في نقد الرواية الجنوبية، والشماليه ايضا، لقصة الانفصال
( ترجمة لورقه قدمت باللغة الانجليزيه في ندوة مشتركه مع ناشط جنوبي واكاديميين بريطانيين )
عبد العزيز حسين الصاوي
بالنسبة لمعظم المراقبين الانفصال هو النتيجة الحتميه لاستفتاء التاسع من يناير القادم. وبما ان السياق التاريخي للاستفتاء سيحدد مستقبل العلاقات بين الدولتين سأحاول هنا تقديم وجهة نظر مختلفه قليلا او كثيرا من تلك المقبولة بصورة عامه لهذا السياق والتي يمكن تلخيصها بالجملة التي اشتهرت لصدورها عن الزعيم السوداني الجنوبي المخضرم أبل الير عنوانا لكتابه الذائع الصيت " الوعود لم تحترم " Too Many Promises Broken . علي انه قبل التصدي لبعض جوانب هذه الرؤيه التي يقبلها كثير من الشماليين ايضا، أود تقرير الاتي : في تقديري الشخصي وحدة السودان ليست امرا مقدسا . في عصر سيادة قيم الديموقراطيه وحقوق الانسان هذا، إرادة شعب الجنوب الحقيقية في اقامة دولته المستقله ينبغي احترامها. غير انه، مع قبولي للخاصية الرئيسية للرؤية الجنوبيه وهي ان مسئولية الشمال في الانفصال اكبر من مسئولية الجنوب، فأن بعض جوانبها قابلة للتشكيك او ،علي الاقل، خاضعة لتفسير مختلف. من اهم هذه الجوانب الحقيقة المعروفة من ان السياسيين الشماليين فشلوا في الوفاء بعهد قطعوه للقيادات الجنوبية بالنظر في مطلب الفيدرالية، وذلك لتأمين أعلان الاستقلال من داخل البرلمان بدلا من الاستفتاء كما كان مقررا في اتفاقية الحكم الذاتي. هذا الاخلال بالوعد يؤخذ كدليل علي ان القادة الشمالين غير جديرين بالثقه ولايهتمون بمصالح الجنوب . ولكن من الممكن ايضا تفسير ذلك بأن هؤلاء القاده لم يكونوا حينئذ في وضع من ناحية مستوي الوعي العام يسمح لهم بأدراك ان الفيدراليه لم تكن مناقضة للوحدة الوطنيه. بجانب ذلك الوحدة الوطنية كانت بقرة مقدسة بالنسبة لهم وبالنسبة للرأي العام الشمالي عموما إذ لابد من الانتباه الي ان الشعار الرئيسي لحركة الاستقلال الوطني " No Separation For One Nation " كان انعكاسا لوجهة نظر سائده في كافة حركات التحرر الافريقية والاسيويه ضد الاستعمار البريطاني مؤداها ان السلاح الكولونيالي الرئيسي هو " فرق تسد ". علي هذا فأن الشعار لم يكن اطلاقا انعكاسا لمخطط شمالي للسيطرة علي الجنوب .
في واقع الامر ان هذا الانشغال الكلي بهدف الاستقلال وبأحباط المحاولات البريطانيه للتحايل عليه، يلقي ضوء مختلفا علي اتهام جنوبي اخطر كثيرا ضد الشمال وهو التعريب والاسلمه. من الحقائق ذات الصله بهذا الخصوص انه حتي الوزير السوداني المسئول عن التعليم في إدارة أقامها البريطانيون قبل الاستقلال وعارضتها الحركة الوطنية بشده ( عبد الرحمن علي طه والمجلس الاستشاري ) كان مؤيدا لاستخدام اللغة العربية في التعليم الجنوبي بعكس الرأي والسياسات البريطانيه. هذا الاجماع الشمالي يؤكد ان العروبه بمتعلقاتها الاسلاميه كانت تستخدم كسلاح للتحرير الوطني في وقت لم تكن فيه قضية التنوع الاثني والديني والثقافي مطروحة علي الصعيد العالمي بينما لم يكن مستوي الوعي والمعارف الشماليه يسمح بالتوصل الي صياغة رؤية انسانية ومستنيره بناءة وطنيا للهوية العربية والاسلاميه. هذا لاينفي وجود نظرة استعلائية شماليه تجاه الثقافات الجنوبيه ولكن يجب الانتباه الي أن مثل هذه النظره منتشرة في كل العالم حتي في الجنوب نفسه وان انعكاسها في السياسات الرسمية يتوقف علي ما إذا كانت الحكومة المعنية ديموقراطية ام غير ذلك.
منذ أفول المعسكر الاشتراكي خاصة، ينعقد الاجماع علي ان التنمية المتوازيه ،العدل الاجتماعي، الاعتراف بالتنوع وتفويض السلطات المركزيه الخ.. الخ.. مرتبط عضويا بالحكم الديموقراطي. من هنا فأن إمكانية تصحيح تلك الاخطاء الشمالية المبكره وخلفيتها التحتيه كان رهينا باستمرار النظام البرلماني الموروث من الحكم البريطاني. ولكن للاسف هذا مالم يحدث وفي هذا يكمن أفول وحدة السودان الوطنيه المتمثل في الانفصال الوشيك وايضا القدر الاكبر من المسئولية الذي يتحمله الشمال في ذلك. لقد كانت النخبة الشماليه مؤهلة بمستوي افضل من الجنوبيه للقيام بتلك المهمة ولكن الواقع ، كما نعلم الان، أنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا ونتج عن ذلك ان السودان ظل محكوما بنظم شمولية طيلة حياته المستقلة تقريبا. التفسير الذي اقترحه لهذا الفشل هو التالي : ان الديموقراطيه كعقليه وثقافه مفهوم غريب علي السياقات غير الاوروبيه لانها اساسا نتاج عصر التنوير خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. لذلك كان من المتعين في اقطار مثل السودان استزراعها من خلال عملية تحديث تبدأ عادة مع العلاقة الاستعمارية نفسها. الكتلة التاريخية التي تقودها النخب المتعلمه وتتكون من مختلف المجموعات السكانية المرتبطة بالقطاعات الاقتصادية الحديثه، هي محرك التغيير والتطور. هذه العملية بدأت مفتتح القرن العشرين تقريبا ولكنها لم تتطور بسلاسه لانها كانت تحدث خلال فترة سيادة مشاعر عدائية حادة تجاه الغرب وظهور الفكر الاشتراكي وأنظمته التي وعدت، وأوفت الي حد أو اخر، بدعم حركات التحرر الوطني والتركيز علي مصالح الفئات المحرومة اجتماعيا فانحازت الاقسام المتقدمه من النخب الي هذا النموذج الذي كان يفتقر الي المقومات الديموقراطيه. هذا الانحياز ، بالاضافة الي غياب السياق التاريخي الاوروبي للديموقراطيه، كان معناه هشاشة ارضية النظام البرلماني وهو مابرهن عليه ظهور الدكتاتورية الاولي في تاريخ السودان عام 58 ، بعد عامين فقط من الاستقلال وتأسس بعد ذلك نمط معين : كل بضع سنوات تظهر دكتاتورية اطول عمرا واكثر قدرة علي تعطيل تطور البلاد في كافة جوانب الحياه. ولكن في رأيي ان اخطر مترتبات هذه السلسله من الانظمة الدكتاتوريه هو تدهور الوزن النوعي للقوي الحديثه. المظهر الاوضح لهذه الحقيقه هو ان المدينة السودانيه والنظام التعليمي اصبحا حاضنتين لاكثر صيغ الاسلام ومتعلقاته العروبيه رجعية في ظل النظام الحالي الاكثر شموليه من سابقيه. رد الفعل الجنوبي كان طبيعيا ومتوقعا : انهيار كامل للثقة في الشمال لدرجة انه حتي اتفاقية نايفاشا لم تنجح في استعادتها. السؤال هو لماذا تعذر تغيير اتجاه عملية تدهور الوزن النوعي للقوي الحديثه؟ هنا تكمن المسئولية الكبري للنخب الشمالية المعارضه، بنصيب متزايد للنخب الجنوبيه مع ازدياد عددها. كعب أخيل الجهود المخلصة والكبيرة للنخب الشماليه ضد الانظمة الشموليه هو فشلها في تشخيص السبب الحقيقي لفشل الديموقراطيه في السودان وتاليا كيفية استئناف عملية استزراعها في السياق المحلي. وبما أن الوقت المتاح هنا لايسمح بالدخول في هذا الجانب من الموضوع يكفي القول أن النخبة الجنوبيه ستتمكن من بناء دوله تستجيب لتطلعات وامال شعبها ، مع الاحتفاظ بأفضل العلاقات مع مواطنيهم السابقين، اذا فكروا في مسئولية الشماليين عن الانفصال تحت هذا الضوء المختلف عن التفسيرات السائده. لسوء الحظ فأن ظواهر الامور تدل علي ان الشمال سيظل تحت سلطة النظام الحالي لفترة طويله مما سيجعل هذه المهمه اكثر صعوبة مما هي عليه.
( عن جريدة الصحافه )
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة