أذكر أنني سألت أبي و أنا في العاشرة من عمري وقد كنت أسمع بقية من أناشيد وخطب القوميين العرب عن فلسطين و حروبها ومآسيها : "أين كنتم –وكان الناس من العرب والمسلمين – عندما أرنكبت اسرائيل هذه المذابح ضد الفلسطينيين ؟ لا أذكر اجابته بالضبط ولكني أذكر ذلك السؤال كلما رأيت موقفا لم أحرك فيه ساكنا ووقفت فيه الأمة كلها موقف المتفرج.ذكرت ذلك وأنا أشهد نذر الإنفصال المحقق الذي قلما رأيت جنوبيا أو شماليا إلا وهو يتمني حدوثه.لقد يئس الجانبان من بعضهما ,ولو صار الامر بيد الشماليين ما كانوا أقل ميلا من "اخوتهم" بالجنوب اندفاعا نحو الانفصال وتصويتا له . أعرف هذه اللحظة المشحونة بالعاطفة والانفعال .سقطت الوحدة من القلوب وبقي أن تسقط علي الورق والخريطة ,وهذا أمر سهل .سيكتب التاريخ عن كل ذلك ولا شك.ولكن ما سيفشل التاريخ عن كتابته كما عودنا هذه العواطف المشحونة التي لا تكاد تترك لعقولنا لحظة تفكير في العواقب والنتائج . من منا لا يلوم الشريف الحسين وهو يحارب العثمانيين الأتراك بوعد من البريطانيين والفرنسيين بدولة عربية كبري لم تر النور أبدا وخدع الرجل بعد طعن تركيا الخلافة المترنحة في ظهرها في الحرب العالمية الأولي تقاسم الأوربيون ب"سايسكس بيكو" مناطق دولته التي طالما حلم بها..انسحب الأتراك مسرعين من فلسطين التي دخلتها الجيوش البريطانية دون قتال والعرب يحلمون بدولتهم بعد الحرب العالمية..من كان ليصدق هذه لحماقة الظاهرة؟ ألم أخبركم ؟ لقد فشل التاريخ في تصوير العاطفة المسماة ب"القومية" والحلم بالوحدة العربية.لقد كان الحلم دافعا للثورة العربية الكبري كما سميت.هي لحظة من السكر لا يدري فيها السكران ماذا قال أو فعل .لذا لا تتسرع في اللوم فمثل هذه القضية عشرات بل مئات القضايا التي حدثت في تاريخنا منذ الفتنة الكبري و أضاعت أمجادا وممالك وأورثت دهشة لقارئئ التاريخ لا بفهمها الا من تصور لحظة الانتشاء التي غيبت عقول الأوائل.
اذا فهمت قصدي هذا فانني لن أطيل في ضرب الأمثلة من التاريخ القديم والحديث و انما سوف اذكر لك حالة من الأنتشاء دخل فيها جزء من الأمة ولم يخرج حتي تم الخراب و لننتظر أن يكتب التاريخ ليأتي دور الدهشة لاحقا من أجيالنا القادمة. لن أذكر لك من تاريخ الأمويين والعباسيين وحروب الأندلس ومؤمرات فلسطين.دعني أدلف الي جنوب السودان الذي ذكرت لك أن المسلمين في الشمال دخلوا في الحالة المعهودة ولن يستيقظوا منها قريبا .المسلمون في العالم متألمين كما تألمنا لانفصال "تيمور الشرقية" من أندونسيا ولعل مواطني أندويسيا الآن يردون لنا جميل الدين بالتألم والقلق بدلا عنا حتي يكتب الله لنا خروجا من غياب العقل وسكره.لا أقول هذا لانني من دعاة الوحدة أو الانفصال..لا أقول هذا من باب رمي قومي بالغباء أو الغفلة..لكن موضوع الانفصال يجري علي الهوي والعاطفة ولم يبحث قط. أقرته الحكومة المرهقة من عنت الحروب والمقاطعة لعقد من الزمان منذ انقلاب الحركة الاسلامية أوائل التسعينات وهي التي جاءت بمبدا الحسم العسكري واعادة تشكيل الشعب السوداني فحوربت كما لم تحارب حركة من قبل الي أن أضطرتها الحروب الي السلام بأي ثمن يجعل لها جزء من الأرض تحكمه مهما كان الثمن .ولا يهم لو كانت التجزئة ثمنا فقد جاءوا بأناس- بالكاد- يفكون الخط ليس من بينهم علم ممن يقرأون التأريخ ويستشرفون المستقبل ودعموهم لكي يشغوا الناس وينسوهم عناء الانفصال وضياع الناس والأرض بالدعوة الي نقاء الدولة الشمالية عنصرا ودينا يمكننا أخيرا من وضع الدستور الاسلامي ( وهو في بلادي نظير العنقاء والخل الوفي لم يره ولا أحسب أن يراه أحد) . ظاهرة "منبر السلام العادل" الذي كونته ثلة شمالية محسوبة علي الحزب الحاكم أشبه عملها عمل الجوقة من التطبيل واثارة الفوضي. كانت قصة سيئة التأليف لأناس لم يحسنوا في البناء ولا أحسنوا الهدم . كانوا ثلة غريبة من البشر عمدوا الي تذكير الناس دائما بخلافاتهم العرقية واللغوية والدينية والتبشير باستحالة العيش بين مكونات الشعبين الشمالي والجنوبي .عمدوا دائما الي اثارة المعارك حول قضايا عرقية نازية وحاولت تدثيرها بالاسلام .مع كل ما فعله المؤتمر الحاكم في السودان الا أنه لم يتجرأ قط علي تبني مثل هذا الخطاب فاختار له من يثيره وحسبك أن تكون أدني منزلة "أخلاقية" من حكامك الظلمة.خطورة هؤلاء أنهم سيصمتون بعد الانفصال ولا شك.وسينعمون بالبلد ذي النقاء العرقي والديني "مع ما أخذوا ثمنا لنضالهم وتبشيرهم بوطن التجانس العربي والشريعة الغراء" ولكنهم سوف يعودون ما أن يطالب بعض الأقاليم الطرفية – غير العربية- بالانفصال أو بوضع ثقافي أو مشاركة أفضل في السلطة .سيحتفظ هؤلاء بأدبياتهم وأناشيدهم وقلوبهم السوداء وسيكونون تحت الطلب لـتأديب الغرب أو جنوب الشمال أو الشرق.سيكونون مثل بشار بن برد في بغداد أو الحطيئة في المدينة وهما يسترزقان من لسانهما المر وهجائهما المدقع. وقد يحترف هؤلاء العمل ويستقلوا من عباءة الحزب الحاكم ويصبحوا تحت الطلب لتأديب أعداء من يدفع أكثر ولو انقلبوا علي العرب أنفسهم .ولربما لجأوا الي قليل من العالمية وعرضوا بعض الكلام العنصري علي من يشتري في بلاد مسلمة تعج بالأعراق وتضج بالثقافات . ولو لم يكن ذلك لكانت براءة الاختراع مبذولة للتسجيل في مصر أو لبنان أو غيرها من بلاد الله. هم بلا شك من سيفرح أكثر ويطالب الناس بالتعبير عن فرحهم صباح الانفصال وليس هذا نصرا في التذكير بالعصبية فصبي صغير أرسله شيخ يهودي نجح في اثارة الأوس والخزرج في أبيات أنشدها عن يوم بعاث.
جاء الإنفصال دون أن يجلس له من أبناء البلاد من علمائها وأساتذتها من يدرسون أثاره ويخبرونا .انما هم الحكام الذين جري عليهم حكم القدر أن يحكموا حتي الموت وأحزاب عريقة في المعارضة أصبحت كالمللك الضليل تطرق كل باب لم يترك لها الترحال والسفر والتضييق فترة لتلاحق الانفاس والتكير والسعي بين الاصلاح بين الناس. أما التيارات الاسلامية فهي لا تكاد تبين .ما زالت عقدة اسلاميي السودان التي لم يخرجوا منها قط أنهم لا يرون لأنفسهم رأيا في قضية مصيرية الا وسقفها رأي المؤتمر الحاكم. الخير ما اختاره و البركة مشيئته .طبعا لم يجدوا طاقة للمعارضة والسلطة تداعبهم بتطبيق الشريعة "الصارمة" بعد ذهاب الجنوب واعتبار العربية لغة رسمية وحيدة.يكفي طرافة أن تعلم أن أكثر الاسلاميين تطرفا وهم "السلفيون الجهاديون!" خرجوا في مظاهرة تطالب بالشريعة بعد الانفصال وتحرم الانفصال لأنها أرض اسلامية. فتوي صغيرة سمح بها الحاكم لكي يريحوا ضمائرهم ويعذروا أمام ربهم بالانكار باللسان ولا ضير من كل ذلك .وهم بالطبع لا يفتأون يذكروننا بأن تجزئة بلاد الاسلام هي مخطط يهودي صليبي.لكن الكل في السودان راض عن الانفصال! واذا كانت هذه مشيئة أعدائتا الذين لا يخفون خططهم عنا بتقسيم بلادنا وتفتيتها فلله درهم كيف خففوا عنا وطء انتصارهم فجاءت مشيئتهم ونحن فرحون مرتاحون علنا نخرج ابتهاجا صباح الانفصال كأننا من خطط وقرر .لله درهم هؤلاء من بني الأصفر وأنا أتخيل الشريف الحسين الذي خذلوه وهو لم يشعر بالمرارة قط .بل عاش ومات فرحا جزلا وقد جعل لابنائه مملكة ما زالت تحكم ولو أسقطت ثورته الخلافة وسلمت لهم مصر والشام . لكنه عاش فرحا ولا بأس لو تنكد قليلا وهو يقرأ التاريخ من قبره.
ومع الحسين كان هناك ضابط الاستخبارات الانجليزي الذي أحبه ووثق به.قد يكون لورانس أو سواه .لكن في نهاية كل معركة خاسرة يذكر التأرخ عندنا من البطانة من زين للحاكم وأقنعه وجمل له الفكرة و..الخ. هل كان لورانس ؟ ما يشغل تفكيري الأن هو من بطل فكرة الانفصال الذي سوف يذكره التأريخ أنه عميل العداء الذي وثقنا به .هل هو شقيق الرئيس؟ هل هو مساعده؟ هو هو رجل من رجال الدين حوله؟ من فيكم العميل أخبروني قبل أن تمر السنون وتكتب المذكرات وتفضح ارشيف المخابرات .من سوف يضحك الضحكة المجلجلة صباح الاستفتاء وهو يستغرب كيف سار المخطط فينا سهلا ويسيرا وغير مكلف البتة وهو يفتح البرقية التالية للمهمة التالية بعد النجاح الرهيب في مهمته الأولي.سنكون صباحها أيضا مبتهجين.شمالا وجنوبا والكل مسرور.مسرورون ليوم وسنة وعقد ربما .لكن سيأتي الجيل بعدنا ويستغرب غفلتنا المرة ودقتنا الشديدة في تنفيذ مخططات الأعداء.هذا لأن التأريخ به عيب كبير.إنه يفشل في وصف عواطفنا وحماستنا .ونحن في النهاية بشر.اطلاعنا علي التاريخ وثورة المعلومات وتسريبات أسرار القوم لن تغيرنا عن أن نكون كجدنا الحسين. طبعا هذا لو كان جدي عربيا كما سمعت من أهل السلام العادل.لذا كتبت هذه الخاطرة لكي يقرأها ابني فيعذرني من السؤال الرهيب :فيم كنتم تفكرون عندما ابتهجتم صباح الاستفتاء.هكذا كنت أفكر يا بني فلا تقس علي
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة