب التأريخ ولا سيما تأريخ السُّودان الحديث.
عمل بيتر هولت أستاذاً لتأريخ الشَّرق الأدنى والأوسط في مدرسة الدِّراسات الشرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن. ولقد كان مؤرِّخاً لتأريخ الشَّرق الأوسط بصفة خاصة. وعلى وجه العموم، تركَّزت اهتماماته – جغرافيَّاً – على السُّودان ومصر وسوريا. إذ أنَّ مداه التأريخي كان واسعاً، حيث بدأت حياته بدراسة لدرجة البكلاريوس في الرسائل بجامعة أكسفورد، وكانت مادة دراسته هي: المستشرقين الإنكليز في القرن السَّابع عشر. أمَّا دراسته الميدانيَّة لرسالة الدكتوراه – بنفس الجامعة – فهي ما نشرها في كتابٍ عن السُّودان في أواخر القرن التَّاسع عشر. ومن ثَمَّ انتقل إلى تأريخ السُّودان الحديث، وبشكل عام، إلى الشَّرق الأوسط العربي منذ الغزو العثماني في مستهل القرن السَّادس عشر. وفي أواخر حياته، استخلص – كما يكتشف معظم المؤرِّخين الجياد ذات يوم وقد تقدَّم بهم العمر – أنَّ العصور الوسطى هي دوماً أكثر جاذبيَّة من العهد الحديث. وعلى هذا الأساس ركَّز بيتر اهتمامه على سوريا ومصر خلال الحروب الصليبيَّة وفترة المماليك، وقد بدأت الأخيرة هذه العام 1250م.
كان بيتر مالكوم هولت قد ولد العام 1918م، حيث كان والده قسيساً وحدويَّاً، وقد تتلمذ الوالد القسيس على يد يوليام قاسكيل الذي كان، زوجاً للروائيَّة الشهيرة إليزابيث. توفِّى والد بيتر – الذي وُلِد هو الآخر العام 1851م – حينما كان بيتر يبلغ من العمر تسعة أعواماً، وبعدئذٍ نزحت أسرته من لانكشير إلى إيكفورد، وهي قرية في مقاطعة باكينغهامشير. إذ قال أحد القساوسة عن هذه القرية بأنَّ بها 300 روحاً كلها غضوبة عليها. ذهب بيتر إلى مدرسة اللورد وليام الخاصة في ثيم، ومنها – أي العام 1937م – إلى الكليَّة الجامعيَّة بأوكسفورد ليدرس التأريخ. وفي العام 1941م التحق بالخدمة المدنيَّة في السُّودان، وبقي هناك حتى العام 1955م، أي قبل العام من تأريخ استقلال هذا البلد. أنفق بيتر معظم هذا الوقت – وهو حل بهذا البلد – يعمل معلِّماً بالمدارس الثَّانويَّة. وهو الذي صرَّح في وقت لاحق بأنَّ أكثر التلامذة بلاهة هم الذين التحقوا بالجَّيش، وضرب مثلاً على ما هو قائل بالآتي: إنَّه كان هناك صبي يُدعى (جعفر محمد) نميري، والذي كان – مهما يكن من الأمر – لاعب كرة قدم من الدرجة الأولى في فريق المدرسة (مدرسة حنتوب الثانويَّة)، ومنذ العام 1971م (والصواب هو 1969م) بات رئيساً للسُّودان. وفي السُّودان أتقن هولت اللغة العربيَّة أيما الإتِّقان. وفي الفترة ما بين (1954-1955م) كان هولت هو المسؤول عن الأرشيف الحكومي، وكان أول باحث يقوم بدراسة وثائق دولة المهديَّة (1881-1898م)، والتي أصبحت فيما بعد المادة الأساس في رسالته لإجازة الدكتوراه – أي دولة المهديَّة في السُّودان (1958م)، كما أشرنا إليه. وفي العام 1955م انتقل إلى وظيفة التدريس في مدرسة الدِّراسات الشرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن – كما أسلفنا الذكر، متدرِّجاً في الرتب الوظيفيَّة حتى وصل درجة أستاذ في التأريخ العربي، وفي العام 1975م خلف بيرنارد لويس في رئاسة شعبة تأريخ الشَّرق الأوسط، وأُحيل إلى المعاش العام 1982م.
كان هولت غزير الإنتاج، فلولا العقبات التي اعترضت الجامعات البريطانيَّة على قارعة الطريق في الحقب الماضية لأمسى هولت رصيداً معتبراً في مجلس تقييم البحوث. وبعد دراسته عن دولة المهديَّة، نشر كتاب "تأريخ السُّودان الحديث" (1961م)،(1) ومن بعده صدرت له قائمة بالأعمال القيِّمة التَّالية: "عصر الحروب الصليبيَّة" (1986م) بالإضافة إلى مجلَّدات في التحرير والترجمة، مثل "مذكَّرات الأمير السُّوري" (1983م)، و"الديبلوماسيَّة الأولى عند المماليك" (1995م)؛ ويحتوي هذا الأخير على النصوص والتَّعليقات على المعاهدات بين الحكَّام المماليك والأوربيين. وفي أواخر حياته عاد إلى السُّودان بنشره كتاب "سودان الأنهار الثلاثة" (1999م)، و"دراسات في تأريخ الشَّرق الأدنى"، ومختارات من مقالاته العديدة، بما فيها جزء مما كتبه عن المستشرقين الإنكليز الأوائل، والتي نشرها العام 1973م. ومع هذا كله كان بيتر محرِّراً نشطاً لأعمال الآخرين للنشر. فبالتَّعاون مع أيه كيه أس لامبتون وبيرنارد لويس، بات محرَّراً للحوليَّة التي كانت تصدرها جامعة كمبردج باسم "تأريخ الإسلام" (1970م)، وهو العمل الذي بدا فيه هولت – ربما بحق – متأرجحاً بصورة ما. وكان واحد من طموحاته التي لم تتحقَّق بعد – كما أباح به لاحقاً – هو أن ينشر نقداً لهذا العمل، ولكن باسم مستعار. وكذلك كان هولت يترجم من الألمانيَّة – وفقاً لما يمليه عليه الضمير، وذلك لتعميم الفائدة – السيرة الذاتيَّة الفاضلة للسلطان المملوكي "بيبرس: أسد مصر" (1992م)، وهي من تأليف بيتر ثورو؛ ومن الفرنسيَّة كتاب عن "الأناضول قبل العثمانيين: تأسيس تركيا" (2001م)، وهذا الأخير – برغم من أهميته إلا أنَّه كتاب ضرائب - من تأليف كلود كاهين. وكما أنَّه درس – في بادئ الأمر – التأريخ الإنكليزي والأوربي، لم يترك المعيار العام، بالمقارنة إليه، لتأريخ الشَّرق الأوسط في نفسه أثراً أو انطباعاً قويَّاً. وإنَّه إذ يقر – بطريقة ما – أنَّ الجغرافيا-التأريخيَّة الأوربيَّة قد يقترب منهجيَّاً - ولكن دونما رونق – إلى المرحلة التي وصلها في عهد قيبون. ومن ثَمَّ كان هولت كثير القلق من أجل أن يتبنَّى التواصل بين المؤرِّخين أمثال نفسه من جهة ومؤرِّخي تأريخ أوربا القديم من جهة أخرى. وقد أثمر هذا المجهود في هذا المجال في شكل مادة تُدرَّس لطلاب الجامعة – بالتعاون مع البُحَّاث، مثل جوناثان رايلي-سميث – عن الشرق الأدنى في عصر الحروب الصليبيَّة، وكذلك في شكل سلسلة من سمينارات بحثيَّة، حيث نُشِر جزء من محضر جلساتها باسم "أراضي شرق البحر الأبيض المتوسط في عصر الحروب الصليبيَّة" (1977م).
رحم الله هولت لما قدَّم، فقد كان رجلاً هادئاً متواضعاً، برغم من أنَّه كان يختبئ وراء هذا الهدوء وذاك التواضع عقل انفرادي حاذق، والذي يمكن أن يُدهش أحياناً أولئك الذين يتوقَّعون منه الصمت. وكان هولت مساعداً دوماً وبنَّاءاً، وكان رجلاً ذا استقامة سامقة، ورمزاً طليعيَّاً كان في دراسة المماليك، والتي باتت واحداً من أكثر المجالات ازدهاراً في الجغرافيا-التأريخيَّة للشَّرق الأوسط. وستظل كتبه ومقالاته – كما هي مكتوبة بوضوح تام، وغزيرة بالمعلومات (لئلا نقول إنَّها دوماً لتشدَك بشكل خاص) – يقرأها ويرجع إليها طلاب العلم والمعرفة دوماً ولسنين عدداً.(2)
المصادر والإحالات
(1) أنظر بعض تأليفات بيتر هولت
Holt, P M, A Modern History of the Sudan; Ebenezer Baylis and Son, Ltd: London, 1961; and Holt, P M and Daly, M W, A History of the Sudan: From the coming of Islam to the Present Day; Longman: London, 1988.
(2) The Independent, November 6, 2006.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة