مراجعات سياسية:
د. عبد الرحيم عمر محيي الدين
[email protected]
نحو إعادة فحص وتجديد التراث الإسلامي (1)
عفواً عزيزي القارئ فإن هذه الحياة قد بدأت بالمجادلة بالحسنى والحوار الإيجابي الذي ابتدأه رب العزة في عُلاه في حواره مع الملائكة عندما قال لهم: إني جاعلٌ في الأرض خليفة.. فما كان منهم إلا أن تعجبوا بل استنكروا فقالوا: أتجعل فيها من يفسدُ فيها ويسفك الدماء؟؟!..فجاء رد الحق عز وجل: ( إني أعلم ما لا تعلمون).. ثم تدرج الحوار بعد خلق آدم لكنه ما زال في الملكوت الأعلى وكان بين رب العزة مرة أخرى وبين إبليس عليه لعنة الله الذي رفض السجود لآدم! وجادل مدافعاً عن موقفه عندما سأله رب العزة: مالك لم تكن من الساجدين؟! وهنا أراد أن يعتز بعنصر تكوينه الذي ظن أنه يميزه عن آدم.. فكانت حجته أنه لن يسجد وهو المخلوق من النار لبشر مخلوق من طين!!.. ثم تنزل الحِجاج والجدال في الحياة الدنيا التي أُنزل لها آدم وكان ذلك الصراع الذي كان مبعثه الحسد بين الرجل الصالح هابيل والذي سنَّ القتل قابيل.. إذ قربا قرباناً فتـُقـُبِل من هابيل ولم يـُتـَقبل من قابيل فقرر الأخير قتل أخيه فبدأ ذلك الحوار.. عندما أبدى قابيل رغبته في قتل هابيل فرد عليه هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين.. ثم أردف قائلاً: لئن بسط إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالم.. إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.. ثم شهدت مسيرة الأنبياء والرسل الكثير من المناظرات والحجاج والجدال وأبرز ذلك مناظرة سيدنا إبراهيم الخليل مع النمرود ذلك الطاغية الجاهل عاطل الموهبة والحجة والمُفعم بالغرور والعنجهية لدرجة أنه زعم أنه يحي ويُميت ولكن إبراهيم النبي الملهم وضعه في أمام الامتحان الصعب: ( إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؟؟ فبُهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).. لقد كان العلماء والأنبياء يراهنون على وعي الجماهير ومخاطبة عقولهم وضمائرهم وكل ما يطلبونه من الطواغيت أن يخلوا بينهم وبين الناس.. لأن الإنسان السوي ذو البصيرة النيرة والحَدْس السليم يميز بين الحق والباطل ويهتدي إلي الصراط المستقيم.. لكن أهل الشوكة والسلطان كانوا يحولون بين الدعاة وأهل الفكر والاستنارة وبين الجماهير.. وقد ظلت هذه السمة تصاحب الناس في كثير من المواقع حيث تشبه بعض المسئولين في مواقع عملهم بفرعون الذي قال لقومه ومن يقع تحت سلطانه السياسي والفكري: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).. فالفرعونية ظاهرة ربما تتضخم في الحكام وربما تتقزم تنزلاً في كل من يتربع في موقع يستطيع من خلاله أن يقول لأتباعه: ما أريكم إلا ما أرى.. فالرأيَُّ ما قلتُ والحجةُ ما ذكرتُ ولا مُعَقِّب على قولي وحديثي ولا ينبغي لأحد أن تحدثه نفسه بذلك!! وهؤلاء عن علم أو جهل قد تقلدوا ليس دور الرسل والأنبياء بل صفات الله والعياذ بالله!! لأن الله وحده هو الذي لا مُعَقِّب على قوله و أمره.. ولا يُسأل عما يفعل.. وإليه يرجع الأمر من قبل ومن بعد.. أما البشر بما فيهم الأنبياء الذين نقتدي بهم كانوا يتقبلون الرأي الآخر ويسعون لسماعه بل إن الحبيب المصطفى صلى الله علليه وسلم قد وصل إلي الدعوة للمباهلة مع خصومه.. (قل تعالوْا ندعوا آباءنا وآباءكم.... ثم نبتهل..) وعلى ذات الدرب درب الحجة والمناظرة والمجادلة سار سلفنا الصالح فهذا هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب يرسل ابن عمه عبد الله بن عباس ليناظر الخوارج في النهراوين فيجادلهم ابن عباس حتى استطاع أن يقنع منهم الآلاف ويرجعهم لمعسكر أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه.. وقد شهد العهد العباسي والعهد الأموي الكثير من المجادلات والمناظرات بين فِرق المعتزلة والحنابلة والأشاعرة والمرجئة والقدرية فكان غيلان الدمشقي والجهم بن صفوان والجعد بن درهم من أهل الباطل وكان في الجانب الآخر الإمام أبوحنيفة النعمان بن ثابت والإمام أبو الحسن الأشعري ومن المعتزلة كان أبوعلي الجبائي والنظـَّام وعمرو بن عبيد والجاحظ وقبلهم كان شيخ الطريقة واصل بن عطاء.. وقد حدثنا التاريخ عن حوارات أقرب إلي المناظرة دارت بين أبو حنيفة والإمام جعفر الصادق وأخرى دارت بين الإمام جعفر وتلاميذه وكذلك بين الإمام زيد وتلاميذه..حيث كانت تقدم الحجة بالحجة والكل يبحث عن الحقيقة ولا يضيق العلماء بالرأي المخالف والمعارض لعلمهم إنما يضيق بالرأي الآخر سليب الحجة عاطل الفكر ضحل المعرفة..فالبعض كان يناظر في قضايا من صميم العقيدة ربما تخرجه من الملة الإسلامية لكن يتصدى له العلماء والمفكرون فيردونه رداً جميلاً لحظيرة الإسلام حيث تسعد به الجماعة ولا تشقى.
قلت هذه المقدمة لأنني أوقن أننا كأمة إسلامية نحتاج إلي فتح منابر للحوار الهادي الذي ربما يهز الكثير من المسلمات التراثية ويعيد فحصها وفق منظومة الأصل والعصر ويخرجها من كهف التقاليد ومقبرة الموروثات وأنا أتمنى أن تنال صحيفة ( آخر لحظة) قصب السبق في هذا المجال
وأن تضحى منتدىً فكرياً نطرح عبره الكثير من الآراء والأفكار التي ربما تحتاج إلي تجديد ومواكبة كما نرسل عبر هذا المنبر والمنتدى الكثير من الأفكار إلي متحف التراث الإنساني والإسلامي.. فالتاريخ الإسلامي به الكثير الذي يحتاج إلي المراجعات والتصويبات وكتب التفسير تحتاج إلي آراء تواكب الإعجاز العلمي الذي لم يكن متيسراً إثباته في عصر الطبري والقرطبي وابن كثير
وكذلك هناك الكثير من الروايات التي تحتاج إلي إعادة فحص وتصويب.. كل ذلك يحتاج إلي علماء وليس نـَقـَلة للتراث من غير فحص ولا تدبر.. فالقرآن فيه الآيات المحكمات التي لا تتغير إلي قيام الساعة وفيه المتشابه الذي يحفظ الأصل ويواكب العصر لكل مرحلة بدء من القرن السابع الهجري وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها وهنا يكمن الإعجاز بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان.. فأين العلماء الصالحون لكل زمان ومكان؟؟. (نواصل بإذن الله ومشيئته).
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة