غربا باتجاه الشرق
مستشرقون ومستغربون!
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
_______________________________________________________
أغرانا زعم شيخ كتاب (الأحداث)، أستاذنا الدكتور عبد الله حمدنا الله عن تشابه
بعض كلماتنا وتعبيراتنا مع ما يكتبه المستشرقون، ووضعه لغتنا العربية (المبينة) مع لغة المستشرقين المبهمة في سياقٍ واحد، بالقيام بجولة عابرة تخطفنا خلالها أطرافا من سيَر نفر من هؤلاء الرجال البيض البشرة، الذين كان لهم – شئنا أم أبينا - سهمٌ وافر في مضمار الثقافة العربية. وقد كانت مقالة الأستاذ الدكتور(الإخوانية) على سبيل المجاذبة والمفاكهة بطبيعة الحال، كما اكد صديقنا المشترك الشاعر السفير خالد فتح الرحمن، وكذلك طابورنا الخامس فى معسكر الشيخ الجليل، صديقنا المهندس محمد عبدالله حمدنا الله، الباحث بمنظمة الارصاد الجوية العالمية بجنيف. نقول كان لهؤلاء المستشرقين اسهام رفيع في خدمة الثقافة العربية على الرغم من أن غالب هؤلاء الذين انشغلوا بدراسة الأدب العربي وتحليله، كانوا في واقع الأمر عُطلٌ من مواهب اللغة ولم يُعرف لأي منهم إسهام أدبي وإبداعي في لغته الأم. وبينما عمدت فئة من هؤلاء الى تصوير العرب والاسلام فى صورة قميئة، فإن كثيرا منهم أسبغ على
الشرق اوصافا انتفخت لها اوداج اهله من العربان، مثل يوهان غوته الذى قال: ( من لم يول وجهه شطر الشرق فانه لا يستحق الحياة). وزغريد هونكة التى عنونت واحدا من أشهر كتبها: ( شمس العرب تسطع على الغرب).
وطرافة تعبيرات المستشرقين وسوء أفهامهم لمرامي الكلام مما هو معلوم عند الباحثين في تراث الاستشراق بالضرورة. ومن ذلك ما انزلق إليه أحدهم في تفسيره لقوله تعالى: (وترى الملائكة حافِّين من حول العرش يسبِّحون بحمد ربهم)، فكتب أن المعنى هو أنهم جالسون حفاة – من غير أحذية - حول العرش! ومن ذلك أيضاً ما وحل فيه سادن الاستشراق وعموده الأعظم إغناز غولدزيهر بترجمته للمصطلح الحديثي (حديث لا يسر القلب)، وهو مصطلح سائد عند المشتغلين بالأثر النبوى، ويعنى أن الحديث ضعيف فترجمه بقوله:
This tradition does not give the heart pleasure
فأخطأ خطأً فاحشاً في فهم المعنى الاصطلاحي للتعبير. والمستشرق غولدزيهر هو الذي كتب في مؤلفه الأشهر (دراسات إسلامية) أنه لا يوجد حديث صحيح واحد في الإسلام!
ومع وضوح لغة عميد الأدب العربي طه حسين وسلاسة تعبيراته التي تكاد تشرح نفسها بكثرة التكرار فإن المستشرق هاملتون جب وجد صعوبة بالغة في فهم كتاب العميد (في الشعر الجاهلي)، فكان يلجأ إلى القاموس العربي/ الإنجليزي ليستخرج معاني الكلمات ويكتبها على الهامش ويحاول بعد ذلك فهم المقصود منها في السياق. وأغرب من هذا شيخ طه حسين وقدوته المستشرق الكبير صمويل مارغليوث الذي روى عنه الدكتور عبد الله الطيب انه كان يشرح الشعر الجاهلي لنفسه باللغة الإنجليزية، ويحاول أن يفهمه ويتذوقه عن طريقها، ثم يأتي ليستخرج الأحكام التنظيرية الكلية الكبرى عنه، وهي الأحكام التي يُعتقد أن طه حسين اعتمد عليها في إنكاره وجود الشعر الجاهلي، ودفعت العميد ليقول ان القرآن هو الشعر الجاهلي!! ومع ذلك، فان لطه حسين نفسه روايات طريفة عن تخاليط المستشرقين اللغوية، ومن ذلك ما رواه عن بعض المستشرقين الذين زاروه فى فيلته التى اكمل بناءها وانتقل اليها. وكان قد كتب على باب الدار بالاحرف اللاتينية ( رامتان )، فسأله واحد من الزوار لماذا سمى بيته رمضان، فضحك العميد وأوضح لهم: ( أن رامة فى اللغة العربية هى المكان الذى يستروح فيه المسافر من وعثاء السفر، ولما كان البيت من طابقين قصدت ان تكون لى رامة ولابنى مؤنس رامة ).
وفى شرح سورة النور فسر مونتغمرى وات غض البصر فى قوله تعالى:( وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ... الآية) بأنه التواضع فكتب: ( وقد نزلت آية تدعو المؤمنات الى التواضع). وقد فسر نفس المستشرق ما كان من خلوة الرسول (ص) فى غار حراء قبيل البعثة بأنه كان هروبا من حر مكة وابترادا فى رأس الجبل فكتب:( كان الرسول محمد فقيرا لا يستطيع السفر الى الطائف للاصطياف مثل أغنياء قريش). وذلك مع ان أحدا ممن كتبوا عن مكة وأهلها آنذاك لم يذكر قط أن الفقراء كانوا يصطافون فى الجبال بينما يصطاف الاغنياء فى الطائف. وواضح هنا ان واط يتناول أحداثا وقعت قبل مئات السنين ويسقط عليها مفهومات وعادات عصره، وفى ذهنه رحلات المصطافين فى زماننا هذا الى سويسرا ولبنان وساحل الاسكندرية.
اعتمد بعض المستشرقين فى ابحاثهم على نصوصٍ مفردةٍ متقطعة خارجة عن سياقاتها. ومن ذلك ما ذهب اليه المستشرق غولدتسيهر من أن تصنيف الحديث تأخر الى القرن الثالث عشر استنادا الى ما ورد عن الامام احمد من انه قال فى سعيد ابن عزونة: ( لم يكن له كتاب وانما كان يحفظ ). فاستدل غولدتسيهر بالقول ( لم يكن له كتاب) على ان سعيد لم يؤلف كتابا، مع أن أهل الحديث يستخدمون هذا التعبير فى الدلالة على أن المحدّث حافظ متين لا يعتمد على الكتاب فى روايته للحديث!
وقد شرح المستشرق كارترمير معنى كلمة ( الاحداث) وهم صغار السن بالغوغاء. وفسر المستشرق كازانوفا لفظ ( أمى ) بشعبى. وفى تحقيق كتاب مختصر ابن خالوية صحّف المستشرق براجستراسر عبارة ( فقد تربّع فى لحنه ) فجعلها ( قد تربّع فى الجنة )، مع أن المقام مقام ذم.
وللمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون شهرة ضاربة في أوساط الأدب الحداثوي، فهو الذي روَّج لشطحات أبي منصور الحلاج، فألهمت كتاباته شاعرنا المصري صلاح عبد الصبور لكي ينسج على هداه مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج). وما كان ماسينيون يجيد العربية أو يستوعب دلالاتها استيعاباً كافياً، على الرغم من أنه عاش بالجزائر ردحاً من الزمن، حيث عمل بجيش الاحتلال الفرنسي. وقد كتب ماسينيون أطروحته للدكتوراة من ثلاثة آلاف صفحة بعنوان (عواطف الحلاَّج) وجعل فرضيتها الأساسية تدور حول زعمٍ يقول بأن الحلاّج لم يكن مسلماً وإنما كان نصرانياً لأنه – بحسب المستشرق – كان
يتحدث عن الفناء والفداء وغير ذلك من المفاهيم النصرانية، ثم لأنه دعا أعداءه كي يصلبوه، كما صُلِب المسيح عليه السلام!! وقد استشهد ماسينيون لتعضيد أطروحته بقول الحلاج:
ألا أبْـلِـغْ أحبَّـائي بِـأنِّـي
***
ركبْتُ البحرَ وانكسرَ السفينةْ
على دين الصليبِ يكونُ موتي
***
فلا البطحـا أُريدُ ولا المدينةْ!
والغالب عند دارسي الحلاّج أن الرجل إنما أراد هنا أن يقول إنه يموت على الدين الصليب: أي الدين الصُّلب، أي دين الأصالة، وهو الدين الذي يؤخذ ويؤدى كفاحاً ولا واسطة فيه بصلاة أو حج. وواضح من قول الحلاج (ولا البطحا أريد ولا المدينة) انه ينفي حاجته إلى الطواف.
والحلاّج كما تتضح صورته من شعره لم يكن ثورياً كما يذهب بعض الحداثويون (نُصرُّ على استخدام واو الرفع هنا ونتجاهل أن اللفظ مضاف ويجب عليه الكسر حتى نغيظ أستاذنا حمدنا الله).
وعلى رأس الحداثويين الذين أرادوا الحلاج مناضلاً سياسياً صلاح عبد الصبور الذي جعله ثائراً كثوار الزنج بالبصرة. وهذه دعوى تفرَّد بها شاعرنا الكبير ولم يجترحها أحد قبله، إذ أفاض جميع المؤرخين في الحديث عن صلات الحلاج بالحكام والسلاطين، وعن ولعه بالسحر والأمور الدجلية الأخرى.
وفي لمحة طريفة من مذكرات الدكتور عبد الرحمن بدوي، نذكر إشارته إلى ماسينيون الذي التقاه وساكَنَه في فندق واحد ببيروت. كتب بدوي أنه لاحظ أن ماسينيون كان يخرج في البرد القارس ليؤدي الترانيم الكنسية، ولكنه مع هذه التقوى المفرطة هرب من الفندق دون أن يدفع فاتورة الحساب، واحتار موظف الفندق واستشار الدكتور بدوي فدلَّه على السفارة الفرنسية التي قامت بدفع الحساب حفاظاً على سمعة فرنسا!
ولا جدال في أن كثيراً من المستشرقين لم يكونوا يجيدون اللغة العربية إجادة كافية. والحق ان نفراً من هؤلاء المستشرقين كانوا في واقع الأمر يتآمرون على هدم اللغة العربية واجتثاثها من الجذور بتغيير نحوها، وتشجيع كتابتها بحروف لاتينية، وهي المؤامرة التي تنبَّه إليها حافظ
إبراهيم وكتب في التصدي لها قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ
***
يُنادي بِوَأدٍ في رَبيعِ حَياتي
وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ
***
بِما تَحتَهُ مِن عَثرَةٍ وَشَتاتِ
سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً
***
يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ
***
لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
وَفاخَرتُ أَهلَ الغَربِ وَالشَرقُ مُطرِقٌ
***
حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
***
مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وإننى لأتخذ من البيت الأخير – أيها الأعز الأكرم – حصناً وملاذاً وحجة في مواجهة أستاذنا الدكتور حمدنا الله الذي أهمه التقعر والتفاصح في بعض كتاباتي، إذ اننى إنما أتقعر وأتفاصح، بل وأتخير في بعض الأحيان غريب الألفاظ وحوشيها لا لشئ إلا لأناهض اللغة المبتذلة التي وجدت طريقها إلى الصحافة، ليس في السودان وحسب، بل وعلى مستوى العالم العربي بأسره. وهي اللغة التي خشى من خطرها على لغة الضاد حافظ الفصحى: حافظ ابراهيم. وحافظ الفصحى هذه أخذناها من شوقي الذي أشار إلى قصيدة حافظ هذه في القصيدة التي رثاه بها فقال:
يا حافِظَ الفُصحى وَحارِسَ مَجدِها
***
وَإِمامَ مَن نَجَلَت مِنَ البُلَغاءِ
ما زِلتَ تَهتِفُ بِالقَديمِ وَفَضلِهِ
***
حَتّى حَمَيتَ أَمانَةَ القُدَماءِ
جَدَّدتَ أُسلوبَ الوَليدِ وَلَفظِهِ
***
وَأَتَيتَ لِلدُنيا بِسِحرِ الطاءِ
وَجَرَيتَ في طَلَبِ الجَديدِ إِلى المَدى
***
حَتّى اِقتَرَنتَ بِصاحِبِ البُؤَساءِ
وفى ذات القصيدة يهاجم شوقي العميد طه حسين (ربيب المستشرقين) ، فهو المقصود بالكاذب والمرجف والمضغن والموغر والهدَّام في هذه الأبيات:
وَدِدتُ لَو أَنّي فِداكَ مِنَ الرَدى
***
وَالكاذِبونَ المُرجِفونَ فِدائي
الناطِقونَ عَنِ الضَغينَةِ وَالهَوى
***
الموغِرو المَوتى عَلى الأَحياءِ
مِن كُلِّ هَدّامٍ وَيَبني مَجدَهُ
***
بِكَرائِمِ الأَنقاضِ وَالأُشَلاءِ
ما حَطَّموكَ وَإِنَّما بِكَ حُطِّموا
***
مَن ذا يُحَطِّمُ رَفرَفَ الجَوزاءِ
ومن الأشياء التي تدل على قلة تذوق المستشرقين للغة الضاد أنهم صنعوا التصنيف المسمى اليوم بالمعجم المفهرس لألفاظ
القرآن الكريم ليستعينوا به على جمع الكلمات من مادة واحدة، وذلك في سياق تعقبهم ونقدهم لمعاني القرآن، فهم إذن لا يعرفون أن المعاني في لغة الضاد لا يمكن جمعها إحصائياً على هذا النحو الكمي فالمعنى قد يكون وارداً في أكثر من كلمة، أي في كلمات مختلفة المواد والأصول وهناك معاني أضداد في اللغة العربية كما قد يكون مجازياً حيناً وحقيقياً حيناً آخر، وهذا ما لا تدركه عملية الإحصاء والاستقراء.
ولسبب لم أتبينه فإن أكثر العرب إعمالا للمستشرقين واحوالهم فى مجال النكتة هم أهل سوريا. فى واحدة من نكاتهم التى يبدو ان المستهدف بها اساسا هم سكان مدينة حمص يقولون: ( واحد مستشرق راح على حمص، رجع مستغرب )!
نقلا عن صحيفة ( الاحداث )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة