غربا باتجاه الشرق
مؤامرات عبد الله حمدنا الله
مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
(1)
انزعج رئيس تحرير هذه الصحيفة، الذي يختفي عن الأنظار هذه الأيام معتكفاً بداره في شارع جامعة الدول العربية بمدينة المهندسين بالقاهرة خوفاً من رئيس تحرير صحيفة أخرى كنت قد تعرضت له بالنقد في مقالي الأسبوع الماضي، إنزعاجاً شديداً عندما أخبرته بأنني أزمع أن أخصص زاويتي هذا الأسبوع للرد على المقال الذي نشرته (الاحداث) في عدد الأربعاء الماضي للدكتور عبد الله حمدنا الله بعنوان (البطل ولغة المستشرقين). قال عادل الباز: (لا.. لا عليك الله. دكتور حمدنا الله خط أحمر. وانت عندك تاريخ أسود في الرد على الناس، وفيما ثبت لنا فإنك أخرق لا تعرف التمييز وتقدير الأشياء بقدرها، واللي برميك بقشة كبريت انت بتضربه بالنووي). قلت: (ولكنني انتهيت من كتابة الخطوط العريضة للمقال واخترت عنوانه وهو: "عبد الله حمدنا الله كوز فالصو"). ما حدث بعد ذلك هو أن صاحبي كاد يسقط مغشياً عليه. وعن حب ابن الباز للشيخ حمدنا الله حدِّث ولا حرج!
(2)
في يناير الماضي أضافت آنسة - أو سيدة سودانية – قرأت اسمها عدة مرات مسبوقاً بحرف الدال، تقرض شعراً باللغة الإنجليزية وتنشره في موقع لبني ثقيف على الشبكة الدولية، تعليقاً على مقال لي بعنوان (كتاب نوعيون وكاتبات نوعيات) المداخلة الآتية: (كتابة ذكية ورائعة وفكهة). وبعد حوالى سبع دقائق لا تزيد قامت الآنسة أو السيدة - المزودة بحرف الدال - بالدخول إلى الموقع مرة أخرى حيث قامت بتعديل مداخلتها. وقد تضمن التعديل حذف كلمتي (ذكية ورائعة) وانكمش التعليق ليُقرأ كالآتي: (كتابة فكهة). ولأن الفارق الزمني بين كتابة المداخلة ثم العودة لتعديلها كانت قصيرة للغاية فالغالب أن الدكتورة قد استنامت إلى قناعة مريحة بأن أحداً لم يتنبه لتعليقها الأول الكامل ثم التعديل الطارئ اللاحق. ولكنها بالطبع لم تعرف أن لصاحبكم عيني صقر، ولا تفوته تحت الشمس شاردة ولا واردة! وقد فكرت ملياً فى ما عسى أن يكون الدافع وراء مسارعة المثقفة، ناظمة الشعر باللغات الحية، إلى تغيير رأيها الأول بهذه السرعة اللافتة، وقرارها الحاسم بتجريد مادتي المنشورة من صفتي (الذكاء) و(الروعة)
وتخفيض رتبتي تبعاً لذلك من رائد إلى ملازم أول. وقد قادنى التأمل إلى خلاصة مؤداها أن الشاعرة لابد أن تكون قد أدركت أن للثناء والاشادة في بعض الأحيان عقابيل واستحقاقات. وعقلت أن ذوات الهيئات وصاحبات الوزن المقدّر من المثقفات لا يجمُل بهنَّ الاندلاق هكذا وبغير حساب إلى إغداق الثناء على كل من هبَّ ودب من المتنطعين والمتلطعين على مساطب الإبداع المفترض. بل يلزم عند الحاجة لإبداء الاعجاب بشخصية من الشخصيات أو بعطاء من النتاجات البشرية التزام الحذر والحيطة وإيثار التحفظ والتثبت. وهكذا فإن المثقفة الشاعرة كتبت ما كتبت، ثم أعادت البصر كرتين، ثم قالت لنفسها: ( يا بت اتقلي ). وفي الحكمة الشعبية (التقلة صنعة)!
(3)
أذكر أن أستاذنا الدكتور عبد الله حمدنا الله، الذي لا يبدو لي انه يؤمن تماما وكليا بالحكمة المتقدمة، التي تحرّتها شاعرة بني ثقيف وهي تقبض عني رزقها بعد دقائق سبع، قد أسبغ عليَّ من قبل ثناء ممدوداً غير مقطوع ولا ممنوع، كاد يقتلني حياءً حتى صرت أنزوي منه إلى أطراف قصية. من مثل ذلك ما كتب أستاذنا، يخاطبني، في مقال له منشور بتاريخ الثالث والعشرين من أبريل من العام المنصرم: (نثرت أقلامك وعجمت أسنانها وتخيرت أكثرها بياناً وأبلغها أسلوباً). ووصف حمدنا الله مقالا لى بأنه (موشحة)، وكتب: ( سأضيف للموشحة مصاريع لاحقا. فكتاباته [ يعنى كتابات البطل ] منذ المبتدأ عندى خبرها المتم الفائدة كما يقول ابن مالك).
ولكن ولأمر ما سنعرج إليه ونفلفله في حينه، قرر الأستاذ الدكتور كما ظهر من مقالته الموسومة (البطل ولغة المستشرقين) أن يتبع ما يُعرف في كليات الحرب بسياسة (التراجع الاستراتيجى)، الذى هو غير (الانسحاب التكتيكي). والتراجع الاستراتيجى وإنْ جاز في الحروب العسكرية، فإن إنفاذه في عالم الصحافة تحوطه محاذير بالغة الخطر. أول حلقة في دائرة المحاذير يشكلها المثل العريق: (الدخول في الشبكات هيِّن ولكن التأمل في الخروج). فكيف يدخل شيخنا الجليل بقدميه إلى شبكتي مساءً، فيتغنى على رؤوس الأشهاد بسلاسة بياني وبلاغة أسلوبي. بل ويصف، وهو فى تمام قواه العقلية، بعض كتاباتى بأنها (موشحات)، ثم ما يلبث أن يدور حول نفسه، قبل صياح الديك، مائة وثمانين درجة،
لينسب الى ذات الكتابات أنها من فرط خبالها تجعله يظن فى بعض الاحيان أن بعضها ربما كان خليطا من الرطين النوبى والكلام العربى؟ كتب الدكتور حمدنا الله انه يجد في مقالاتى من غريب اللغة ما لم يفهم فحلَّ مشكلته معها هكذا: (أريح نفسي فأقول انها ربما كانت من بقايا ما تساقط إليه من لغته الأم فجرت على لسانه فعرّبها)، وبعض تعابيري بحسب حمدنا الله تشبه لغة المستشرقين، مثل ذلك المستشرق الذي بعث إلى عالم عربي كبير برسالة يقول فيها: (أشكركم على خرارة علمكم)، فاحتار العالم في معنى كلمة (خرارة) فبحث عنها في القواميس ووجد أن اللفظة تعني الماء الصافي الذي ينبع في أعلى الجبل. ونصحني الدكتور، وأعلم انه يُمحضني النصح: (على البطل أن يأخذنا على قدر عقولنا ويدع التطرف بين أقصى طرفي البُعد، فمن عجمة اللسان إلى صنعة البيان. ما عليك لو توسطت ولا تتعبنا كما أتعب جدك أبو تمام "الرومي" جدنا البحتري بالصنعة والفلسفة وتوليد المعاني).
(4)
ولكن هناك مشكلة اساسية فى مقال الدكتور حمدنا الله، وهى انه يطلق أوصافا و احكاما شمولية – كدت اقول جزافية لولا حرصى على مقام استاذنا – دون ادنى جهد من جانبه لتقديم نماذج أو أمثلة على سبيل التدليل، ودون عناية بتوفير حيثيات تعضد احكامه النافذة التى لا تقبل نقضا ولا ابراما. وانا اعلم يقينا انه لو التمس الامثلة والحيثيات لما أعيته، وليته فعل، اذن لنهلنا من فيض علمه. ولكنه بدا لى اكثر احتفالا بسيرة العرب والعجم اجمالا، عنه بنماذج "الصنعة والفلسفة وتوليد المعانى" فى كتابتى تخصيصا. و لما ارتجّ علىّ الامر طلبت ملاذا آمنا من حيرتى عند خاصة أصدقائى فى الحلقة الالكترونية المحدودة التى الجأ اليها عندما تختلط الأشياء امام ناظرى فأرى الليل نهارا وأحسب الديك حمارا.
والقضية - كما تبين لى بعد البحث والمداولة مع الثقات من عشيرتى الاسفيرية - ليست قضية فلسفة وتوليد معاني، بل هي أعمق بعداً وأوسع نطاقاً. اقرأ أولا ما كتب الدكتور حمدنا الله: (النوبيون ومن بينهم مصطفى البطل أصحاب ألسنة تقاس بالبرد والفراسخ لا بالأمتار والكيلومترات. وهم أصحاب دعاوٍ عراض في احتكار الاحسان بحيث لا يرون لأحد غيرهم نصيباً منه. من شاكلة نبي عموم السودان وفنان عموم السودان. وعلى هذا النسق، وقبل أن يخرج علينا البطل مزهوا.....). قالت العرب: الرجل مخبوء تحت لسانه. وأستاذنا حمدنا الله مخبوء تحت قلمه. وما جاد به قلمه، باجماع العشيرة، لا يعدو أن يكون محاولة منه لتحقيق ضربة استباقية تستهدف خططاً وتدابير خاف أن يمضي فيها قدماً بني جلدتى من النوبيين. هل اتضحت لك ملامح المؤامرة، ايها الأعز الاكرم؟ لعلها تتضح اذا تدبرت ما ذكره استاذنا من انه ذهب إلى النادي النوبي بالخرطوم، وشارك في بعض فعالياته مؤخراً كالاحتفال بذكرى العلم النوبي عبده دهب حسنين. لابد إذن ان أذنه قد استرقت السمع هناك إلى ما يدور بين أهلى وعلم ما كان من أمر إعدادهم العدة للانعام عليَّ بلقب "كاتب عموم السودان" حتى يستقيم السرد بعد ذلك: (الشيخ طنون نبي عموم السودان من عَندِنا، محمد وردي فنان عموم السودان من عَندِنا، ومصطفى البطل كاتب عموم السودان من عَندِنا..)!! وربما خشى حمدنا الله من مآلات الأمور فينتهي مُلاماً مداناً عند شيعته من حفدة بني أمية ومن سلالة الحمزة والعباس عندما تجد إشاداته الموثقة غير المتحفظة في الماضي ب (موشحاتى) و(قوة بياني) و( بلاغة أسلوبي) طريقها إلى دفتر حيثيات تنصيبي، فيبوء هو بوزر أيلولة اللقب إلى أعجمي نوبى بينما رهطه من العرب الاخيار يتفرجون!
كتب د. حمدنا الله: (الإسلام كسر العصبية العربية وأتاح للجميع أن يبرزوا قدراتهم، وأن يتسابقوا إلى الكسب، ومن هذا الباب دخل الأعاجم ومنه نرجو أن يدخل البطل). و ليس عندي فى مقام الرد على الدكتور غير كلام ذلك المواطن الذي تطلَّعت نفسه إلى هدية من قريبه العائد من الاغتراب، ولكن زاد المغترب من الهدايا كان قد نفد فحمل مصحفاً وأهداه للرجل الذي تناول المصحف وقبّله ثم قال: (كتاب الله ما عندي فيهو كلام، إلا الفيك اتعرفت)!
قرأت في أحد كتب التراث: (إذا سمعتم من يقول "ما عند الله خيرٌ وأبقى" فاعلموا أن في جواره وليمة لم يُدع إليها). وفي حديثٍ موضوع، وضعه أعجمى غتيت: ( إذا سمعتم واحدا من المتسربلين برداء العروبة والمتعلقين بشجرة الحمزة والعباس يُكثر من الكلام عن فضل الاسلام على الأعاجم، فاعلموا أن بعض الأعاجم قد أغاظوه وفقعوا مرارته).
مرحبا بك يا شيخنا حمدنا الله حفياً بنا، ومرحبا بك مُنكراً علينا. ولا ضير، فقد عرك العُجمان
أهوال
الزمان، وعلموا عن حفاوة المتسربلين بأردية الأغيار والمتعلقين بأفرع الاشجار انها مثل النِعَم لا تدوم!
بينى وبين القارئ
(1)
فى النسخة الورقية من (الاحداث) أمر الرقيب الأمنى بشطب او تغيير عبارة ( كوز فالصو )، الواردة فى الفقرة الاولى من هذا المقال. وقد استشارتنى ادارة الصحيفة
فاقترحت تغيير العبارة الى ( كوز مزيف )، ولكن الصحيفة أفادتنى أن الرقيب فى واقع الامر لا اعتراض عليه على كلمة ( فالصو) وانما ينصب اعتراضه على كلمة ( كوز ). وقد ادهشنى أن الرقيب لم يجد بأسا من وصف شيخنا عبدالله حمدنا الله بأنه فالصو، ولكنه يعترض على لفظة ( كوز ). وانتهينا الى تغيير العبارة الى ( كاتب فالصو)، وهكذا تظهر فى النسخة الورقية. وكنت أظن ان كلمة ( كوز ) مقبولة لدى كثير من الاسلاميين الحركيين السودانيين، على اعتبار ان مصدرها، فيما تناهى اليّ، جملة منسوبة للامام حسن البنا يقول فيها: ( الاسلام بحرٌ واسع نحن كيزان له)، وأن الكلمة بالتالى ليست مما يُحمل على محمل المسبة. ونحن على أية حال نقبل بتوجيهات الرقيب، ولا اعتراض لنا عليها.
(2)
فى مقالنا الاسبوع الماضى أوردنا أن حاكم ولاية لويزيانا الجمهورى بوبى جندال ولد فى الهند عام ١٩٧٠. الصحيح أنه ولد بالولايات المتحدة فى العام ١٩٧١، وان والديه هاجرا من احدى قرى اقليم البنجاب فى الهند الى الولايات الولايات المتحدة فى العام ١٩٧٠.
نقلا عن صحيفة ( الاحداث )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة