الهامش و المركز و التحول الديمقرطي
ليست أشك ابدا في ان هاجس "الخوف" و"امر الردع" هما المسوغان لازمة جبال النوبة و بقية مناطق الهامش. الخوف من ماذا؟ الخوف من تعاظم قوي الهامش السياسية ذو ايديولوجية جامعة لجميع اهل السودان، انها ايديولوجية القوي الكادحة و العاملة التي همشها المركز لعقود طويلة, انها ايديولوجية كامنة معادية لايديولوجية التهميش و الاقصاء و احتكار السلطة و انتهاك حقوق الانسان وسلب حرية الاعتقاد و نكران حق الاعراق المختلفة في ممارسة الحكم، اي هي ضد ايديولوجية الاسلام السياسي و العرقي اللتيان يضعا اصحاب الاديان المغايره للاسلام و الاعراق الغير عربية في السودان خارج دائرة حق المواطنة الكاملة. الخوف من قدرة الهامش علي احتياز الحكم في المركز و الولايات، و اقامة نظام ديمقرطي تعددي يكفل حقوق المواطنة و يراعي حقوق الانسان و يأسس لاستقلال القضاء و يسمح بحرية التنظيم و التعبير و يفك قيود الاعلام ليجعله حرا. الخوف من نشر ثقافة السلام و التعايش السلمي و التسامح الديني و جعل السلطة تتداول سلميا عبر انتخابات حرة و نزيهه. الخوف من تزود ابناء الهامش بعلوم كشف فساد الحكم وسوء ادارة الدولة السودانية و التي من شانها ان تشكل خطرا حقيقيا علي حاضر المركز و مستقبله. الخوف من ايصال حقيقة الفساد و سوء الادارة
الي الشعوب و الجماهير المناضلة و الصابرة علي ممارسات المركز الظالمة لهم. الخوف ان يكتسب هذا الوضع خطورة اعظم اذا ما نجم في فضاء بشري و جغرافي واسع يحمل طافات ديموغرافية و طبيعية و اقتصادية هائلة كما في الهامش السوداني.
بالطبع هناك هواجس الكرامة و الهيبة السياسية و اعادة تعزيز " تقدير الذات" لدى قوة المركز، فضلآ عن اعتبارات الثأر و الانتقام و غير ذالك، ولكن الاصل هو الخوف الاستراتيجي. و هذا الخوف يبعث في قوى المركز " الممثلة في المؤتمر الوطني " شعور ان يرد ردا ردعيا قويا كما هو الان في حرب دارفور و تمسكه بالنظام الشمولي و عدم احترامه و تقيده بالدستور و تلاعبه بالقوانيين و عدم التزامه بالتحول الديمقراطي السليم حسب ما نصت عليه نيفاشا و الاتفاقيات الاخري. و كذالك بعث هذا الخوف في المؤتمر الوطني روح ملاحقة جميع "البؤر" المحلية و الاقليمية و الدولية التي يمكن ان توجد فيها او تتشكل فيها قوى معادية لايديولوجيتها تمثل علي المدي القريب او البعيد خطرا حقيقيا علي احتكار السلطة.
لقد بات واضحا منذ عدة عقود ان الهامش السوداني لا يخلو من هذه " البؤر" المعادية لايديولوجية الجبهة القومية الاسلامية، وذالك في صورة حركات ثورية
تنضال من اجل رد الحقوق المسلوبة التي تجعل اقامة دولة السودان الجديد غاية قصوي و قصدا اول لها وتصرح بان القومية المكانية هي المنفذ الامن و بان التنوع الذي يعيشه السودان دينا و شعوبا و ثقافة هو " البديل الحتمي"، لاحدية الثقافة و الدين و العرق، و دعامة للانظمة السياسية و الاجتماعية المحلية القائمة في بلاد السودان من جهة و لحضارة الاسلام و قيمها من جهة اخرى. و تساوي فرص عرض الثقافات و اشاعة العدل و المساواة في الدولة هو الطريق الوحيد لاتقاذ السودان والسودانيين من الحروب الاهلية و عدم الاستقرار السياسي و تختار من اجل انفاذ هذه الغاية نهج السلم و التداول السلمي في نظام ديمقراطي حر و نزيه.
يضرب المؤتمر الوطني مصلحة السودان العامة بالجدار و تري مصلحتها في حماية وجوده السلطوي و ضمان مصالحة و الحفاظ علي هيمنته علي الدولة السودانية فبال اي مصدرمن مصادر التحول الديمقراطي. و غاياته تحقيق السيطرة الكاملة علي جميع الاوجهه، لذا تفعل هواجس الخوف و فقدان الثقة و الحذر و الريبة و الخطر دور حاسما في توجية فعل المؤتمر الوطني. فان مصلحة السودان في الحرية و العدالة و الديمقراطية الاجتماعية و الخير العام و المواطنة و العقلانية و غيرها لا يمكن الا ان يكون مطالب اساسية للفرد و المجتمع السوداني و العالمي اجمع، و من اجل انفاذها يتعين ان تتضافر جملة القوي الثقافية و الاجتماعية و السياسية و تعمل علي اشاعتها و تجذيريها في المجتمع و مؤسساته لتصبح " صورة" لمجتمع السودان و العالم اجمع.
و يتعلق في مجمل المسألة السودانية تحرير " روح الجبهه القومية الاسلامية و علي راسها المؤتمر الوطني" في مستوياتها المتباينة من عقدة " الخوف" و التمسك بالقيم الانسانية العليا، و ليس ثمة ما يمنع من الجمع بين اعتقاد ديني مستنير و بين القيم المدنية العليا التي تضعها الحداثة و الديمقراطية عنوان لهما: الحرية و العدالة و المساواة ...الخ. و هنا الاختلاف في الفهم حق مشروع، و لكن الخوف من هذه القيم ليس مشروعا، و لا يجوز ان يزعم احد ان الاسلام يخاف من الحداثة و الديمقراطية. فدواعي الخوف ادي بالمؤتمر الوطني تحويل السلطة السياسية و الدولة ألي أداة مضادة للشعوب السودانية والي وسيلة لقمع حرياته و كبح مطامحه و ادي الي تنكره لكل ما يصلح المصلحة الوطنية العامة، كالديمقرطية رغم زعمه بانه ديمقراطي كما نسبت النازية و الفاشية نفسها الي الديمقراطية و التي يعني اساسا شكلا من الحكم الذي يستند الي حكم الشعب، وذالك خلافا لاشكال اخري مضادة تخص بالحكم قوي او افرادا او جماعات ذات طبيعة اطلاقية او استبدادية تغيب فيها المساواة السياسية كما تفعل سلطة المؤتمر الوطني الضاربة بعرض الحائط كل ما يعني الديمقراطية و التي تعني نمطا من " السلطة الشعبية" تنخرط فيه المواطنون في حكم انفسهم و ادارة شؤونهم، و تكون وسيلة تعين علي اتخاذ القرارات من جانب اولئك الذين يتم انتخابهم لتمثيل الشعب، و مبدأ العدل يتقدم علي غيره من بين جميع المبادئ التي تؤسس صلاح الدنيا و المقصود العدل السياسي اي رفع الظلم. لكن العدل يتجاوز المجال السياسي الي المجال القانوني او الشرعي ايضا اذ هو يعني تادية الامانات الي اهلها مثلما يعني ايضا " التوسط" في الامور و عدم الخروج "من حال العدل الي ما ليس بعدل من حالتي الزيادة و النقصان. ومع ذالك فان العدل السياسي – بمعني رفع الظلم و "حراسة الرعية" باقامة التناصف بينهم و تحقيق مصالحهم – يظل هو الاصل الذي يفضي الي العمران الشامل.
في واقع الامر فلا احد يجهل و لا احد ينكر ان النظم السياسية التي سادت المماليك الاسلامية عبر العصور المختلفة و منذ تحولت الخلافة الي " ملك" لم تكن نظما ذات شبة قريب او بعيد بالنظام الذي يطلق علية في العصور الحديثة اسم " النظام الديمقراطي". فتتقدم الديمقراطية كل المبادئ الاخري، و تقترن بمطلب "العقلانية" و تكون احد اعمدة " المجتمع المدني" المنشودة و مبدأ مقوما من مبادئه الاساسية. وفي هذه المرحلة تعني الديمقراطية جملة من المبادئ و المفاهيم و المواقف: الحرية، الانعتاق من التراث و الماضي و الافكار السابقة، العلمانية، المجتمع المدني، النسبية الاعتقادية، التعددية الثقافية و الفكرية، نقد قيم المجتمع، تاسيس النزعة الانسانية، التنوير، اعادة بناء العقل النقدي، بناء دولة المؤسسات القانونية و التنظمات الحرة و المواطنة الكريمة، نقد الاستبداد و النظم السياسية القهرية و القمعية. و نقد نظم الاستبداد السياسي يطرح سؤال: هل تسوغ عوارض التاريخ المضادة للديمقراطية التنصل من الديمقراطية – او وضعها بين قوسين ، الي حين – و الانحياز الي قبول النظام الدكتاتوري ذي الطبيعة الاستبدادية المناقضة كل التناقض للديمقرطية؟ تيارات الحركة الاسلامية السودانية في مقدمتها المؤتمر الوطني مناقضة للديمقراطية، معادية لها، خطرا عليها و علي القوي التي تهتدي بهدي التحول الديمقراطي، و يجب علي هذه القوي عدم قبول نظام المؤتمر الوطني الدكتاتوري. و من المؤكد ان سر جاذبية الديمقراطية يكمن في اخفاق النظام الاسلامي في السودان و يكمن في القيمة الذاتية لمقوماتها الخاصة و ليس في مجرد اخفاق النظم المضادة. و كل السودانيين امام الاختيار بين ان يخضع مكوناته و الدولة لحكم مطلق و بين ان يكون الحكم في يد الاكثرية التمثيلية او في يد من يختارهم المواطنون بحرية و طواعية لا سبيل و لا وجه للتردد. و الجميع امام دروب التحديث و التنمية و تحرير النفس من جملة اشكال العبودية و الاستبداد و مصادرة الذات.
و مما يترتب علي التحرر من عقدة الخوف من التحول الديمقراطي و الحداثة، في المقام الاول، طلب الديمقراطية مقدمة لغيرها من القيم الانسانية العليا. عدم حذر الجبهه القومية الاسلامية اوقعها في فخ تحويل دين الاسلام في السودان الي مجرد " حركة سياسية " متفردة تقارب الامور المحلية و الكونية مقاربة " سياسية" و تقدم الاسلام للناس بما هو " ايديولوجية سياسية " اولآ و قبل كل شئ. و تكثف محصل هذا التحويل في واقعتين خطيرتين: اولاهما تجريد دين الاسلام من ماهيته الاصلية و تعريته من سمة " القداسة الدينية" و ثانيهما معاملته محليا و كونيا بما هو " حركة سياسية" دنيوية فحسب يجري عليها ما جري علي الحرطات الايديولوجية الراديكالية في الغرب، حيث تم استئصالها او اقتلاعها او تدميرها.
بقلم:ع. كارجقل كنده كوكو
|