" التوب "
والعوده الي المستقبل
عبد العزيز حسين الصاوي ( محمد بشير )
إذا نُظر الي موضوع هذا المقال من الزاوية التي يتناولها به فأنه يبقي، او ينبغي ان يبقي، ساخنا علي الدوام.
وكانت إنشغالات قاهره قد فوتت علي كاتب المقال تناوله وهو ساخن كتابيا خلال مارس الماضي عندما أُثير في نطاق نشاطات " جمعية المبادرات النسائيه "، فقد تتابع علي منصة التعليق الذكي عليه اكثر من قلم ومن بينها اقلام مغموسة في ثقافة متنوعه وثره
( مني عبد الفتاح، مني ابو زيد وأمل هباني ) يستحق انتاجها الانتباه الكامل مهما كان الموضوع وزاوية التناول. ولئن بدا موضوع ( التوب ) علي ضوء هذه المعلومه خاصا بالنساء فأن هذه المداخلة ( الذكوريه ) تكشف عن حقيقته المتجاوزة لحدود النوع إذ تطرق جانبا منه يؤكد علي إمحاء الحدود البيولوجيه الفاصلة بين الجنسين عندما يتعلق الامر ببشريتهم. هذا في الحد الادني. اما في الحد الاعلي قليلا او كثيرا فأن هذه المداخله تطمح الي ترحيل موضوع العوده الي ارتداء التوب التقليدي، أي المنزوع الحجاب، من مستوي المبررات العاديه ( الجمال المقترن بالحشمه، تمييز الشخصيه السودانيه، الاقتصاد الخ.. الخ..) الي مستوي
استثنائي الاهميه هو كونه ترميزا للعوده الي الماضي- المستقبل.
تاريخيا تخلي المرأة السودانية عن البلامه، اي استخدام التوب لتغطية ثلاثة ارباع الوجه بحيث لايظهر سوي العينين فيما يمكن وصفه بحجاب الزمن القديم، كان المقابل السوداني لسفور المرأة المصريه ممثلا في الحادثة المشهوره إبان الربع الاول للقرن الماضي التي برز فيها اسم السيده هدي شعراوي، مع تنامي مد الحركة الوطنية المصريه بأبعاده التحديثية اجتماعيا وثقافيا والتحريرية للمرأه
كما للوطن.
هذه السيده كانت عضوا في حزب الحركة الوطنية المصرية الرئيسي، حزب الوفد، وناشطة قيادية في مختلف الحقول من زواج القُصر حتي القضية الفلسطينيه مروراً
بحقوق المراة السياسية والتعليميه
وأثار خلعها غطاء الوجه في مناسبة عامه ثائرة الاوساط التقليدية عليها. تُري من هي اول إمرأة سودانيه تخلت عن البلامه؟ التخمين المؤكد ان الفكرة خطرت لها في سياق التأثر الشديد لبواكير الوعي الوطني السوداني وقتها بأبعاده التغييرية المتنوعه، بالرصيف المصري منفجرا في ثورة 24
بشعار وحدة وادي النيل. والمؤكد أكثر وأكثر هو
رمزية ولادة الفكرة وتنفيذها كأرهاص لريادية بعض النساء السودانيات في اقتحام المجال العام
بداية بالتعليم والمهن النسائيه مثل التمريض تدرجا بمرور الوقت وتكامل أركان الصحوة الوطنيه وتداعياتها، الي دخول الحياة العامة الاجتماعيه والثقافية والادبيه والسياسيه. إتساع مساحة هذا الدور بأضطراد لاسيما بعد الاستقلال، الي المهن غير النسائيه من عاملات مصانع النسيج الي مهندسات ومن كاتبات مغمورات محدودات العدد وبأسماء مستعاره الي
شاعرات وصحفيات ومن مصلحات اجتماعيات الي
قيادات نقابيه وسياسيه ونائبات في البرلمان،
كان المعادل الموضوعي لازدهار تيارات التغيير والتحديث في المجتمع بأكمله التي بلغت قمة تألقها الباهر في ثورة اكتوبر 64 ومابعدها بعشر سنوات تقريبا. هذه شكلت الاساس الموضوعي للتقدم بأتجاه المساواة بين المراة والرجل في الحقوق الواجبات والاهم من ذلك في القيمة المعنوية الانسانيه. غير ان تاريخ بلادنا يكاد يكون قد توقف عند تلك النقطه، والتوقف خطوة اولي نحو التراجع المتسارع.
مع ( ثورة ) مايو الستينيه، هدية الشمولية اليساريه الي الشمولية اليمينية الخانقه، بدأت مسيرة تراجع تلك التيارات وتاليا إنسداد افق التقدم للمرأه مساواة وقيمة انسانيه، الذي
وجد ترميزه ( التوبي ) في اضافة عنصر الحجاب الي التوب بتغطية الشعر تدرجا نحو تغطية الجسد كله تقريبا في ماعدا الكفين والقدمين. ومع
إزدياد وتيرة الانكفاء التحديثي بالنمو السريع لقواه الاجتماعية- الاقتصادية وايديولوجيته الدينيه مخترقا قلب المدينة السودانيه نفسها، ازداد الانكفاء الحجابي للثوب فأختفي تماما لدي الشابات منهزما أمام الحجاب.
ثم تواصل الانحدار مع
نمو التيارات السلفيه مستظلة بالاسلام السياسي لتجد ترميزها ( التوبي ) في انتشار النقاب. والاستثناء الوحيد هنا هو
النساء الاكثر فقرا من غيرهن في هامش الفقر الذي يكاد يبتلع المجتمع كله، مثل النازحات، فهؤلاء هن الاكثر ارتداء للتوب بالطريقة التقليديه إذ يجدن فيه إشارة للتمدن بينما يتكفل بعدهن عن قلب المدن بالمعنيين الجغرافي والاجتماعي- الثقافي، بحمايتهن من المؤثرات التي تدفع للتحجب. وكلما قصرت هذه المسافه كلما اقتربن من التحجب.
اختفاء المرأة الحجابي والنقابي علي هذا النحو رافقته ظاهرة نقيضه ولكنها خادعه هي بروزها في اكثر من مجال.
حاليا بعض من أذكي السودانيين وافضلهم تعليما وفي اعلي المراتب القياديه في كافة شئون الحياه هم من النساء( سيدات أعمال،
قيادات خدمه مدنيه الخ.. الخ.. ).
ماتحقق للمرأه في كافة هذه الوجوه لايقارن مع ماتحقق في ذروة
فترة ازدهار تيارات التقدم ولكنه إنجاز تم خصما علي حقوق الاكثريه إذ لم تكن فرصه متاحة الا لمن وضعتها
ظروفها الاسريه او اختياراتها السياسيه في دائرة السلطه والثروه المتقلصة مساحة.
والاهم من ذلك ان هذا الانجاز تم خصما علي قيمة المرأه كأنسانه، فهذه تضعضعت بفعل السياسات الفوقيه الي درجه غير مسبوقة من التدني:
بالاضافه لقانون الاحوال الشخصيه لعام 1991 الذي ينحاز ضد النساء في كل مواده الرئيسيه ( دراسة فاطمه ابو القاسم المحاميه
"دعوة إلى نظام عدالة حساس نسوياً
) هناك ترسانة قوانين اخري من بينها ذلك الذي يجعل سفر إمرأة علي هذه الدرجه من ارتفاع الموقع رهينا بموافقة محرم. علي ان الاكثر دلالة علي انحطاط القيمه هو نوع الثقافة ( الدينية) التي تغلغلت حتي في الذهنية والسلوكيات العامه غير الدينيه او المتدينه جاعلة المرأة
السلعة الاكثر رواجاً في سوق الكرامة السودانية المهدره المعروضة للبيع بفعل الفقر والعوز
: زوجة شرعيه ثانية او ثالثة او رابعه او مبذولة كمتعة عابرة سواء مدفوعة الثمن او مغتصبة قهرا.
علي ان الصورة التحليلية للعلاقة بين الحجاب ووضعية المرأه التي ترسمها هذه السطور تنطبق حذافيريا علي الرجل فهو ايضا تحجب ولنفس الاسباب. والمعني بذلك أنتشار ظاهرة ارتداء الجلابيه خارج مكانها وزمانها المعروفين سابقا، بكملاتها الموازيه للتدحرج نحو النقاب في احيان كثيره
( العمامه، اللحيه، الغره والسبحه)، حتي أصبح من الصعب، مثلا، التمييز بين السياسيين الاسلاميين وغير الاسلاميين بمقياس الزي.
هذا الانتشار هو
في الواقع الحجاب الرجالي الموازي للنسائي فهو ايضا ترافق مع، وارتبط ب، موجة الاسلمه الكاسحه التي أطلقتها
الحقبة المايويه من مصدرين : أستجابة طوعية لضغوط الحياة الجباليه واخري مفروضة بسطوة اسلام السياسه كأيدولوجيه حركيه ثم سلطة دوله شموليه.
ماتخلص اليه الفكرة المشروحة هنا هو ان الدعوه للعوده الي التوب التقليدي أي المنزوع الحجاب ( والي القميص والبنطلون رجاليا ) لها مبرر يتجاوز كل المبررات الاخري وهو كونه سلاحا في معركة إحياء تيارات الحريه والتقدم. هي عودة الي الماضي-المستقبل بينما كان ظهور الحجاب ولازال عودة الي الماضي- الماضي.
( عن جريدة الصحافه
25 ابريل 2009 )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة