خللَ زُجاجٍ؛ بوضوح:- رحيل انقمار بيرقمان (ترجمة:- إبراهيم جعفر)
خلل زجاجٍ؛ بوضوح*
كان لعمل السينمائي السويدي المنماز انقمار بيرقمان Ingmar Bergman ، دوماً، نقاده، وسيظلُّ، كذلك، له، دوماً، نقاد. فهو، عند الكثيرين، عملٌ شديد السوداوية، وفي رؤية البعض عملٌ مجرّدٌ من السياسةِ بدرجةٍ لا تُحمد، كما وهو، عند آخرين، عملٌ موغل التمادي في "فنيّته". مع ذلكَ يبقى بيرقمان، سواءاً من جهةِ الإنجاز الأخلاقي المستدام الذي ينطوي عليه عمله أو من جهة أهميته في تاريخ السينما عموماً وفي تاريخي السينما الأوربية والسويدية خصوصاً وعلى التعيين، مبدعاً لا خلاف على تفرده.
اشتملت سيرة بيرقمان السينمائية، قبل رحيله عنّا في سنّه التاسعة والثمانين وبعد عهدٍ قارب الستين عاماً من الإبداع السينمائي، على 54 فلماً روائياً تنوعت في أشكالها إذ تراوحت في ما بين فلمٍ متقشّفٍ مثل فلمه المسمى "الختم السابع" وفلمٍ ذي حميميّةٍ مثل ذاك الموسوم بـ"ابتسامات يومِ صيف"، ثم فيما بين قساوةِ فلمٍ لا هوادةَ فيه مثل فلمه المسمى "بيرسونا" ورقّة مثل فلمه المسمى "فاني واليكساندر". أنشأ بيرقمان أفلاماً عن الطفولة، الحب، الألم، الفّن، شظف العيش، الموت والله. ولئن تكن القولة الشهيرة الواصفة لإنجاز إنسانٍ ما بأنه "إنجازٌ ممتدٌّ بطولِ الحياة" قد أسيئَ استخدامها كثيراً في تاريخ الصناعة السينمائية وأريقَ بها المديح، دون تمييز، على فنانين ثانويين ذوي مدىً محدودٍ وإلهامٍ متقطّعٍ أو طارئ فإنّ بيرقمان، بالذات، يظلّ، من بين جماع صناع الافلام، جديراً بأن يُوسمَ، على التخصيص، بكلّ معنى القولةِ إيّاها.
ينتمي بيرقمان لعهدٍ كان معنياً، في جديّةٍ، بشأن السينما باعتبارها شكلاً من أشكال الفن، كما وهو (ذاك العهد) كان، في ذاتِ الحينِ، مؤمناً بأنّ السينما ينبغي لها أن تلتزم بروايةِ حكاياتٍ صعبة مركبة وبتناول مواضيع مُشكلة.
تضع أفلام بيرقمان الممثلين- وجوههم وأصواتهم- عند مركز الشاشة، فهو قد كان، بدءاً، رجلاً مسرحياً وراعياً لسلسلة متميزة ومتتابعة من ممثلي وممثلات السينما العظيمين والعظيمات. كما ويفهم بيرقمان، أيضاً، أنّ عمل الكاميرا فنٌّ في حدِّ ذاته، سيّما وأنّه قد اشتغل، خلال معظم سنّي مهنته، مع واحدٍ من أعظم المصورين السينمائيين وهو الفنان الراحل سفين نيكفست Sven Nykvist .
إنّ رحيل بيرقمان لتذكرةً بأنّ السينما الجادّة سيكون لها مكان في عالم الفنِّ فقط حينما يتواثق معها صناع الأفلام. وحينما كان بيرقمان في أوج إبداعه، فيما بين 1955 و1980، كانت السينما الأوربية ذاتَ الفنِّ، بلا شكّ، جزءاً أساسياً من صناعة السينما على المستوى العالمي. لكنّ ذلكَ يبقى، اليومَ، زعماً مُتَنَازََعًاً عليه. إنّ بيرقمان قد أسس شغله وطوّره، خلال مجمل أيام حياته، على العمل السينمائي الباكر لرواد صناعة السينما الإسكاندينافية فأكسب، بذلك، السينما السويدية استقلالاً وقوّةً فنيّةً أبرزا أهميتها على المستوى العالمي. مع ذلك، قد لا نلقى، اليومَ، إلا القليلينَ ممّن قد يحسبون السويدَ من بينَ الأمم ذات الإعتبار في مجال الصناعة السينمائية.
إنّ سيرة بيرقمان السينمائية لخليقةً بأن تُذكّرنا بأنّ الفنانين لا يُحكم عليهم فقط من خلال تكنيكهم أو وفق قدرتهم على "إنجاز الصدمة" وإنّما- بالأحرى- بناءاً على صدقهم الأخلاقي الداخلي وعلى انميازهم بالإلهام. إنّ بيرقمان قد فهم أنّ الأسئلة الاعمق عن الحياة والموت، الشباب والعمر، الأنانية والمودة يمكن لها أن تجاب، بذات القدر، في داخل حجرةٍ مفردة، عند جزيرةٍ تتناوشها الرياح أو حتّى في عينِ معمعانِ الحياةِ في مدينةٍ كبيرة. ومثل موزارت، الذي بَجّلَه بيرقمان، عرف بيرقمان كيف يقولُ أشياءَ عميقة ببساطةٍ عظيمة.
قد كان بيرقمان إنساناً متشائماً على أوجهٍ عدّة. بيدَ أنّ أفلامه تظلّ موسومةً بضوءٍ داخليٍّ لإنسانيّةٍ تقفُ مؤنّبةً لكثيرينَ جدّاً من لاحقيه.
* صحيفة /القارديان/ البريطانية، الثلاثاء،31/7/2007.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة