Date: Mon, 10 Jan 2011 12:37:08 +0000
حىً ووووب.......
دعوة لإرتداء الحداد
هادية حسب الله
[email protected]
طعم مالح يملأ حلقى.. لملمت نفسى على نفسى .. هبات باردة تؤرجحنى بين النعاس وبين الصحو..ترتعد أطرافى القصية فجسدى صار بعيداً أنظره بخوف... أأنت جسدى ؟! تتماهى لدي الوجوه فى جسد ينظرنى وأنظره برعب متواطىء..برزت "مريم اسحاق" باسمة.. رصاصة سوداء خلف "مسيرتها" ناوشت تعابير وجهها الجميل فطافت به حيرة مرتعبة .. لقد خَرَجَت ذلك الصباح تمني نفسها "بسعفات" يصنعن "طبقاً" تبيعه بسوق نيالا. رفيقاتها الستة كن أكثر خوفاً فأسلمن الجسد للمغتصبين..خوفها على رضيعها : "قد يلوثون الثدى..قد يقتلونه!" رفضها لذل الاغتصاب جعلها تركض فأوقفت شوقها للرضيع رصاصة قاتلة..سال الدم على ثوبها المهترىء..على سنواتها الثمانية عشر.. تمددت بقعة لبن بيضاء مشتاقة لرشف رضيعها ..وردة لبنها اختلطت بدمها.. اقتربت روحي من جسدينا..امتدت أصابع روحي تبعد عنها رعباً بعيداً انعقد بين الحاجبين..تبسمت .. أهدتنى ورداتها.. لبناً ودماً ..تنهدت روحي .. همست لجسدينا : حىّ ووب..
"قُتلت مريم اسحق واُغتصبت ست اخريات تتراوح اعمارهن ما بين 15 الى 25 عاما من معسكر عطاش بجنوب دارفور 1 يناير 2011 على يد القوات النظامية بقرب معسكر عطاش (راديو دبنقا ـــــــــ حريات).
جسدانا يناجيان السهر.. تتناوش الرأس أوجاع كثيفة.. تخترق اليد سهام ألم عميق.. ليست كسور اليد ماتوجع جسدانا.. مدت روحي كفها للوجه الممدد بيننا ..إنها مريم أخرى.. يتجاسر الجسد ويتقدم الحشد مجادلاً من لا يملكون سوى العصي وخوفهم..تطاول جسد "مريم الصادق" الشجاعة.. رأوا الجسد فارعاً .. تقازموا تحته بخوفهم وضآلتهم .. امتدت عصيهم المرعوبة.. هشموا العظام يرغبون سلب الروح .. تحلق مساءً أطفالها حولها مرتعبين طمأنتهم.. مدت يدها السليمة واحتضنتهم.. همست روحي لجسدينا: حىّ وووب.
من تحت الغطاء خرجت الأقدام.. لملمتها.. لكنها أصرت ان تظل هناك وحيدة ترتجف خوفاً.. بالأرض الترابية تتعفر تتلوى والسوط ينهش فيها .. من كل الجسد يشع الألم لامعاً كنصل يخترق ثنايا الجسد..فى الوجه..فى الصدر..في كل موضع .. صوت الذل الباكى "وآآى يا أمى" رددت روحى لجسدينا.: حىّ وووب.
يركض جسدانا وتركض من خلفه انفاسي اللاهثة.. يلملم الجسد الأواني المبعثرة .. واليد تقبض على ثمن بخس لبيع أثاث عزيز على القلب.. تحت كل حجر ذكرى ما.. يتجول الجسد وسط الأزقة مودّعاً تراب الشوارع الضيقة.. الحوائط الطينية وقفت مشدوهة حزناً ..ياحليلك..ياحليلك ياميرى .. امتدت روحي تحتضن جسدينا مولولة...حىّ وووب.
هَتَفَت أصواتنا الراعفة بروحي وأجساد وأرواح النساء التى اندغمت بي. ووسط ولولاتنا لمحت بخيتة الحفيان ودمها الساخن تناوشنى به .. أهرب منها .. فتمسك بي .. تلطخ عيونى بدمها .. هل تبصرينى الآن؟ قالت .. ثقبت زغرودة مهيرة أذنى، فالتفت عنها؛ فواصلت زغاريدها .. لا انه نواح ..بل عويل .. بادلتها العازة زوجة على عبد اللطيف ووالدتها الزغاريد الباكية.. لامست قدمى قدماً خشنة مثل الشوك.. الجروح والدمامل بقدم رابحة الكنانية جعلتنى أقشعر .. ضربتنى برفق بسبحتها التفت اليها باكية الشيخة أمونة بت عبود ..قبلتنى بخدىّ وقالت لى أبكى.. بكت بقربها كل الرائدات المباهيات بوجوههن "البرزة " وأيديهن الخالية من الأساور لأنهن تبرعن بها للإتحاد النسائى.. كل اللاتى خرجن للفضاء العام ..معلمات ..ممرضات ..طبيبات وموظفات..اعلاميات ومهنيات.. وسط الثياب البيضاء ..جلست أبكى...
لقد ظلت النساء السودانيات مشاركات وفاعلات فى كل حراك وطنى فى السودان، لم تصرفهن همومهن الخاصة عن هموم الوطن الكبيرة .. وظللن يدفعن بلا تردد كلفة الخروج للمجال العام وهن راضيات قانعات.. يتعرضن لجارح القول والفعل ولكنهن لا ييأسن.. ولقد ذكرت الأستاذة فاطمة احمد ابراهيم ان عامل المطبعة التى كن يطبعن بها مجلة "صوت المرأة" رآهن فانتهرهن قائلاً: ربنا يدينا ويديكم" ظناً منه انهن متسولات ففى ذلك الوقت لم تكن تخرج للشارع الا المتسولات..حكت لى أستاذتى نفيسة احمد الأمين انهن كن يذهبن لمبنى الاذاعة الصغير وهن برفقة أخ الرائدة "عزيزة مكى" فلم يكن مسموحاً لهن بذلك الوقت ان يخرجن لوحدهن!.كشفن البلامة وأشرق الضوء المخبوء من الإنحياز العالي للوطن وشعبه.. تحدثن وهتفن ..ونلن الكثير من حقوق المرأة وهن مقاتلات شرسات..مستبشرات ومتطلعات للوعد ..أيتها المدرسات والممرضات والموظفات: مزيداً من الثقة بأنفسكن وبقوتكن ومزيدأ من الكفاح من أجل حقوقكن المهضومة كحق الأجر المتساوي. ولا شك أنكن منتصرات. صوت المرأة - مارس 1962 شكيت حزنى وأحباطى لإحداهن، الرائدة حاجة كاشف وجادلتها بأننا الأكثر حزناً لأنكن قمتم بماهو بإمكانكن أما نحن فلم نستطيع فعل شىء فقالت لى: أنتن تحزن لأن المستقبل والحاضر ليس كما ترغبون ونحن نحزن لأننا أهدرنا العمر نحلم ونعمل لوطن تشظى ولن يسعفنا العمر لنعمل لأجله من جديد ..فأينا أكثر حزناً!!
أننا كنساء لم ندخر جهداً طوال العشرين عاماً المشؤومة واستطعنا ان نتوحد لنكن حافظات للحياة فدعمنا السلام وكنا الأكثر حرصاً عليه.. وظللنا نعمل لوقف الذل والهوان المنظم الذى يمارس علينا.. وظلت نساء السودان هن نسمات الهواء العليلة وسط اختناقات الغلاء الفاحش والعطالة المهينة للرجال..فخرجن للعمل بلا تردد وكن العون بل المعيل لملايين الأسر..ومثلما قاتلن فى الميدان وبذات الصدق والعاطفة الجياشة قاتلن خلف لقمة العيش.. ظلت سياط المهانة المادية والحسية تلاحق ظهورهن الهزيلة الا انها لم تركعهن.
أخواتى فى الهم اننا الآن مطالبات بالإنتماء حقاً لتاريخ الحركة النسوية المشرق والذى بذلت فيه التضحيات الكبيرة .. وليس صدفة أن تفجر أحاديث التشدد وهجمة التخويف التى إنطلقت بالقضارف كانت رد فعل على تحرك نسوى "الحشد النسوى الرافض لقانون النظام العام والقوانين المهينة للمرأة" لذا فاننا قادرات على فعل الكثير. على الأقل لا ينبغى لحياتنا اليومية أن تسير كالمعتاد ووطننا يتشظى. لقد تحملنا الإغتصاب والتقتيل والإذلال ولكننا لن نحتمل بتر جزء عزيز من وطننا دون أن نرفع الصوت على الأقل بالعويل.. مالذى سنحكيه لأطفالنا عن هذه المحنة..؟!
شخصياً أشعر بالخجل .. لذا فكرت ان أرتدى الحداد "الثوب الأبيض" الى ان تنقشع ظلمتنا .. وأدعو جميع نساء السودان ذوات الضمير اليقظ..المستشعرات لمسئولية التاريخ..الإنضمام لحداد جماعى يؤكد شعورنا بالألم لمايحدث ببلادنا..ويقدم الدليل على إنشغالنا بالهم العام والتزامنا تجاه تضحيات كل الشهيدات والرائدات اللاتى بذلن حياتهن ليصنعن لنا وطناً موحداً تحلم نسائه بالحرية.. قد تضىء ثيابنا البيضاء رغم حزنها الدرب فى ظلام أيامنا السوداء هذى.. وان لم تفعل على الأقل سنقول لأطفالنا لقد حزنا وبكينا وإرتفع نشيجنا "وطلقنا الحىّ ووب".. لم نكن نهتم لجمالنا ومظهرنا وبلادنا تتفتت..كنا "حادات" غاضبات..فلنرتدى الحداد منذ يوم التاسع من يناير الحزين. ولنجعله شهر حزن لتعرف أخواتنا الجنوبيات وكل بلادنا أننا مفجوعات لهذا الفراق المرّ.. وأن الخرطوم ليست ملكاً للافتات "منبر الحرب الظالم" المبتهجة ببتر الوطن. وإن للخرطوم ونسائها ضمير يقظ ونفس تعاف" التقطيع"..تقطيع الأيدى والرؤوس وتقطيع الأوطان.
فى لحظة الكرب الذميم
ينبعث زمر الزغاريد التى صدحت بها أخواتنا
فتوسخت قدم الكفاح على لهيب المعركة
الدم يرخص.. والرئات لتنشوى
لن تنثنى خطواتنا المتشابكة
"محمد المكى ابراهيم فى وصفه لندية مشاركة النساء فى ثورة أكتوبر".
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة