جوبا ..كشف الحسابات و المكاشفات والإعترافات !!
بقلم: عبد المعين الحاج جبر السيد
الاعتراف صراحة بلا مواربة أو مداورة , في لحظة تجليات نادرة , وفي ظل تصالح مع الذات , وائتلاف مع النفس , أمام العالمين , بأن فرض الوحدة بين الشمال والجنوب في السودان بالقوة , عبر فوهة البندقية , خيار فاشل , ومشروع خاسر , وفكرة بائدة, بل على العكس من ذلك تماما , إذ لاتولد هذه البضاعة البائرة , إلا مزيدا من جبال المظالم , وتلال الغبن والكراهية في النفوس .
ترى ألا تشكل هكذا لغة , التي حملت في طياتها درجة عالية من كشف الحساب , ووقفة لجرده سريعة وموجزة لما تحقق , بارقة أمل , وأساساً جديداً ومتيناُ , للغة تصالحيه هاديها الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنا وجدها أخذ بها , وقاعدتها " وقولوا للناس حسناً " , في لغة خطاب المؤتمر الوطني , ليس مع القوى المعارضة فحسب , بل ومع الحزب الحاكم نفسه , وهذا هو الأهم , لنقد الذات ,ومراجعة السياسات , من خلال وقفة صادقة وجادة مع النفس , للتقييم والتقويم , والمحاسبة بكل شفافية ولو في الغرف المغلقة , لإبدال المشروعات الفكرية التي ثبت فشلها وعقمها , خصوصاً بعد تجريب أدى إلى التخريب . ولم لا فها هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه , يعلنها داوية أمام خلق الله أجمعين " أخطأ عمر , وأصابت امرأة " في ما يتعلق بمسألة تحديد مهر الزواج . مؤسساً بهذا النهج الراشدي الفريد أول مدرسةً للشفافية في العالم لمن يأتي من بعده من المسلمين . ولكن هل تعلم المسلمون من هذه المدرسة العمرية العبقرية ؟ .
خطاب الرئيس البشير في جوبا , التي أضحت فيما يبدو مدينة لصناعة وتصدير الحرب والسلام في آن معاً , يشي بنفس جديد , وروح غير . اللغة (الناعمة ) التي هيمنت على مفاصل الخطاب الارتجالي , والنبرة الهادئة , واللغة التصالحية , شكلت محطة هامة , ومنعطفاً لافتاً في تاريخ الحزب الحاكم , مسترعياً بذلك انتباه الجميع حضوراً ومشاهدين , العبارات المترعة بالتسامح والتسامي فوق الجراح , ومرارات سنوات الحرب البغيضة والأليمة ,التي أكلت الأخضر واليابس ,وأزهقت أرواح الآلاف من الأبرياء , شيوخاُ, ونساءً وأطفالاً , ومثلهم ممن تشوهوا بعاهات مستديمة , وأكثر من أولئك وهؤلاء , تشردوا من ديارهم , حاملين أرواحهم على أكفهم هائمين على وجوههم , في أرض الله , يلتمسون النجاة , من طاحونة الحرب التي تدور رحاها "تدرش " الصغير والكبير , لاتفرق الآلة العمياء الخرساء , بين هذا أو ذاك .
قلب هذه الصفحة السوداء , الملطخة بالأشلاء ,ودماء الأبرياء , وطي ذكراها الكارثية الأليمة , ودفن بقايا آثارها المرعبة في جوبا , يذكرني بقصة ساحة تايم سكوار بنيويورك , التي نصب في جانب منها سلسلة مهملات عملاقة تستوعب مقذوفات الناس الذين يدونون على الورق مع بداية رأس كل سنة جديدة , الإخفاقات والخيبات , والفشل الذي تعرض له كل واحد منهم , خلال مسيرة العام الذي مضى ,ومن ثم رمي هذه القصاصات في السلة العملاقة , كنوع من التنفيس والخلاص من الماضي الأليم , وفتح نافذة أمل أخرى لدخول هواء جديد ونقي (مفلتر) , للتطهر من أدران الران العالق على القلوب , ولو بالخداع والتخدير الموضعي , لنسيان الماضي الحزين .
الاعتراف بالخطأ , فضيلة لا يتقنها إلا الكبار , ومزية لا يجرأ على قولها إلا الحكماء , خاصةً إذا صدرت من رئيس أوحاكم , وقليلٌ ماهم , خاصة في الدول النامية (النايمة ). فهاهي التربة الخصبة ممهدة ومهيأة الآن لغرس بذرة ثقافة الاعتراف , لنحصد سنبلة الوفاق والإتفاق على الأقل حول المشتركات من النقاط , بين الفرقاء , الأخوة / الأعداء شركاء الوطن , ضمانا لعدم هدر المال العام المسخر للحرب الإعلامية النارية والمكايدات السياسية ,والملاسنات والخناقات عبر الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت . للتفرغ للمعركة الحقيقية ألا وهي التنمية البشرية , لطالما ظلت القوى السياسية تتاجر بإسمه , وتتوسل برسمه , في المحافل العالمية , وهو أي المواطن لايجني إلا الشوك والحصرم , بينما يجني (المتسولون) , العنب والتفاح , والمركب الهنيء , وإقامة الأفراح والليالي الملاح .
من منا بلا خطيئة ؟ في قاموس دول العالم الثالث , ثقافة الاعتراف محرمة , والكلام عن الشفافية ,ضرب من الخبل و الجنون , أما حديث المكاشفة فهو الكفر البواح , ونحن لسنا استثناء , ومن شذ, شذ في النار, وجائزة الحكم الرشيد في أفريقيا , التي أسسها رجل الأعمال السوداني محمد فتحي إبراهيم , (5مليون دولار), التي تشكل رافعة لإعادة الثقة للأفارقة بأنفسهم , بتسليط الضوء على المخطئين والمقصرين والمصيبين والمحسنين من الرؤساء الأفارقة , لتعزيز مسيرة الديمقراطية , واحترام معايير الشفافية في حقوق الإنسان , والتعددية وإجراء الانتخابات النزيهة والحرة , في القارة السمراء , لا أحد يلتفت لها , ولولا فوز الرئيس الموزمبيقي السابق جوا كيم شيسانو بالجائزة , كدنا أن نقول لم ينجح أحد ! ألا يعد هذا حصاد الهشيم , وحالة معيبة ؟!
إذا كان ثمة حاجة عصرية إلى فقه الضرورة , فإن السودان اليوم بمسيس الحاجة إلى إشاعة فلسفة الاعتراف والتسامح في تناول الخطاب السياسي اليوم , لإنضاج الفعل المؤسسي , وإيقاف ميلودراما مسرحية (العبث ) , المستندة على التعبئة وتجييش المشاعر , وحشد الهتيفة , والكوراليات الموسيقية المصاحبة التي تصدح بالأناشيد العنترية . فالحماسة وكرب الزند , وتشمير الساعد ,محله ميدان العمل ,ومواقع الإنتاج , بيانا بالعمل , لاتهليلاً وتضليلا عن الواقع المرير المعاش , باستصحاب الشعارات البراقة , والحناجر المستأجرة , هذه الأدوات البدائية عفا عليها الزمن وتجاوزها , ليس لها محل في العصر الحديث , اللهم إلا في متاحف الآثار .! وعي المواطن المتنامي أبطل مفعول السحر والسحرة والحواة , اللاعبين على الحبال , والورقات التلاتة , لم يعد ثمة من يزيف الوعي والإرادة , والضحك على الذقون بالتطبيل والتزمير .
أما وقد عرف الجواب من عنوانه في الفصل الأخير من حكاية الدولة رقم 194الجديدة , حري بالسلطة الحاكمة مواصلة السير في خط مسار المراجعة والمحاسبة , وجرد حساب مسيرة أكثر من عشريناً عاماً ,بمزيد من الاعتراف بالأخطاء التي وقعت , وتجميد المشاريع الفكرية الفاشلة , ولتكن جوبا أولى محطات انطلاق قطار المكاشفات والاعترافات , لتسود اللغة (الناعمة ) , محل الخشنة (الشينة ) . إذا كان الحزب الحاكم قد وصل إلى قناعة راسخة مفادها , أن فرض الوحدة بالقوة قد فشل تماماً , بعد خراب سوبا , وهلاك الحرث والنسل , السؤال : لماذا لايستفاد من التجارب السابقة , اتفاقية نيفاشا 2005مثلاً التي مهدت الطريق إلى التحول الديمقراطي , وإجراء الانتخابات , والتداول السلمي للسلطة , بيد أن كتيبة المخذليين والمتنطعين والنفعيين المستنفذين , كالعادة يتمترسون خلف الستار المتوهم بضياع السلطة إلى الأبد , وسقوط العرش , إن تراخت القبضة الحديدية , هؤلاء يزينون الباطل حقاً , والحق باطلاً , بوضع العصي في الدواليب لإفشال أي محاولة لشرعنه الإصلاح السياسي داخل الحزب .
لغة الهدوء والتعقل مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى , خاصة أننا في مرحلة مفصلية من تاريخنا , فالتشنج والتشدد في رفض الآخر , وإقصائه من المشهد السياسي بكلمة واحدة , أوبجرة قلم ,لم يعد مقبولا بأي حال من الأحوال , بعد قطع هذا الشوط المشجع , أمامنا الآن معركة كبري وهي صياغة دستور دائم للسودان , الذي يفترض أن تشارك فيه كافة القوى السياسية السودانية بكل أطيافها دون استثناء أحد , وإشراك الجميع في حل مشكلة دارفور المأزومة , لكن الخوف كل الخوف من أصحاب المشاريع الإقصائية , الذين يطلقون توصيفات ماأنزل الله بها من سلطان , هي أبعد ماتكون عن أدبيات أهل وتقاليد وعرف السودان , من صب الشتائم واللعنات في كل اتجاه , مثل الشحاتين والسجمانين , الغريب أن هذه اللغة السوقة الوقحة والغبية صدرت من دبلوماسيين يفترض أنهم رسل سلام ومحبة , والله مسكينة الدبلوماسية تمشي لي ناس مابتقدر ولابتفكر.
[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة