يا أسفا
هل أسعد بانفصال الجنوب؟ كلا والله، بل أقول: يا أسفا.
أرض مكن الله فيها أهل الإسلام بلا نكير من أحد ولا نزاع من بلد.. وظلت أرضَ دولةٍ إسلامية سنين عدداً.. استعرت فيها الحركات المسلحة بعد توجه حكومة نميري نحو الإسلام وحكمه (تأمّل)، ثم أعلنت الإنقاذ الجهاد لإصلاح ما أفسده ضعف النظام الديمقراطي الذي سبقها، وعملت على إشاعة العدل وإزالة الغبن، فاستجاب شباب الإسلام زرافات ووحداناً، وسكبوا الدماء في سبيل الله زكية، لكن الإنقاذ فشلت لاستعجالها، فهي لم تمتثل أمر ربها (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، ونسيت توجيه نبيها صلى الله عيه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) .أخرجه أبو داوود وغيره؛ وأصابها الوهن الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم بل انتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : حب الدنيا وكراهية الموت). رواه أحمد وأبو داود وأبو نعيم في الحلية.
أسلموها بحبر يسير سكبوه على أوراق ودفاتر، وغفلة لا تكاد تصدق من غرابتها، واضطروا الناس إلى رأيهم اضطراراً، وزينوا لهم سوء عملهم حتى بدا لكثير منهم حسناً.. أعطوا عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، تسوقهم الآمال والمطامع الدنيوية، وتدفعهم ظنونهم وأوهامهم حول ذكائهم ودهائهم.. فرطوا في الأمانة، وتعدوا على حق الأمة الإسلامية في الأرض، وباعوها ببقائهم في الحكم سنين؛ فصار استرجاعها يكاد يكون ضرباً من المستحيلات.. رضوا بالدنية، ولم يضمنوا سلاماً بل إرهاصات الحرب باقية، ولم يحققوا كسباً مادياً فخسارتهم لما تم بناؤه وتحقيقه من عرق الكادحين وجوع الصابرين بادية؛ أجازوا التنصير في الشمال بدعاوى واهية نسوها رجاء تمكين الدين في الجنوب فتنازلوا عنه –الجنوب- بالكلية.. أجهدوا أنفسهم في بناء قوة عسكرية غاشمة ثم لم (ولن) يستعملوها (لأي شيء يستعملونها؟؟) .
لم يصبروا على الجهاد فأنكروه، ونزعوا إلى السلام مطأطئين فأذعنوا إلى أغرب الشروط كأنهم لم ينظروا في فحوى الاتفاقية ولم يفهموه.. لم يستشيروا أهل العلم بل أعلموهم بعد أن عزم الأمر، وأجمعوا في أنفسهم على أن من ساقها إليهم أوتي شطر الذكاء والدهاء والحكمة والمكر، ليس لهم فيما صنعوا سلطان أتاهم إلاّ كبر في نفوسهم ما هم ببالغيه.. استحمروا الجميع سوقاً أو أمراً أو تجاوزاً.. فأتاهم المكر من حيث لم يحتسبوا، وفوت عليهم آمالهم من ظنوا أنهم قد ضمنوا، وأظهر الله فيهم آياته حيث إلى الدنيا وزينتها وأوهامها وأسبابها المادية ركنوا، وعن وعده وعهده تخلوا.. ألم يعدهم ربهم: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً)، ألم يأمرهم بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)؟.. تحقق فيهم ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم،
أخرجه البخاري، وفي رواية عند مسلم :وتلهيكم كما ألهتهم.
أغرب ما يفعله بعضهم بعد هذه الخسارة الفادحة اصطناع المبررات الواهية، وصياغة المزيد من الأوهام الزاهية، والتبشير بخيرٍ كثيرٍ بادعاء التخفف من عبء ثقيل؛ والحقيقة أن الجنوب لم يكن أكثر عبئاً من ترهل مؤسسات الدولة وفساد أركانها، ولم يحقق انفصاله سلماً دائماً بل أشاع المطامع في بقية أرجائها، ولن يتحقق من فقده ما زعموا من انتعاش اقتصادها ولا رفاهية مواطنيها .. وكان الأولى: الندم على ما فات، والرجوع إلى الحق ولزوم أحكامه (الثقة في وعد الله وحكمه)، والعزم على عدم العود إلى الترفع والاستعلاء على خلقه والتغاضي عن عهده، والتخلي عن الدنيا وزخرفها ومظاهرها ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
أعذروني إذا تجاوزت حدود اللباقة والدبلوماسية والأدب، فغصة في الحلق باقية لا ترضى مزاولة مكانها، ومرارة في اللسان ثاوية استفحل شأنها، والقلب يزرف الدمع حزناً والكبد ينتحب.. فهاهي من جديد طامة فقد الأندلس تتجدد، فأرض الإسلام وقاعدة انطلاقه في إفريقيا، والصلة بين أمة الإسلام في شمالها وجنوبها قد فقدت، و(بجرة قلم).
أقل ما يمكن أن يقال في مثل هذا – وهو غير كاف- : يا أسفا.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة