د.عبدالرحيم عمر محيي الدين
حديث الأسبوع:
حوار هادي مع الشيخ النـَيّل أبوقرون(1)
مراحعات في الفكر والتراث الإسلامي:
كل الفرق الإسلامية تحدثت عن العِصْمَة لكن يبقى الحبيب بشراً رسولا.
في حلقة الخميس الماضي تحدثت عن ضرورة فحص وتجديد التراث الإسلامي حتى نحفظ الأصل ونواكب العصر ونرسل لمتحف التراث الإسلامي كل الآراء والأفكار والموروثات التي تجاوزها الزمن وما زال البعض من شيوخنا يطوفون حولها ويقدسونها رغم أنها لا تحمل أي طابع يجعلها من المقدسات.. فسلفنا الصالح قد علمونا أن كل ابن أُنثى يـُؤخذ من قوله ويُرَد إلا الحبيب المصطفى (ص).
وفق هذه المقدمة شاءت أقدار الله أن أُصلى جمعة 17/أبريل/2009م بمسيد الشيخ أبوقرون بضاحية أبوقرون بشرق النيل بولاية الخرطوم.. كانت تلك هي المرة الأولى التي أزور فيها تلك البقعة القرآنية المباركة.. هدفتُ من تلك الزيارة إلي لقاء الشيخ النيل أبوقرون ذلك الشيخ الذي لا يستطيع تاريخ السودان الحديث أن يتجاوزه مهما حاول أهلُ التجمع واليسار وغلاةُ المتدينين أن يعزلوه عن معترك الحياة الفكري والسياسي.. فهو الرجل الذي كان الأبرز مع آخرين وراء التشريعات الإسلامية التي أصدرها الرئيس نميري في عام 1983م تلك التشريعات التي هزَّت البيت الأبيض الأمريكي وأتت بنائب الرئيس ريغان وقتها للخرطوم السيد/جورج بوش الأب، ليقول للرئيس نميري بأنه قد تجاوز الخطوط الحمراء.. تلك التشريعات التي قال عنها الشيخ الترابي أنها وفـَّرت على الحركة الإسلامية مائة عام من العمل حتى تصل لهذه المرحلة الإسلامية من إعلان التشريعات الإسلامية وإغلاق أماكن الخمور والدعارة بصورة لن يستطيع أيٌّ مَن كان أن يلغيها بعد اليوم.. ثم ذهب النيل بعد الانتفاضة للمعتقل دون أن يحاكم أو يُدان، لكن بعد خروجه من المعتقل قررالشيخ النيل القانوني الضليع والوزير السابق التفرق لإدارة شؤون مسيد الشيخ أبوقرون ومن ثم التفرغ للفكر والذكر، ومن ثم بدأ يُطلق بعض الآراء ويمارس بعض النشاطات التي يراها بعض السلفيين وأنصارهم بالخارج خروجاً على المألوف.. وقد نسي هؤلاء أن التاريخ الإسلامي حدثنا عن مجادلات ومناظرات دارت بين أكابر القوم وعلماء الأمة الإسلامية.. فهذا هو الإمام أبوحنيفة النعمان يدخل إلي المدينة المنورة ويجلس في حلقة الإمام مالك ولم يكن يعرفه أحد لأنه من أهل العراق وليس من أهل المدينة وهو إمام أهل الرأي والقياس.. فيسأل الإمامَ مالك سؤالاً لم يتعوده إمامُ دار الهجرة مالكٌ بن أنس! مما جعله يسأل السائل: من أين الفتى؟. فيرد أبا حنيفة قائلاً: من العراق. فيقول الإمام مالك: من بلد النفاق؟ فيرد عليه أبوحنيفه قائلاً: إن الله لم يقل في كتابه إن النفاق في العراق بل قال النفاق في المدينة المنورة! ألم تقرأ قوله تعالى: ( وممن حولكم من الأعراب منافقون
ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلي عذاب عظيم)( التوبة الآية:101).. فيدرك الإمام مالك أن محدثه رجلاً ضليع في العلم والمعرفة والمناظرة والقياس. لم يغضب إمام دار الهجرة إذ ليس في الدين غضب أو تطرف أو تعصب أو إكراه.. فالتعصب وإطلاق الاتهامات جزافاً ورفض الرأى الآخر ليس من صفات أهل العلم والمعرفة.. ولقد كان الإمام أحمد بن حنبل يجلس لمناظرة كبارة المعتزلة وكان يصبر على أذى سلاطين بني العباس الذين جلدوه حتى شلت يده لكن كان النصر حليفه في نهاية المطاف.. فالدين يقوم على الحوار بالحسنى وعلى أدب الحِجاج والجدال والإقناع والمناظرة وإبداء الدليل وترك الحكم للجمهور..لا إكراه في الدين.. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. كما إن الدين
الإسلامي ليس فيه طبقة من رجال الدين يتحدثون باسمه حصرياً.. بل هو للقطاع العام والله رب العالمين جميعاً والكل مأمور بالنظر والتفكر في أمر الدين وتبليغه ولو آية واحدة كما في الحديث..
نعود لشيخ النيل أبوقرون فالرجل ينتمي إلي السجادة القادرية أي ينتمي لأكبر الطرق الصوفية في السودان وهي الطريقة القادرية التي يرجع تاريخ دخولها للسيد/ تاج الدين البهاري قبل أكثر من خمسمائة عام منذ عهد السلطنة الزرقاء.. كما يتمدد آل أبوقرون ليصبحوا أخوالاً للسادة البادراب آل ود بدر عبر المرأة الصالحة (ريا بنت أبي زيد) والدة العبيد ودبدر الشهير بالعبيد ود ريا وهي من نساء الكواهلة الحسانية الصالحات.. لذلك كنتُ دائماً أقول لأخي الشريف بدر نحنُ أخوالك لأن ريا مننا..
دخلنا إلي مسيد العارف بالله أبوقرون قبل صلاة الجمعة بساعة ونصف كان بصحبتي أبنائي محمد وعمر وابن شقيقتي ضياء الدين.. داخل المسجد وفي الصف الأمامي جلس الشيخ النيل أبوقرون.. رجلٌ لا تخطئه العين .. يرتدي عباءةً وعمامةً سوداوين .. تبدو عليه سمات الوقار والصلاح والأدب والابتسامة.. كانت تلك هي المرة الأولى التي ألتقيه فيها.. يحف به من كل مكان المريدون والأحباب يقبلون يده ويستبشرون بمصافحته.. سمعت عنه الكثير ولم أسمع منه قط.. كذلك لم أسمع من أنصاره بل سمعتُ أن البعض يتهمونه بأن له تجاوزات فكرية وعصبيات مذهبية أقرب للتشيع منها إلي أهل السنة.. لذلك قررت أن أسمع منه مباشرة.. بالطبع هو لا يعرفني وما أحسبه قرأ كتاباً من كُتبي ولا مقالاً من مقالاتي التي أكتبها في ( آخر لحظة).. لكن ولحسن الحظ أن كان ضمن المصلين أحد الشباب وهو الشاب سليمان حفيد الشيخ النيل أبوقرون الذي تقدم مني قائلاً: أهلاً يادكتور.. أنا أحد تلاميذك في جامعة النيلين.. ثم قدمني للشيخ النيل الذي احتفى بقدومي وصحبني معه لغرفته التي يسقبل فيها ضيوفه ومُريديه. في تلك الغرفة بدأنا حواراً هادئاَ ارتاح له الشيخ النيل كثيراً وحدثني بأنه منشرح الصدر لهذا الحوار الهادئ والعلمي الذي يأت مع رجل له معرفة بما يقول.. كان الشيخ النيل مستمسكاً بعصمة الأنبياء لدرجة التعصب.. ولا يقبل أي رأي حول العصمة المُطْلقة للنبي (ص).. وعليه لا يقبل أي قول يَذكُر أن الصواب في المسألة الفلانبة لم يكن مع النبي بل كان مع عُمر أو الحباب بن المنذر أو غيره من الصحابة أو أن الرسول الكريم قد تنازل عن رأيه لرأي أحد الصحابة أو أن القرآن جاء مناصراً لرأي أحد الصحابة ومعاتباً للرسول (ص)!!.. وبذلك يعترض على كل رأي ورواية تعضد رجوع الرسول (ص) عن موقفه ليتبنى موقف الصحابة جماعة أو أفراداً.. فالنبي عند الشيخ النيل هو المعصوم عصمة مطلقة لا يدانيها خطأ ولا يتفوق عليها صحابي برأي أو اجتهاد.. فهو أكمل الناس خـَلقاً وخـُلقاً.. والقرآن قد وصفه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم وأنه على خـُلقٍ عظيم وأنه الرحمة المهداة وأنه مدينة العلم وهو الذي يوحي إليه لذلك لا يمكن أن يخطئ مُطلقاً حتى يقوم أحد الصحابة بتصويبه(!!).. وأنا وإن كنتُ لا أوافقه في العصمة المطلقة للنبي (ص) التي تخرجه من دائرة البشرية وتضعه في مصاف الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون بل الرسول (ص) بشر لا يخطئ في شأن الرسالة وتبليغ أوامر الله وهنا تأتي عصمته لكنه بشر يأتي بعض الأعمال البشرية التي يكون اجتهاده فيها تشريعاً هادياً للمسلمين في تعليم الشورى وغيرها.. والرسول نفسه يؤكد ذلك وكذلك القرآن.. وهنا استشهد بما ذكره الإمام محمد عبده في الأعمال الكاملة عن عصمة الرسل - كل الرسل: (.. ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم ، وصحة عقولهم ، وصدقهم فى أقوالهم ، وأمانتهم فى تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات ، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهى بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. أما فيما عدا ذلك - [ أى الاتصال بالسماء والتبليغ عنها ] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدى الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون ").
ثم إن آيات القران لا تحدثنا عن عصمة للأنبياء بهذا الشكل الذي يذكره الشيخ النيل وقد أشار القرآن لكثير من الأنبياء بعدم العصمة مثل قوله تعالى نبي الله آدم أبوالبشر:
( وعصى آدمُ ربَه فغوى) ونبي الله موسى الذي وكز اليهودي فقتله( فوكزه موسى فقضى عليه, قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) وقال:
( رب إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي) وسيدنا يونس ( وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه) ونبينا محمد يقول له القرآن:
( ووجدك ضالاً فهدى) ويقول
( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكي أو يذكر فتنفعه الذكر) وهذا عتاب للنبي والعتاب لا يأتي إلا نتيجة للخطأ لذلك كان الرسول (ص) عندما يأتيه ابن أم مكتوم يقول له: مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي. كما يقول له (
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) ويقول له أيضاً: (
عفا الله عنك لم أذِنت لهم) ويشير القرآن إلي ذنوب غفرها الله له: ( ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم)
التحريم 1.
ثم إن الرسول نفسه يؤكد بشريته
: (هل كنتُ إلا بشراً رسولا). كل هذه الآيات والشواهد تؤكد عصمة الرسول في مسائل الرسالة والتبليغ وحفظه عن الكبائر كما تشير إلي بشريته التي فـُطر وجـُبل عليها وإلا لأرسل الله مَلَكاً رسولا.
لكن ورغم ما تقدم فإن
الشيخ النيل قد قدَّم منطقاً قوياً وحجة ممتازة في تفسير آيات سورة الأنفال التي تتحدث عن أسرى بدر (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).. رغم أن عامة المفسرين يرون أن في الآيات عتاب للرسول (ص) ويوردون الحديث الوارد في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب الذي يتحدث عن مشاورة الرسول (ص) لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في أسرى بدر..لكن الشيخ النيل يرى إن الآيات لا تحوي أي عتاب للنبي (ص) بل فيها عتاب وزجر للصحابة وليس للنبي وإن ذلك واضح من السياق القرآني الذي يخاطب الصحابة قائلاً: ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة.... لمسكم فيما أخذتم) كل هذه فيها خطاب لجماعة الصحابة الذين بين لهم الرسول قبل بدء المعركة أماكن مصارع الكفار في بدر وكان يريد منهم الإثخان في الحرب أي القتل وليس الأسرى لكن الصحابة سارعوا للأسرى وأخذ الغنائم ولم يثخنوا المشركين في الحرب ومن هنا كان العتاب لهم بأنهم استعجلوا الغنائم على الإثخان في الحرب وقتل المشركين..فكان العتاب القرآني (
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).. وفتنة الغنائم قد رأيناها في أحد عندما ترك الرماة أماكنهم من أجل جمع الغنائم فتسببوا في هزيمة المسلمين. فالعتاب من السياق القرآني في سورة الأنفال ليس للرسول بل للصحابة لعدم إثخانهم في الحرب.. فالشيخ النيل يرى أن بعض المسلمين يسعون لتقديم آراء بعض الصحابة على رأي الرسول (ص) المعصوم من الذنوب والخطايا. وهنالك منطق قوي في حُجة الشيخ النيل رغم مخالفته لكافة المفسرين.. وهنا يتكئ الشيخ النيل على مقولة الإمام مالك ابن أنس: كلٌ منا يؤخذ من قوله ويُرَدْ إلا صاحب هذا القبر ويشير إلي قبر الرسول (ص).. إذاً لا قداسة ولا عصمة لأحد في مسائل الفكر والرأي إلا النبي.. وبذلك لا يعتبر ابن كثير أو القرطبي أو الطبري حجة بالغة واجبة الطاعة والإذعان بل آراؤهم آراء يقبل منها ما يتفق مع نص وروح القرآن ويترك غير ذلك.. قلت للشيخ النيل: أوافقك القول أن آراء السابقين واجتهاداتهم تحتاج للمراجعة والضبط بصورة علمية ترفع عنها القداسة والتسليم حتى تكون تلك القداسة والتسليم للقرآن الكريم وما يصح من حديث الرسول (ص).. ثم قلت له: إن الحاكم النيسابوري صاحب المُستدرك قد استدرك على البخاري بعض الأحاديث فرد قائلاً: ليس الحاكم النيسابوري وحده بل حتى الألباني قد استدرك على البخاري.
في ختام هذه الحلقة أرجو أن نكون قد فتحنا صفحة للحوار الفكري الهادف والهادي والجاد الذي يقوم على الحجة والرأي كما كان يفعل سلفنا الصالح ويبتعد عن التهجم والتجني والتطرف والتجريم والتأثيم حتى لا يكن المستشرقون أفضل منا في تبنيهم المناهج العلمية في البحث والتحقيق وتتبع الخبر والرواية.. وهنا أدعو العلماء الأفاضل لهذا المنبر ولنجعل من (حديث الأسبوع) ساحة للمفكرين والعلماء وأصحاب الآراء الصادقة والعلم الراسخ. (نواصل بإذن الله).
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة