الدين بين الغيب و العلم
– بقلم / الاستاذ / نوري حمدون – الابيض – يناير 2011
1= الدين متعلق أساسا بالغيبيات . فلابد لكل دين أن يقدم تصورا للقوة المهيمنة على الكون التي كان الدافع لاكتشافها و التوجه اليها هو النظر في الطبيعة من حولنا . تلك الطبيعة التي لطالما تخوف الانسان منها و استغلقت عليه دهورا طويلة و لطالما أرعبته و هزمته و فتكت بابنائه في أكثر من معركة . كان لابد للدين أن يوضح كيفية التواصل مع تلك القوة المهيمنة ذلك التواصل الجالب للمنفعة و المتعة معا حيث أنها حتما ستعينه في مواجهة مخاوفه و ازالة آلامه . و أيضا على الدين توضيح بعض العناصر الغيبية التي لابد أنها متضمنة في النظام الغيبى بخلاف الغيب الكبير المتمثل في الخالق و المهيمن نفسه . و في حالة الاديان السماوية يمكننا أن نتحدث عن الله و الملائكة و الجن و الشياطين و الجنة و النار كعناصر غيبية تهيمن على حياة الانسان بمقدار أوآخر. أن الايمان في قلب المسلم أو المسيحي أو اليهودي له علاقة طردية مع الغيب . فكلما زاد الغيب زاد الايمان في قلب المؤمن به . فالايمان هو حالة الاعتقاد في قلب المؤمن بأمور غيبية في العالم من حولنا . و بالاضافة لما ذكرناه من جنة و ملائكة و نحو ذلك يتم أيضا الحاق أمور أخرى لتصير غيبية و ان بدرجة أقل . لقد صارت تلك الامور المضافة من الغيب بسبب على الاقل انها جزء من التاريخ غير المثبت و غير المدون .. انها أمور مثل الانبياء و الرسل و الكتب القديمة كافة و القصص المرتبطة بكل هؤلاء و اولئك . و حالما يتعمق الايمان بهذه الامور يتم الحديث عن أسس العلاقة بين الله من جانب وكافة الناس و كل الاشياء في الدنيا من جانب آخر حيث يقال أن هذه العلاقة تقوم على آلية القضاء و القدر و التي تعني أن الله هو الخالق الاول و الأخير ليس فقط للناس و الاشياء و لكن لأفعالهم و مآلاتهم بكل تفاصيلها الممكن تصورها و التي لا يمكن تصورها . مثل هذه المسائل الايمانية هي التي تكون ما نسميه في الاسلام – على الاقل - العقائد . انها مسائل بطبيعتها لا تخضع للمنطق البشري المعروف و لا يمكن التعرف عليها عبر آلية المنهج العلمي كما هو معمول به اليوم . انها معطيات لا تتجزأ و لا تتبعض فاما أن تؤخذ جملة أو تترك جملة . و بالرغم من أن الايمان بهذه المعطيات الغيبية يأتي قويا و متينا , الا أن الايمان بها لم يتولد لسبب فيها هي ذاتها و انما لأمر أخر يقف في مكان آخر بعيدا عنها . فغالبا ما يؤمن المؤمن بهذه الغيبيات بسبب أنه عرف بعقله و أدرك بالمنطق البشري المعروف أن الذي نقل اليهم هذه الايمانيات هو نفسه تدركه العقول و بالفعل أدركته وجدته صحيحا و معقولا و فائق الجودة . فمثلا في الاسلام يتم الايمان بالغيب بعد أن عرف الناس التاريخ الناصع و الفائق الجودة لصاحب الرسالة و أصحابه عبر ما نقله لنا التاريخ الموثق . و كما ذكرنا فالعقائد توضح ضمن ما توضح العلاقة بين الله و المؤمنين ضمن ما يسمى في كل الاديان عادة بالعبادات . فالدين لا يكون دينا اذا خلا من برنامج أو مخطط لعبادة الغيب . ان تجويد العبادة يؤدي رويدا رويدا الى زوال الحجب ما بين المؤمن و الغيبيات حتى تتجلى له في آخر الامر كل الغيبيات على حقيقتها و يتم التعرف عليها كما يتعرف الواحد على يده بل و يتم التوحد معها تماما مثلما نتوحد في الدنيا مع الطبيعة على نحو ما يظهر من تنفسنا لهوائها و شربنا لمائها و اكلنا لطعامها مثلا . فنحن في كل ذلك انما نعيش في الطبيعة , نتنفسها , نشربها و نأكلها و نحيا فيها و لها و عليها . و الصوفية أكثر الذين استغرقوا في التركيز على معرفة الغيبيات حتى صرح كثير منهم بأنه قد أدركها و قال بأنه قد وصل . و في تلك اللحظة صاح أحدهم ( ما في الجبة الا الله ) . و انه حقا لامر مثير ان نعرف كم قطعنا من مسافات للوصول الى الله لندرك في النهاية أنه فينا و معنا كل الوقت . و لكن المشكلة أن التجربة الصوفية تظل على الدوام هي الاخرى غائبة عن آليات الادراك الطبيعي للانسان . فما من صوفي وصل استطاع أن يصف لنا تفاصيل ما رآه أو حتى خطة الوصول لما وصل اليه . ما يتم في الغالب هو الحديث بعبارات شديدة العمومية و الغموض . و لكأن الغيب مكتوب عليه أن يكون غيبا حتى بعد أن يدركه البعض او ربما الكل أيضا . و على العموم فان العقائد و العبادات المرتبطة بالغيب كما أوضحنا هى المكون الرئيس للدين . بل اننا نستطيع أن نقول بعد ملاحظة التجربة الدينية التي عرفتها البشرية حتى اليوم أن الدين ليس الا الايمان بذلك الغيب المرتبط ببداية الكون و أصل الحياة . الا أن التجربة الدينية المعروفة لدينا لا تحصر الدين في هذا الاطار .. اطار الغيب . انها تربطه بعد ذلك بالحياة العاقلة و بالناس و الحياة من حولنا . و حيث انه لا بد من هدف لهذا الربط ما بين الغيب و الحياة فاننا لابد أن نحدد ما هو هذا الهدف . و في هذا الاتجاه تصادفنا حقيقة أن المؤمنين ليسوا دائما وقوفا فوق البسيطة شاخصين انظارهم الى السماء .. حيث الغيب . انهم في كثير من الاحيان يحيون كما يحيا الآخرون .. يسعون في الارض .. يعمرونها .. يتعاملون مع الناس .. يخطئون حينا و .. يصيبون حينا آخر . و هم في كثير من الاحيان قادرين على تمييز أنفسهم عن غير المؤمنين و ربما أحيانا لهم تأثير ايجابي لصالح الحياة في الارض في اولئك الناس . يفعلون ذلك عن وعي و عن قصد . بل انهم يصرحون بأن الغيب هو الذي يمكنهم من العيش بطريقة أفضل . فهل فعلا للغيب دخل بالحياة الفاضلة ؟ ان المتامل في سلوك المؤمنين يجد انهم يلتزمون بقواعد و ضوابط معينة تم استقاؤها من نفس الطرف الذي علمهم التواصل مع الغيب . ذلك الطرف الذي غالبا ما يكون النبي أو الرسول . فهو الذي يطلب منهم الجدية و الشدة في الالتزام بتلك الضوابط و يربط حديثه بالغيب حينما يقول أن الله يراك .. و الملائكة تراقبك .. و الشياطين تتربص بك ان تخاذلت .. و النار مثواك ان رفضت .. و الجنة مأواك ان نجحت في التقيد بتلك الضوابط و الموجهات و التعاليم التي نعرف أنها تصير القانون الصارم الذي سيصبح هو المحدد للسلوك الصحيح و السلوك الخطأ . ان هذا القانون يتكون من جملة الموجهات التي تضبط السلوك و التي يسميها المؤمنون في الاسلام ( الشريعة ) . و رغم تعدد الافعال البشرية التي يمكن أن يأتيها البشر و تعدد أنواع السلوك المنبثقة من تلك الافعال الا أننا نستطيع أن نتحدث عن موجهات و قوانين و تشريعات معينة تركز عليها الاديان عادة .. كل الاديان . فالاسلام مثلا يطلب من المؤمن به أن لا يسرق و لا يزني و لا يقتل و لا يغش و لا يظلم . و نفس هذه المطلوبات وردت في باقي الاديان السماوية وأيضا بعض ما وصل الينا من الاديان الاخرى . و في هذا يقول الاسلام أنه جاء بالحنيفية السمحة .. دين ابراهيم . بل انها نفس الوصفة لاديان مثل البوذية و الهندوسية و الكونفوشية و غيرها . كما انها نفس تعاليم الديانات الافريقية و مثيلاتها في سهول أميريكا و في مسطحات استراليا تلك الجزيرة النائية المعزولة . ان هذه التعاليم هي المرادف للقيم الفاضلة التي يتوق الانسان لتثبيتها في نفسه و في مجتمعه و التي بها تصبح الحياة ممكنة و ممتعة و ذات معنى . ان لا تسرق تعني الامان , و لا تزني تعني العفة , لا تقتل تعني الحماية , و لا تغش تعني الصدق , و لا تظلم تعني العدالة . السنا فعلا أمام معادلة تساوي قيم الحياة الفاضلة ؟ اذن , فالدين له أقدام تمشي بين الناس و الاشياء على الارض . ان التحليق في السماء و طلب التواصل معها يتم من أجل الاستعانة بالغيب من أجل الحياة و للحياة . و لكن ما الذي يفعله الغيب بالضبط في سعي المؤمن فوق الارض .. ذلك الغيب الذي يغلق نفسه على سره كلما اقترب المؤمن من استاره ؟ لا ندري كيف سيتصرف الانسان اذا هتك استار الغيب تلك . و لكننا بالتأكيد أصبحنا ندرك الآن أن الغيب في الدين هو الآلية التي تضبط المؤمن و تدفع به نحو الالتزام بالسلوك المتوافق مع القيم التي ذكرناها . ألم نقل أن الدين يقول أن الله يراك .. و الملائكة تراقبك .. و الشياطين تتربص بك ان تخاذلت .. و النار مثواك ان رفضت .. و الجنة مأواك ان نجحت في التقيد بتلك الضوابط و الموجهات و التعاليم التي نعرف أنها القانون الصارم الذي سيصبح هو المحدد للسلوك الصحيح و السلوك الخطأ . الدين اذن يستثمر الغيب لضبط السلوك . و أعتقد أنه قد نجح في ذلك في أكثر من تجربة . و أن هناك قصص نجاح تروى لمثل هذا النوع من الاستثمار و ذلك النوع من الضبط . و أعتقد أن الغيب كضابط للسلوك كان اختيارا موفقا لأنه ببساطة ارتبط بطبيعة الحياه في الزمن المعين و بأهل ذلك الزمان . لعل البشر كانوا في فترة ما من تاريخ البشرية الطويل على ظهر الكرة الارضية أكثر وحشية و حيوانية مما هم عليه اليوم . ان كل دين ما كان له أن يظهر الا في الفترة التي ظهر فيها . و اذا كانت طبيعة الحياة هي التي تدفع باستمرار لاستثمار الغيب لصالح اصلاح السلوك و الحياة نفسها فيمكننا القول أن طبيعة الحياة تلك هي التي أوجدت الدين عندما وجد لأول مرة و في كل الفترات اللاحقة التي كان يظهر فيها . و يمكننا القول أن الاديان ليست بالتأكيد هي بالعدد المعروف لدينا الآن فقط و أن الانبياء كذلك هم أكثر عددا بكثير مما نتصور اذا وضعنا في اعتبارنا تاريخ ظهور الانسان العاقل علي ظهر الكوكب قبل عشرات الآلاف من السنين . لكن الملاحظ أو الدارس للاديان التي نجد أن العلاقة فيها بين الايمان و الغيب علاقة طردية , يجد أن العلاقة بين الغيبيات و المعاملات من ناحية أخرى هي علاقة عكسية كانت تسير باستمرار باتجاه التوسع في المعاملات و التقلص في الغيب . ان آخر الاديان السماوية الموجودة بيننا اليوم – الاسلام – يكاد لا يذكر شيئا عن الغيب اذا قارناه بالدين الثالث – اليهودية – الذي يكاد لا يذكر شيئا عن قواعد المعاملات عند مقارنته بالاسلام . و من ناحية أخرى فان معاناة الاديان في التمدد الطبيعي و التلقائي وسط الناس قد ازدادت اليوم أكثر من أي وقت آخر . كما أن معاناة المتدين نفسه تصبح من الضخامة و الثقل بحيث ينوء بها و يكاد يسقطها . و هذا بالضبط ما رآه رسول الاسلام حينما قال أنه سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر . بل ان انحسار التدين وسط الناس يسير جنبا الى جنب مع انحسار الجليد الذي بدأ يذوب بسبب ارتفاع درجات الحرارة في القطبين . فهل للعلم علاقة ما بهذا الامر ؟ و هل نستطيع أن نقول أن هناك علاقة أخري ايضا بين الغيب , المكون الاساسي للدين , و بين العلم ؟ فمما لا شك فيه أن تغلغل العلم في مفاصل الحياة اليوم لأمر لم يسبق له مثيل في اي وقت آخر مضى . هل يتراجع الغيب الآن لأن العلم أوضح أنه قادر على تفسير المظاهر المختلفة للحياة و ازالة الغموض الذي كان يلفها ؟ اليس العلم هو مثلا الذي يتصدى لهجوم الامراض بما يقدمه ليس فقط من تفسير و انما من علاج و حماية ؟ اليس العلم هو الذي يتصدى لمواجهة غضب الطبيعة المتمثل في الرياح و الامطار و الزلازل و البراكين .. بل و يتنبأ بسلوكها ؟ ألم تكن الامراض و غضب الطبيعة الغازا جعلت الناس يلجؤون للدين للتفسير عبر الكهنة و رجال الدين و الى الانبياء و الكتب السماوية و الى تقديم النذور و القرابين و الى الصلاة و الدعاء ؟ و مرة أخرى نتساءل : هل يتراجع الغيب أمام التمدد الهائل للعلم و التغلغل اللا محدود له في مفاصل الحياة ؟ هل أدى ارتفاع درجة حرارة العلم الى اذابة جليد الكتل الغيبية في كافة الاقطاب الدينية ؟ لقد ذكرنا سابقا ان احدى أغراض الغيب أنه آلية شديدة المنفعة في ضبط السلوك باتجاه القيم الفاضلة . فاذا سلمنا جدلا بأن الغيب بدأ ينحسر .. فما الذي يضبط لنا السلوك في عالم صار فيه للشر و للرزيلة أذرعا و أقداما بالامكان أن يمشيا بها ليس فقط بين الناس و أنما فوق رؤوسهم أيضا ؟ و اذا كان لابد من الغيب ضابطا للسلوك فماذا نفعل بالعلم الذي بدأ لتوه يهتك تلك الأستار الكثيفة للغيب ؟
الدين بين الغيب و العلم – بقلم / الاستاذ / نوري حمدون - الابيض
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة