ثم ماذا بعد هذا ؟ التغيير ام عود على بدء!
لعلَ نهاية العام 2010م وما بعده شهدت موجةً حراكٍ سياسى فى معظم الدول العربية نتيجةً لسنواتٍِ من الكبتِ والظلمِ والتهميش, اضافة للظروف الاقتصادية الطاحنة والتى نتجت عن افرازات ما يسمى بالازمة المالية العالمية التى القت بظلالٍ قاتمة على المنطقة العربية والعالم بأثره, انطلقت شرارة الاحتجاجات الشعبية الضخمة والتى لم تشهد المنطقة لها مثيلاً من قبل , اودت بذهاب نظام الدكتاتور التونسى زين العابدين بن على , انطلقت تلك الشرارة عندما اقدم الشاب الجامعى الى احراق نفسه امام احدى البلديات احتجاجاً على ممارسات سلطات تلك البلدية تجاهه والشباب على صفة العموم اشتعلت بعدها تونس وصارت تحت الحمم الثائرة ولم تخمد نيرانها الا بعد فرارا الرئيس خارج البلاد.
(سلاح الاحراق الذاتى ) الذى استخدمه الشاب التونسى بوعزيزى كان سريع المفعول قوى التأثير بحيث احرق معه ايضا الهة الزيف السلطوى و قيد المارد الطليق واعاده الى قمقمه وانهى بذلك 23 عاما من القهر والذل والتسلط, وذهب النظام الذى اذاق الشعب التونسى مر العذاب فكان ميلاد عهد مازالت طبول افراحه تدق كل حين , وامتدت شرارة تلك الحرائق وبلغت السنه لهيبها العديد من الدول العربية ( الجزائر, مصر , موريتانيا و الاردن ) وانتشر السلاح البوعزيزى فى هذه الدول بحيث اصبح احد اسلحة دك العروش واسقاط الحكومات , خاصة وان استخدام تلك الاسلحة لم تكن من اجل اهداف ارهابية خسيسة بل لمطالب مشروعة مثل التشغيل, كفالة حياة كريمة, احترام الحقوق الاساسية وغيرها من المطالب اعترف بها معظم الملوك والرؤساء واصبحوا يربتون على اكتاف الشباب من اجل التهدئة والوعود القاطعة من عدد من الحكومات العربية بل الشروع فى معالجة بعض اسباب تلك المشكلات التى اضطرت الشباب الى اللجوء الى هذه الاسلحة الفتاكة مولدة الثورات والاعتصامات.
الاكتشاف الجديد والمذهل التى اوجدها الشهيد التونسى بوعزيزى بتفجيره لبراكين الغضب الخامدة لدى الشعوب العربية اظهرت بجلاء مدى ضعف ووهن هؤلاء الزعماء الذين تخندقوا باجهزة قمعية سادية لا تملك ذرة من الوطنية بل استخدمت ادوات الترميش التضليلى ومصطلحات العواطف الجياشة لاخفاء حقائقهم المريرة ووجوههم الكالحة واستمالت قلوب وعقول المواطنين ردحا من الزمان سرقوا خلالها امانى واحلام شعوبهم وجعلوا اعزة اهلها اذلة وساموهم سوء العذاب بالتنكيل والترهيب وتسكينهم بادعاء ان العدو هو وراء ما هم فيه من اواضاع استثنائية , ولكن اتضح مؤخرا زيف كل تلك الدعاوى التى اسس على غرارها الزعماء والسلاطين والملوك واستمدوا منها قوتهم وجبروتهم , اثبت ذلك السلاح كرتونية نمورهم , والخدع الايحائية والتنويم المغناطيسى التى مارسوها على شعوبهم طيلة عقود من الزمان فها هى الشعوب يتقدمها الشباب تنتفض وتفك قيودها وتدوى صوتها عاليا لتعيد للامة سيرتها الاولى بعيدا عن الهزائم والذل والانكسار
ان انظمة القهر والتعذيب والتسلط المنتشرة فى بلداننا ما هى الا نتيجة لثقافة متوارثة جيلا بعد جيل, وان معظم هذه الانظمة تستمد مشروعيتها من ثقافتنا و تاريخنا الملىء بالكثير من الاخطاء البنيوية والتى لا تتماشى مع عصرنا الحالى , حيث ورث مجتمعنا الاسلامى الشرق اوسطى مفاهيم وثقافات نبعت من قلب الجزيرة العربية وهى ثقافة ربما وجدت طريقها الى الدين بحسب العلاقة بين الاسلام والعرب , ونجد ان اسباب القمع والتنكيل بمن يخالف فى الرأى فى الدولة الاموية ابتداءا من الخليفة الخامس معاوية بن سفيان, ومقتل حفيد رسول الله الحسين بن على رضى الله عنهم فى كربلاء بيد يزيد بن معاوية رسخت مفهوم القمع والتعذيب والتنكيل بمخالف السلطة كابشع مثال , فاصبحت هذه الادوات مشروعة للسلطان ووجد من الائمة والفقهاء ما يفتون له بجواز ذلك بتأوييل ايات القران الكريم بحيث اصبح للقمع والقهر مشروعيته الدينية
ولا ننسى فى الاثر ايضا الحجاج بن يوسف ومروان بن الحكم وغيرهم من الاشخاص الذين لو عاشوا فى هذا العصر لاتهموا بجرائم ابادة جماعية وجرائم ضد الانسانية وللاسف الشديد هذه القوانين لم تجىء من مسلمين, لافتقار ثقافتهم لهذه المبادىء, وان كانت هناك من الايات القراّنية التى كرمت الانسان , فكان بالضرورة تفعيلها كاحد المبادىء والاسس المتعارف عليها فى مجتعمنا العربى الاسلامى ,وذلك معظم لان الفقهاء والمشرعيين كان اكثرهم فقهاء سلطة وسلطان يهمهم الايات التى تفرض سلطته واستبداده المطلق , بل جاءت من دول لا تعتنق الاسلام , فماضينا العربى الاسلامى ترك من الاثر مثل ( مقاتل الطالبيين) لابى فرج الاصفهانى , و(المتواريين الذين اختفوا خوفا من الحجاج بن يوسف ) للحافظ بن عبدالرحمن اليزدى , و(كتاب المحن ) لابى يعرب بن محمد بن احمد التميمى , و(الفرج بعد الشدة ) للتنوخى , و(انس المسجون وراحة المحزون) لصفى الدين ابن فتح بن عيسى البحترى وحديثا ما كتبه هادى العلوى ( التعذيب فى الاسلام ) وغيرها من امهات الكتب مثل موسوعة العذاب باجزائها السبعة , وكلها كتابات تصف ابشع التعذيب المادى والذى ناله المختلفين فى الرأى مع السلطات الاستبدادية والسياسية والاجتماعية والدينية والفكرية, وكلها سلطات متعاونة متازرة تتبادل خطاباتها الخصائص والاساليب والتقنيات , ولا تخلو من الثوابت المتكررة من ملفوظات العنف وتراكيبه اللغوية.
يمكن ان يفضى تأمل ثوابت خطابات العنف الى ابراز الخصائص التكوينية الاكثر دلالة فى هذه الخطابات , خصوصا من حيث تمثيلها لطبائع الاستبداد و اقترانها بالاصولية الفكرية فى كل مجال تتجلى فيها, والاستبداد قرين هذه المجالات فى دائرتين اساسيتين, دينية ومدنية, تعكس العلاقة بينهما انواعا من الصراع , فلاستبداد الدينى يقترن فيها الخطاب بالممارسات المرتبطة بالتخويف والارهاب, المرتبطة بالجحيم وعذاب الدنيا والاخرة فى العلاقة بالمخالفين , مقابل مفردات الاغواء والتخييل فى خطاب الاتباع, الذين تكتمل غوايتهم بالمخايلات, التى تشير الى نعيم الدنيا والاخرة, وشيئا فشيئا فى تصاعد الممارسة, ينتقل العنف من مفردات الدعوة اللغوية الى معطيات الواقع الفعلى, تداعيات عمليات الاستئصال القمعى, والتى تبدأ بالمفكريين والمثقفيين المختلفين, او المبدعين الذين يمارسون حرية الابداع , بوصفها حرية تتمرد على نواهى الاصولية وقيودها.
ام الدائرة الثانية دائرة القمع والاستبداد حيث تظهر تجلياتها وينتجها مثقفو المجتمع المدنى الذين يؤمنون ضمناً بالدولة المدنية او القومية , ويرون فيه الفضاء الطبيعى لانشطتهم وافكارهم ومن ثم يرفضون الدولة الدينية بوصفها دولة قائمة على التعصب الذى يقضى على مبدأ المواطنة المقترنة بالعدالة والمساواة والحرية المقترنة بالتعددية الفكرية والسياسية , ولكن هذه الممارسات فى مواجهتها استبداد الدولة المدنية ذا التاريخ الطويل , واذا كان هذا العنف ينعكس على اجساد المختلفين معه الذين يقعون فى براثنه ولا يستطيعون فكاكا من دوائر قمعه المادى, فاذا هذا العنف ينعكس بما يشبه الالية نفسها على عقول مثقفين الذين يكتوون به على نحو مباشر او غير مباشر, فيعيدون انتاج الاستبداد كما تعيد المراّة توجيه الاشعاع الواقع عليها , فيمارسون بدورهم الاستبداد على انفسهم والنتيجة هى ايضا غلبة الاستبداد والعنف المؤدلج بالثقافة وشيوع النزوع الى تصلب الرأى الذى سرعان ما يتحول بدوره الى اصولية مدنية,
ونتيجة لتجذر هذه الثقافة فى الوعى الجمعى لدى مجتمعاتنا العربية الاسلامية , حتى لا وعى اولئك الذين يثورون على الاستبداد حاملين معهم من غير ان ينتبهوا بذرة حضوره الجمعى وعنصره التكوينى الفاعل فى الوعى المجاوز للفرد وفى تقديرى ان هذه الطبائع من منظور مواز هى السبب فى الاذدواجية التى لا نزال نلاحظها , الى اليوم, بين الشعارات الثقافية المعلنة والممارسات الفعلية المناقضة , وبين المبدأ فى قبول حق الاختلاف ومبدأ الواقع الذى ينقض مبدأ الرغبة ويحارب امكان تحققه, وقس على ذلك دعاوى القومى الذى يهدف الى الوحدة الشاملة لكن شريطة الا تكون وحدة التنوع التى تسمح بالاختلاف والحوار الذى يغنيها وقس على ذلك دعاوى الماركسية الذى يتحدث عن جبهة ثقافية تضم الفصائل الوطنية على اختلاف توجهاتها والذى يرمى غيره بالتبعية الثقافية للاخر (الاجنبى المعادى) ومن ثم العمالة والخيانة للمبادىء الوطنية وثالثا المثقف اللامنتمى سياسيا (ظاهريا على الاقل ) الذى يعلن دوما اهمية الاختلاف والحوار فاذا اختلف مع احد , او اختلف معه غيره , يندفع الى الاتهام والتجريح وممارسة العنف الخطابى الذى يعتبر ضربا من ضروب القمع والاستبداد المعنوى , وقس على ذلك الاستاذ الجامعى الذى يتظاهر بايمانه بديموقراطية الحوار متباهيا بذلك امام طلابه ومع ذلك يشكك فى كل اجتهاد غير اجتهاده, ولا يقبل الاختلاف مع طلابه , رافضا ان يتيح لنفسه امكان الحوار الخلاق مع زملائه .
ان دولة القهر و الاستبداد التى استمدت بعضا من مشروعيتها من ثقافاتنا المتوارثة سواءا الموروث الدينى او المدنى , عشائرى ابوى مستحكم , افرزت ما يعرف بثقافة التخلف , التى هى جزءا من مفرداتنا اليومية سواء فى تعاملنا مع المرأة مع الاخر المختلف معنا تعامل الكبير مع الصغير المدرس مع طلابه الزوج مع زوجته الاخ مع شقيقاته حتى وان كنَ يكبرنه سنا , والكثير من السلوك والممارسات الحياتية اليومية بما اصبح منظومة سلوكية يصعب الخروج عليها وهى فى الاساس معظمعها لا تتماشى مع هذا العصر المنفتح على ثقافات اخرى تختلف مع موروثاتنا وعاداتنا والتى يعتبر جلها غير ديموقراطية حسب المفهوم الحديث ولا تعترف بالاخر , اذا نحن امام معضلة كبرى تتمثل فى الموائمة بين موروثنا الثقافى وما استحدث من ثقافات انسانية اسهمت بدور كبير فى تأجيج المشاعر نحو التغيير الذى لا يكون بالضرورة تغيير نظام بنظام او شخص باخر , انما نحن بصدد احداث تغيير جذرى يتطلب بالضرورة لجهد خلاق وخارق فى الان ذاته حتى نكون قد وصلنا الى شواطىء الديموقراطية التى نتعامل بمتطلباته ككل واحد لا يتجزأ اذا لا يمكننا ان نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه فكم من ثورة اطاحت بنظام فى دولنا وكم انتفاضات انتصرت على انظمة الظلم والاستبداد ولكن اعادت انتاجه من جديد وهنالك عدد من الشواهد والسوابق لكننى اعود اكررمقولة الاعلامى والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عندما حدثت ثورة اكتوبر فى السودان ( ثم ماذا بعد هذا ).
عبدالكريم ارباب محمد
الامين العام لحركة التحرير والعدالة
مكتب القاهرة
|