صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات : ترجمات English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


دارفور: لعبة التسميات* بقلم بروفسير محمود مامدانى /ترجمة الصديق الأمين
Jun 9, 2007, 21:38

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

Sudan: The Politics of Naming - Genocide, Civil War, Insurgency

 

Prof. Mahmood Mamdani

دارفور: لعبة التسميات*

بقلم بروفسير محمود مامدانى

استاذ علم الانتربولوجيا والحكم فى جامعة كولمبيا

ترجمة الصديق الأمين

إن أوجه الشبه بين العراق و دارفور تبدو بارزة للعيان. فالتقديرات بإعداد المدنيين الذين قتلوا خلال الثلاث سنوات في الحالتين متشابهة تقريبا. و القتلة فى الحالتين هم غالبا من القوات شبه العسكرية ذات الصلة الوثيقة بالجيش النظامى والذى يقال إنه المصدر الرئيسى للسلاح. و الضحايا بشكل عام يحددون كأعضاء جماعات ولا يستهدفون كأفراد.  إلا أن العنف فى المنطقتين يطلق عليهما تعبيران مختلفان. فى العراق يقال عن العنف بأنه حلقة من التمرد و التمرد المضاد . و فى دارفور يسمى ابادة جماعية . لماذا هذا الاختلاف ؟ . من هو الذى يطلق الأسماء و من الذى تطلق عليه الأسماء ؟ و ما الفرق الذى يحدثه ذلك؟

 إن حملة التعبئة القوية التى تجرى فى نيويورك هى بخصوص دارفور، و ليس العراق. و كان المرء يتوقع العكس، لا سبب غير أن معظم قاطنى نيويورك هم من المواطنين الأمريكيين و ينبغى أن يستشعروا المسؤولية المباشرة عن العنف فى العراق المحتل. لكن العراق في المخيلة الأمريكية بلد معقد و الأوضاع السياسية فيه معقدة ومربكة.و الأمريكان قلقون بخصوص ما ينبغى أن تفعله حكومتهم فى العراق. هل ينبغى أن تنسحب ؟ وماذا سيحدث لو فعلت ؟

 و بالعكس، لا شىء معقد بخصوص دارفور. إنها مكان بلا تاريخ و بلا سياسة: ببساطة هى مكان الجناة فيه يمكن تحديدهم بوضوح و هم (العرب) الذين يواجهون ضحايا يمكن تحديدهم بوضوح أيضا باعتبارهم أفارقة.

 و لعدة أسابيع ظهر إعلان على صفحة كاملة فى جريدة نيويورك تايمز يدعو للتدخل العسكرى فى دارفور. ويريد الإعلان لقوات التدخل أن توضع تحت هيكل قيادة يسمح لها بالقيام بالأعمال العسكرية الضرورية و فى الوقت المطلوب دون إذن من أى مسؤولين سياسيين أو مدنيين بعيدين عن موقع الحدث. كما أن التدخل العسكرى لا يجب أن يخضع لاعتبارات سياسية أو مدنية، وأن قوات التدخل يجب أن يكون لها حق إطلاق الرصاص بغرض القتل، دون انتظار أذن صادر من جهات بعيدة وهذه – كما يقال - هى مطالب إنسانية وفى ذات الاتجاه ، فأن افتتاحية فى مجلة نيورببلك  دعت لاستعمال القوة كخيار أول . وما يجعل الوضع أكثر مدعاة للحيرة أن بعض أولئك الذين ينادون بأنهاء التدخل العسكرى فى العراق يطالبون بالتدخل العسكرى فى دارفور ، والشعار هنا (من العراق الى دارفور ) .

ماذا سيحدث إذا فكرنا فى دارفور بنفس الطريقة التى نفكر بها فى العراق، كمكان له تاريخ وسياسة، وتمرد وتمرد مضاد لهما أبعاد سياسية معقدة؟ أخلاقيا، لا شك فى الطبيعة المريعة للعنف ضد المدنيين. ولكن الغموض يكمن فى الأبعاد السياسية للعنف، و مصادره التى تشمل التمرد المضاد المرتبط بالدولة والتمرد المنظم ضد الدولة، بما يشابه العنف فى العراق لدرجة كبيرة جداً.

  بدأ التمرد والتمرد المضاد فى دارفور عام 2003 وكان الدافع فى الحالتين خليط من التوترات الداخلية فى سياق بيئة دولية معادية للسلام. من ناحية،  كان هناك صراع على السلطة داخل الطبقة السياسية فى السودان، مع مناداة أصحاب المصالح المهمشة فى الغرب بالاصلاح فى المركز. ومن ناحية أخرى، كان هناك انقسام على مستوى المجتمعات المحلية فى دارفور بين الرعاة والمزارعين المستقرين والذين كانوا قد طوروا طريقة للاستخدام المشترك للاراضى شبه القاحلة فى موسم الجفاف. ومع حلول الجفاف فى نهاية السبعينات تحول ذلك التعاون إلى صراع حاد على الموارد المتناقصة. ومع تجذر التمرد وسط المجموعات القبلية الزراعية، المزدهرة، دربت الحكومة وسلحت القبائل البدوية الأفقر وتم تشكيل مليشيات الجنجويد والتى صارت طليعة التمرد المضاد – المتنامى . وحدث أسوأ أشكال العنف من الجنجويد، ولكن الحركات المتمردة متهمة أيضا بانتهاكات جسيمة. وعلى كل من يريد إنهاء العنف المنتشر إيجاد صيغة لاقتسام السلطة على مستوى الدولة و اقتسام الموارد على مستوى المجتمعات المحلية، مع اعتبارأن الأرض هى المورد الرئيسى.

ومنذ بداية العنف صدر حكمان رسميان عليه:

الأول بواسطة الولايات المتحدة والثانى بواسطة الأمم المتحدة . كان حكم الولايات المتحدة واضحا:إن درافور كانت مسرحا لإبادة جماعية مستمرة. و بدأ تسلسل الأحداث الذى أدى لذلك الإعلان من واشنطن بإنذار بوقوع ابادة جماعية من لجنة ادارة متحف واشنطن التذكارى للهولوكوست  وتبع ذلك مجلس النواب بالإجماع فى 24 يونيو 2004 . و كان آخر من انضم الى تلك  الجوقة هو كولن باول (وزير الخارجية الامريكى السابق ) .

 وفى إعقاب صدور الإعلان الأميركى واستجابة لضغط أميركي، أنشئت لجنة الأمم المتحدة حول دارفور. وكان ذلك أكثر غموضا  فى سبتمبر 2004 زار الرئيس النيجيرى و رئيس الاتحاد الافريقى حينئذ ألوسيقن أوباسانجو نيويورك، وكانت دارفور  وقتها  موضوع النقاش الرئيسى فى الاتحاد الافريقى . وكان الجميع منتبهين للحساسية السياسية البالغة للقضية . وفى مؤتمر صحفى فى الأمم المتحدة فى 23 سبتمبر، سئل أوباسانجو عما إذا كان العنف فى دارفور إبادة جماعية أم لا ؟ . كانت إجابته واضحة جداً:" قبل ان يمكنك القول بأن هناك إبادة جماعية أو تطهير عرقى، يجب أن يكون لدينا قرار و خطة و برنامج محددين صادرين من الحكومة للقضاء على جماعة معينة من الناس، عندها سنتحدث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقى ".

 

. وبحلول أكتوبر شكل مجلس الأمن لجنة للتحقيق فى دارفور لتقديم تقرير للمجلس خلال ثلاثة اشهر حول انتهاكات القانون الإنسانى الدولى وقانون حقوق الانسان فى دارفور بواسطة كل الأطراف، و تحديدا  البت  فيما إذا كانت هناك أعمال إبادة جماعية قد حدثت أم لا ؟ . وكان من بين أعضاء اللجنة دوميسا انتسيبيزى، الرئيس السابق لوحدة التحقيقات بلجنة الحقيقة والمصالحة فى جنوب أفريقيا.

فى التقرير الذى قدمته اللجنة فى 25 يناير 2005 خلصت إلى أن حكومة السودان لم تتبع سياسة للإبادة الجماعية لا بطريقة مباشرة أو عبر المليشيات التى تسيطر عليها. لكن اللجنة وجدت أن العنف من جانب الحكومة كان متعمدا و استهدف المدنيين دون تمييز."وفى الحقيقة حتى الحالات التى قد يكون فيها المتمردون موجودون فى القرى، كان أثر الهجمات على المدنيين يكشف بشكل واضح أن استخدام القوة العسكرية لم يكن متناسبا مع الخطر الذى يمثله المتمردون". هذه الافعال – تخلص اللجنة – "مورست على نطاق واسع و بطريقة منتظمة، و بالتالى، قد ترقى الى جرائم ضد الإنسانية" (التشديد من عندى) .

  فى ذات الوقت حملت اللجنة قوات التمرد، وتحديدا حركتي تحرير السودان و العدل والمساواة، مسؤولية ثانوية. حيث اعتبرتها مسؤولة عن انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان الدولية و القانون الإنسانى الدولى والتى قد ترقى إلى جرائم حرب. (التشديد من عندى).

يعتبر نيكولاس كريستوف- كاتب العمود بجريدة نيويورك تايمز- اكثر الصحفيين الامريكيين ارتباطا بقضية دارفور و سعياً لزيادة الوعى بها، و يوصف أحيانا بأنه مقاتل صليبى منفرد فى سبيل القضية . ومتابعة أعمدة كريستوف على مدى السنوات الثلاثة الماضية يعنى رؤية كيف يتم اختزال سياق سياسى معقد إلى حكاية أخلاقية تجرى فى عالم يسكنه الأشرار والضحايا الذين لا يتبادلون أبدا المواقع. وبالتالى يمكن تمييزهم بسهولة.  إنه عالم تتصاعد فيه الفظائع بمتوالية هندسية، والجناة فيه شريرون جدا بينما الضحايا عاجزون تماما، ولا أمل لهم فى النجاة إلا بواسطة مهمة إنقاذ من الخارج يفضل أن تكون فى شكل تدخل عسكرى.

قام كريستوف بست رحلات لدارفور تم تناولها إعلامياً بشكل واسع. كانت الأولى فى مارس 2004 و الأخيرة بعد عامين من ذلك. بدأ كريستوف بالكتابة عما اعتبره حالة تطهير عرقى :" حكام السودان العرب اجبروا 700 الف أفريقى للفرار من قراهم"  ( 24 مارس 2004) . و بعد ثلاثة أيام فقط صعد رهانه:" ما يجرى لم يعد تطهيرا عرقيا ولكنه ابادة جماعية". "الآن-يكتب بتاريخ 27 مارس– فأن حكومة السودان منهمكة فى حملة ابادة جماعية ضد ثلاث قبائل افريقية كبيرة فى دارفور".  يواصل "أعمال القتل خططت لها حكومة السودان التى يهيمن العرب عليها والضحايا هم غير العرب: السود من قبائل الزغاوة و المساليت و الفور" . و قدر عدد الضحايا بألف قتيل اسبوعيا .

بعد شهرين، اى يوم 29 مايو، ارتفع ذلك التقدير بطريقة درامية استنادا على تقديرات الوكالة الأمريكية الدولية للتنمية . " فى أحسن الأحوال فسيموت حوالي 100 ألف فى دارفور هذا العام بسبب سوء التغذية والأمراض، ولكن إذا ساءت الأمور جدا فسيموت نصف مليون من الناس ".

 نشر تقرير لجنة الامم المتحدة فى 25 فبراير 2005. و اكد ان هناك نزوح جماعى للأشخاص (أكثر من مليون نازح داخلى و اكثر من 200 ألف لاجىء بتشاد )، وأن عدة مئات من القرى قد دمرت . واعتبر أن ذلك من الحقائق التى لا يمكن دحضها، لكن التقرير لم يعط أرقام مؤكدة لعدد القتلى . وبدلا عن ذلك، نقل ادعاءات المتمردين بأن القوات الحليفة للحكومة  فيما يزعم قد قتلت اكثر من 70 ألف شخص .

  كان لنشر تقرير اللجنة أثر معتبر. دوليا أثار الشكوك فيما إذا كان ما يجرى فى دارفور يمكن تسميته إبادة جماعية وحتى المسؤولين الأمريكان صاروا غير راغبين فى مجاراة التقديرات المرتفعة التى يروج لها التحالف العريض للمنظمات المشاركة فى حملة (انقذوا دارفور)

.ولم يكن الأثر على الدبلوماسية الأمريكية خافيا. بعد ثلاثة اشهر، أى فى 3 مايو، لاحظ كريستوف باستياء أن نائب وزير الخارجية الأمريكى، روبرت زوليك، " لم يكتف بأن يرفض – عامدا – تكرار ما قضت به الإدارة الأميريكية سابقا بأن ما يجرى فى دارفور يرقى للابادة الجماعية، بل قدم تقديرات متواضعة و سخيفة لاعداد القتلى : ما بين 60 الف الى 160 الف ".

 إن المتابع لتقديرات أعداد القتلى فى دارفور، كما ترد فى أعمدة كريستوف، سيجد الارتفاع والانخفاض و الارتفاع مرة أخرى فى هذه التقديرات، أمراً مثيرا للحيرة. أولا قدر عدد القتلى لعام 2004 ب 320 الف (16 يونيو 2004).  ولكنه خفض لاحقا التقدير الى مابين 70 الف و 220 الف (23 فبراير 2005م). ثم بدأ الرقم فى الصعود مرة أخرى لما يقارب 400 الف فى (3 مايو 2005)، فقط لينخفض مرة أخرى إلى 300 الف (23 ابريل 2006). وفى كل مرة تعطى هذه الأرقام بذات الثقة، ولكن بدون محاولة لتوضيح الأسس التى تستند اليها.

 وفى أعمدة كريستوف هناك مساحة للصمت المطلق، و ذلك فيما يخص حقيقة أن ما يجرى فى دارفور هو حرب أهلية وبالكاد تقال كلمة عن التمرد، أو ما يقوم به المتمردون من قتل للمدنيين والأفعال التى وصفتها لجنة الأمم المتحدة بأنها جرائم حرب.

 

 وتقدم الكتابات الصحفية عن دارفور برونوغرافيا للعنف و تبدو مأخوذة و مهووسة بالتفاصيل المثيرة، مقدمة وصفا لأسوأ الفظائع بتفاصيلها المريعة، و الترتيب الزمنى لها. والإيحاء الضمنى فى ذلك هو أن دوافع المجرمين تقع فى  تركيبتهم البيولوجية (العنصر)، وإن لم يكن ذلك، فبالتأكيد فى ثقافتهم.

تقدم لنا الصحافة عالم بسيط من الناحية الأخلاقية، حيث هناك جماعة من الجناة تواجه جماعة من الضحايا، ولكن لا التاريخ ولا الدوافع لذلك، يمكن التفكير فيها لأن كليهما خارج التاريخ و السياق. وحتى عندما تسلط الصحف الضوء على العنف كظاهرة اجتماعية، فأنها تفشل فى فهم القوى التى تشكل دوافع الجناة. بدلا عن ذلك، فإنها تبحث عن مغزى أخلاقى واضح وغير معقد يصف الضحية باعتباره طاهرا والجناة باعتبارهم أشرار ببساطة. وعندما يكون المجرمون اليوم هم ضحايا الامس، وعندما يتحول الضحايا الى مجرمين، فهذه المحاولة لاعادة انتاج الهولوكوست افريقياً، لن تنجح فحسب ولكن أيضا لها نتائج تجافى العقل والمنطق. ومهما يكن من ضعف تحليلى فى إلغاء البعد السياسى للعنف فى دارفور، فأنه قد أعطى من يتبنونه فوائد سياسية واضحة.

 إن الصراع فى دارفور مسيس جدا و كذلك هو حال الحملة الدولية بخصوصه. وأحد المزاعم المتكررة و المستمرة لهذه الحملة هو أن الإبادة الجماعية المستمرة ذات بعد عرقى:  (العرب) يسعون للقضاء على (الافارقة).  ولكن كلا عبارتي (عربى) و(أفريقى) لهما معانى متعددة فى السودان . لقد ظلت هناك على الاقل ثلاث معانى لعبارة (عربى). محليا: (عربى) اشارة انتقاص لنمط الحياة البدوية باعتباره متخلفا . إقليميا فأنها تعنى من يتحدث اللغة العربية كلغة أولى . و بهذا المعنى فأن مجموعة ما قد تصبح عربية بمرور الوقت. و المعنى الثالث المميز والحصرى : هو ما يمثل إدعاء الأرستقراطيةالنيلية التى حكمت السودان منذ الاستقلال.

فى هذا السياق فإن (أفريقى ) هى هوية أدنى تحتمل إما أن تكون حصرية أو شاملة. والمعنيان ليسا متناقضين فقط، ولكنهما أيضا أتيا  من تجربتى  تمرد مختلفتين. المعنى الشامل سياسى اكثر منه عرقى أو ثقافى (لغوى)، وبهذا المعنى فإن الأفريقى هو أى شخص مصمم على أن يكون مستقبله ضمن القارة الأفريقية. وكان رائد ذلك الفهم هو جون قرنق، قائد الجيش الشعبى لتحرير السودان فى الجنوب، كطريقة لتوحيد السودان الجديد الذى كان يأمل ان يراه. وعلى النقيض من ذلك، فإن المعنى الحصرى يأتى فى صورتين واحدة صلبة (عنصرية) والثانية ناعمة (لغوية). وسيطر المعنى العنصرى على التمرد والتمرد المضاد فى دارفور على السواء .

 

ويخفى توصيف حملة (أنقذوا دارفور ) للعنف بأنه صادر من العرب ضد الأفارقة كلا من حقيقة أن العنف ليس من طرف واحد، و كذلك الاختلاف حول معنى عربى وأفريقى. ذلك الاختلاف الهام لأنه تحديدا وفى خاتمة المطاف يتعلق بمن ينتمى ومن لا ينتمى لذلك المجتمع السياسى المسمى بالسودان. إن إفراغ مفهوم (عربى ضد افريقى) من مضمونه السياسى وجعله أمرًا فطريا وأبلسته فى النهاية، كان أكثر أسلحة حملة (أنقذوا دارفور) فتكاً بقصد أو بدونه.

منح إفراغ الصراع فى دارفور من مضمونه السياسى أصحاب الحملة ثلاث مزايا:

أولا: مكنهم من الظهور بمظهر من تحركه الدوافع الاخلاقية لقد قدمت الحملة نفسها باعتبارها حملة غير سياسية و إنما أخلاقية دافعها فقط إنقاذ الأرواح.

ثانيا: التركيز على قضية واحدة فى الحملة جعل من الممكن الجمع على صعيد واحد بين قوى تقف على طرفي نقيض من معظم القضايا الراهنة الهامة الأخرى : فعلى جانب يقف اليمين المسيحى و اللوبى الصهيونى، وعلى الجانب الآخر حركة السلام وقاعدتها الأساسية فى الجامعات والمدارس. وبالتأكيد فأن تحالفا عريضا كهذا، لا يمكن أن يصمد إذا تحول الموضوع إلى العراق، مثلا.

ولفهم الميزة الثالثة علينا أن نعود لسؤال طرحته فى البداية كيف يمكن أن يطالب بعض أولئك الذين ينادون بإنهاء التدخل العسكرى الأمريكى البريطانى فى العراق بالتدخل فى دارفور ؟.  من المغرى الاعتقاد بأن ميزة دارفور تكمن فى كونها منطقة صغيرة و بعيدة ، و ليس للذين يقودون الحرب على الإرهاب مصالح أصيلة فيها . كون ذلك بالكاد هو حقيقة الوضع، سيتأكد اذا قارن المرء رد الفعل الامريكى على الصراع فى دارفور مع غياب أى رد فعل أمريكى على أحداث الكونغو، على الرغم من أن أبعاد الصراع فى الكونغو تمثل نسخة مكبرة جدا لما يجرى فى دارفور : اعداد القتلى فى الكونغو تقدر بالملايين لا مئات الآلاف، أغلب حالات القتل ، خاصة فى كيفو، تقوم بها جماعات شبه عسكرية سلحت و دربت ونظمت بواسطة حكومات الدول المجاورة، والضحايا من الجانبين – الهيما والليندو – يستهدفون بصورة جماعية لا فردية، لدرجة ان هناك تفسيرا ذا تأثير قوى يعرف المجموعتين كهويتين عرقيتين و أن الصراع بينهما إعادة لمذابح رواندا . فى ضوء ذلك كيف يمكن تفسير حقيقة ان تركيز الحركة الإنسانية الأكثر اتساعا وطموحا فى الولايات المتحدة هو على دارفور وليس على كيفو ؟ .

 

لقد سئل نيكولاس كريستوف نفس السؤال.: "عندما تحدثت فى جامعة كورنل مؤخرا، سألتنى امرأة لماذا اطرق دائما على قضية دارفور. إنه سؤال عادل. عدد الذين قتلوا فى دارفور حتى الآن  متواضع بالمقاييس العالمية: التقديرات تتراوح ما بين 200 الف الى 500 الف . بالمقابل قتل 4 ملايين شخص منذ عام 98 نتيجة للقتال فى الكونغو، اكثر الصراعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية ". ولكن بدلا من أن يجيب على السؤال، فأن كريستوف – و هو الآن يكتب عموده و ليس فى مواجهة السائلة – مضى للقول "والملاريا تقتل سنويا من مليون الى ثلاثة ملايين شخص – أى ان عدد قتلى ثلاث سنوات فى دارفور هو فى نطاق هامش الخطأ فى الاحصائية السنوية لضحايا الملاريا ". و من هناك مضى للمقارنة بين القتلى فى دارفور والضحايا بسبب الملاريا عوضا من مقارنتهم بالقتلى فى الكونغو:" لدينا بوصلة اخلاقية داخلنا، ويتحرك مؤشرها ليس فقط وفقا لمعاناة البشر وإنما أيضا بسبب شرورهم كذلك. وذلك يكسب الإبادة الجماعية خصوصيتها – ليس مجرد عدد القتلى و إنما السياسة الحكومية وراء ذلك وهذا بالمقابل ما يجعل لإيقاف الإبادة الجماعية أولوية قصوى على إنقاذ حياة ضحايا الإيدز أو الملاريا.".

   هذا لا يفسر الصمت النسبى حول الأوضاع فى الكونغو هل يمكن أن يكون السبب أنه فى حالة الكونغو، فإن مليشيات الهيما و اللندو – الكثيرين من أعضائها لا يعدون أن يكونوا أطفال مجندين – قد تم تدريبها من قبل حلفاء الولايات المتحدة فى الإقليم، رواندا و اوغندا ؟ هل هذا هو السبب فى تسمية العنف فى دارفور – و ليس فى كيفو – إبادة جماعية؟

يبدو إن الإبادة الجماعية قد صارت علامة تدمغ بها عدوك اللدود، نسخة نقيضة لجائزة نوبل، وجزء من الترسانة الدعائية التى تساعدك فى تشويه صورة أعدائك فى حين تحمى حلفاءك من العقاب. و خلافا لقضية كيفو، فإن قضية دارفور يمكن أن تصير بسهولة جزءًا من الحرب على الإرهاب، نها تعطى محاربى الإرهاب أداة فعالة لأبلسة أحد أعدائهم: حرب إبادة جماعية يرتكبها العرب. هذه هى الميزة الثالثة والأغلى مما كسبته حملة (أنقذوا دارفور ) من إفراغ الصراع من مضمونه السياسى.

 ولئن كانت بعض الأضواء فى حملة دارفور قد اشعلت بواسطة الغضب المشروع، فذلك مصدره  حدثان: الهولوكوست على أيدى النازيين، و مذبحة رواندا : فعلى كل فإن بذور حملة (أنقذوا دارفور ) كانت فى الذكرى العاشرة لما حدث فى رواندا. قضية درافور هى اليوم المثل للعنف السياسى الذى ينم عن انعدام الإحساس كما كانت احداث رواندا قبل عقد من الزمان. فمعظم الكتابات عن رواندا فى الولايات المتحدة هى ايضا لصحفيين. فى كتاب(We wish to inform you we will be killed with our familiesأكثر الكتب انتشارا عن الابادة الجماعية، قدم المؤلف فليب قوريفتش أحداث رواندا كإعادة للهولوكوست كان فيها الهوتو الجناة و التوتسى هم الضحايا . و مرة أخرى فأن الحدث يبدو كأنه وقع خارج أى سياق، و كجزء من المواجهة الأبدية بين الشر و البراءة. و العديدون من الصحفيين الذين يكتبون عن دارفور توجد احداث رواندا فى مؤخرة عقولهم.

ومع استثناءات قليلة جدا، فإن حملة (أنقذوا دارفور) استخلصت درسا واحدا من رواندا: إن المشكلة كانت هى عجز الولايات المتحدة عن التدخل لإيقاف الإبادة الجماعية. كانت أحداث رواندا هى ذنب الولايات المتحدة الذى لابد أن تكفر عنه، ومن أجل ذلك لا بد من أن تكون مستعدة للتدخل العسكرى لمصلحة الخير و ضد الشر، و حتى عالميا. ولكن ذلك درس خاطىء. ولدت أحداث رواندا من حرب أهلية تصاعدت حينما انهارت التسوية لاحتوائها. لقد انهارت التسوية التى تم التوصل إليها فى أروشا لأنه لا حكومة الهوتو ولا الجبهة الوطنية الرواندية التى يسيطر عليها التوتسى، كانت راغبة فى الالتزام بترتيبات اقتسام السلطة التى كانت هى جوهر التسوية.

لقد تغذت ديناميكية الحرب الأهلية فى السودان على مصادر متعددة :

أولا: احتكار السلطة فى مرحلة ما بعد الاستقلال و الذى استمتعت به الصفوة النيلية المستعربة شمال الخرطوم، ذلك الاحتكار الذى ولد مقاومة متنامية وسط الأغلبية من السكان المهمشين فى جنوب و شرق و غرب البلاد.

ثانيا بالمقابل فإن حركات التمرد ولدت قيادات طموحة غير راغبة فى  الدخول فى ترتيبات لأقتسام السلطة كمقدمة للسلام .

وأخيرا القوى الخارجية التى تواصل تشجيع اولئك الذين يرغبون فى استمرار أو تحقيق احتكار السلطة.

بالمقابل فإن ديناميكية السلام قد تغذت على سلسلة من اتفاقات قسمة السلطة أولا فى الجنوب ولاحقا فى الشرق. و هذه العملية ظلت متقطعة فى دارفور. و لإحياء عملية السلام لابد أن يكون هناك أولا التزام من جميع المهتمين بدارفور . و يحتاج معسكر السلام لإدراك حقيقة ثانية: إن السلام لا يمكن ان يبنى على التدخل الإنسانى و الذى هو لغة القوى الكبرى. ينبغى أن نتعلم من تاريخ الاستعمار أن أى تدخل عسكرى رئيسى قد تم تبريره كتدخل انسانى أو مهمة حضارية .

 و الآن كما فى السابق، فإن التدخل الإمبريالى يدعى أن لديه هدفا مزدوجا : من جانب، إنقاذ الأقلية التى صارت ضحية للأعمال البربرية المستمرة، ومن جانب ثانى إقامة حظر صحى حول الأغلبية – التى تمثل الجناة- بهدف معلن هو تمدينهم .

 ينبغى أن يمثل العراق إنذارا لنا فى هذا الخصوص. أسوأ شىء فى دارفور سيكون تدخلا عسكريا على غرار ما جرى فى العراق. ذلك يعنى فى الأرجح  توسيع الحرب الأهلية لتصل مناطق أخرى من السودان، و نقض عرى عملية السلام فى الشرق و الجنوب وجر كل البلاد إلى الحرب العالمية على الإرهاب. (إنتهى)ٍ.

*نشر أصل المقال في London Review of Books بتاريخ 8 مارس  2007 تحت عنوان

     The Politics of Naming :Genocide, Civil War, Insurgency

و في جريدة Mail and Guardian الجنوب أفريقية تحت عنوان:

Darfur: the politics of naming

بتاريخ،16 مارس 2007، وهي النسخة التى اعتمدت عليها الترجمة.

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

ترجمات
  • تشارلز تيلور يكتب من لاهاي هاشم بانقا الريح*
  • المتصوّفون الضّاحكون*/تحريرُ وترجمة:- إبراهيم جعفر
  • اسقاط النظام في ثلاثة أيام!!!
  • روبرت فيسك: ثمة أشياء لم اكتبها بعد !/ترجمة معتصم كدكي
  • fuzzy wuzzy للشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج /عبد المنعم خليفة خوجلي
  • لماذا يجب ان يكون الرفيق سلفاكير ميارديت رئيساً للسودان فى 2009 /إزيكيل جاتكوث
  • دكتور: بشير عمر محمد فضل الله – كأحد الخمسمائة زعيم عالمي للقرن الجديد – ترجمة وتقديم : بقادى الحاج أحمد
  • رئيس حركة تحرير السودان يصبح محط أنظار الكثيرين في الوقت الذي يصاب فيه رئيس جمهورية السودان بالهلع و الذعر./بقلم / إستيف باترينو- من صحيفة سودان تريبيون الإكترونية ترجمة- حجرين جاموس
  • المدعي العام لمحكمة الجزاء الذي يريد احضار البشير للعدالة مطالب بالاستقالة ( الديلي تلغراف)/ترجمة مصعب الأمين
  • من هو أوكامبو عبدالله يوسف عبد الله
  • رحيل الماشية وعودتها في بوروندي 1/2 من كتاب: الأدب في أفريقيا- القسم الخامس- النثر المكتوب- أعداد: بقادى الحاج احمد
  • دارفور .... حقيقة أم خيال بواسطة البرفيسور آنن يارتلت /ترجمة / محمد سليمان.
  • تيلهارد دي شاردن: "مكان الإنسان في الطّبيعة"*: مقدّمة وفاتحة وإشارة ومدخل [ترجمة: إبراهيم جعفر].
  • تـقريــر "فـرنسـا والـعولـمة" ترجمة وعرض : مؤيد شريف
  • الفصل بين الأولاد و البنات في التعليم العام* ترجمها بتصرف: محمد عربان
  • أورويل في البيت الأبيض!* أنيتا رَوْدِك**ْ
  • السُّكونُ يُضيءُ عزلةَ الموتْ شعر- عبد المنعم عوض/Translated by: Ibrahim Jaffar
  • قصة الدبدوب السوداني تكشف عقدة الدونية الإسلامية* وليد علي ** ترجمة محمد عثمان ابراهيم
  • بيتر شيني*:- أحد روّاد الآركيولوجيا الأفريقية الأوائل*/بقلم:- بيتر كلارك/ترجمة:- إبراهيم جعفر
  • بيتر هولت.. مؤرِّخ الشََّرق الأوسط والسُّودان-ترجمة الدكتور عمر مصطفى شركيان
  • أهل الخير يمارسون الشر في دارفور/آرلين غيتز*-ترجمة : محمد عثمان ابراهيم
  • من دفاتر المخابرات : أوراق الأحمق/جوناثان بيقينس-ترجمة : محمد عثمان ابراهيم
  • كيف ضل الغرب مالكوم فرايزر*/ترجمة : محمد عثمان ابراهيم
  • الراهب الباطني*/ترجمة:- إبراهيم جعفر
  • فصل من كتاب ** التنمية كاستعمار للكاتب Edward Goldsmith ترجمها عن الانجليزية أحمد الأمين أحمد و حنان بابكر محمد
  • صدقُ الحائر:- حالُ "الحيرةِ" ما بين دريدا وابن عربي...* بقلم:- إيان ألموند/ترجمه عن اللغةِ الإنجليزيّة:- إبراهيم جعفر
  • سياسة التعريب في ( تُلس ) كما وصفتها صحيفة اللوس انجلز تايمز/سارة عيسي
  • "لا أحدَ أنشأَأفلاماً مثله"* [إهداء الترجمة:- إلى الصديق العزيز والناقد السينمائي الأستاذ:- محمد المصطفى الامين]./ترجمة:- إبراهيم جعفر
  • صحيفة /القارديان/ البريطانية تنعى السينمائيّ السويدي انقمار بيرقمان/ترجمة:- إبراهيم جعفر
  • خللَ زُجاجٍ؛ بوضوح:- رحيل انقمار بيرقمان (ترجمة:- إبراهيم جعفر)
  • البــدو (المجاي/ البجا) والفراعـنـة بقـلــم : روبـــرت بيـــرج/ترجمة / محمد جعفر أبوبكر
  • صحيفة "القارديان" البريطانية تنعي سمبين عثمان*/(ترجمة:- إبراهيم جعفر).
  • دارفور: لعبة التسميات* بقلم بروفسير محمود مامدانى /ترجمة الصديق الأمين
  • بحوث تستكشف التخلص من شبكة الانترنت الحالية لصالح أخري حديثة /ترجمة د./ عباس محمد حسن
  • العلماء يقتربون من صنع قناع (عباءة) الإخفاء/ترجمة د./ عبـاس محمد حسن
  • دارفور وسيناريوهات مجلس الأمن ../متابعة وترجمة واستخلاص : توفيق منصور (أبو مي)
  • الثقافه والإعلام فى المجتمع البريطاني المعاصر/ترجمه : أحمد الأمين أحمد..
  • فصل من كتاب: ملامح من المجتمع البريطاني المعاصر/ترجمة:أحمد الأمين أحمد
  • بمناسبة يوم المرأة العالمي: تصوير المرأة في روايات الكاتب النيجيري Chinua Achebe /ترجمة : أحمد الأمين أحمد
  • الجزء الأول من رد الدكتور كول جوك للأستاذ/السنجك/ترجمة : سارة عيسي